مع كل ما سبق بيانه وتقريره، فلا بد أن يُعلم أيضاً أن ابن كلاب، والأشعري، وكبار أصحابه كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، ثم من بعدهم كأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفرائيني، لم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى التي في القرآن كالوجه، واليدين، والعينين، والاستواء، ونحوها، وإبطال قول من نفاها وتأولها، ولم يُنقل عنهم غير ذلك، وليس لهم فيها قولان، وهذه كتبهم موجودة، ليس فيها حرف من تأويلها أو ذكر القولين، ومن قال غير ذلك فقد وهم، وإنما أدخل هذا في مذهبه متأخروا الأشاعرة كأبي المعالي الجويني والرازي وأبي حامد ونحوهم.
قال أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ صاحب كتاب "اللوامع في الجمع بين الصحاح والجوامع" في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: (ورأيت هؤلاء الجهمية -يشير إلى متأخري الأشاعرة- ينتمون في نفي العرش، وتعطيل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه، وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بـ"الإبانة عن أصول الديانة" أدلة من جملة ما ذكر على إثبات الاستواء، وقال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا رغبوا إلى الله تعالى في الأمر النازل بهم، يقولون جميعاً: يا ساكن العرش) ثم قال: (ومن حَلِفِهم جميعاً قولهم: لا والذي احتجب بسبع سماوات) (1) اهـ.
وسبق أيضاً قول ابن درباس، والآلوسي في ذلك.
بل وسبق نقل نصوص الأشعري، وابن كلاب في إثبات هذه الصفات لله تعالى، وإبطال تأويلها، وأنا أنقل هنا بعض نصوص أئمة أصحابه في إثباتها، والمنع من تأويلها: نصوص أئمة أصحاب الأشعري في إثبات الصفات لله تعالى والمنع من تأويلها
وأنا أنقل هنا بعض نصوص أئمة أصحابه في إثباتها، والمنع من تأويلها
- أبو الحسن علي بن مهدي الطبري
قال الذهبي في "العلو" نقلاً عنه: قال الإمام أبو الحسن علي بن مهدي الطبري تلميذ الأشعري في كتاب "مشكل الآيات" له في باب قوله {الرحمن على العرش استوى} طه5: (اعلم أن الله في السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه، بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي، فالقديم جل جلاله عالٍ على عرشه، يدلك على أنه في السماء عال على عرشه قوله {أأمنتم من في السماء} الملك16،
وقوله {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} آل عمران55، وقوله {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر10، وقوله {ثم يعرج إليه} السجدة5.
وزعم البلخي أن استواء الله على العرش هو الاستيلاء عليه، مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق، أي استولى عليها، وقال: إن العرش يكون الملك، فيقال له: ما أنكرت أن يكون عرش الرحمن جسماً خلقه، وأمر ملائكته بحمله؟ قال {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} الحاقة17، وأمية يقول:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا
قال: مما يدل على أن الاستواء ههنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش، وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته، فبان بذلك فساد قوله.
ثم يقال له أيضاً: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان على كذا، أي استولى، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكناً، فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكناً لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء. ثم ذكر ما حدثه نفطويه عن داود بن علي عن ابن الأعرابي
(1) نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس (ص87 - 88) وابن درباس في "رسالة الذب عن أبي الحسن الأشعري" (ص111).
-وقد مر- ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله {أأمنتم من في السماء} الملك16؟ قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال {فسيحوا في الأرض} التوبة2، بمعنى: على الأرض، وقال {لأصلبنكم في جذوع النخل} طه71، فكذلك {أأمنتم من في السماء} الملك16. فإن قيل: فما تقولون في قوله {وهو الله في السموات وفي الأرض} الأنعام3؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في {السموات}، ثم يبتدىء {وفي الأرض يعلم} وكيفما كان فلو أن قائلاً قال: فلان بالشام والعراق ملك، لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما) إلى أن قال: (وإنما أمرنا الله برفع أيدينا قاصدين إليه برفعها نحو العرش الذي هو مستو عليه) (1) اهـ.
قلت: فانظر إلى حكايته عن المعتزلة القول بأن العرش: الملك، ثم انظر إلى ما قاله عبد القاهر البغدادي في الاستواء: (والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك) (2) اهـ.
وانظر أيضاً إبطاله لتفسير الملك بالاستيلاء والقهر، وجعل هذا من أقوال الجهمية، ثم انظر إلى ما قال أبو المعالي الجويني:
(1) أورده الذهبي في العلو (ص231) ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (2/ 335).
(2) أصول الدين (ص113).
(لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة) (1) اهـ.
- القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني
قال في كتاب "الإنصاف": (فنص تعالى على إثبات أسمائه وصفات ذاته، وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقال: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عز وجل: {بل يداه مبسوطتان} المائدة64، المائدة64،وقوله: {ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي} ص75، وأنهما ليستا جارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: {ولتصنع على عيني} طه39 و {تجري بأعيننا} القمر14، وأن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس) (2) اهـ.
وقال الذهبي في "العلو": (قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني الذي ليس في المتكلمين الأشعرية أفضل منه مطلقاً في كتاب "الإبانة" من تأليفه: فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهاً؟ قيل: قوله {ويبقى وجه ربك} الرحمن27، وقوله {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ص75، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً.
فإن قيل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إذ كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب في كل شيء كان قديماً بذاته أن يكون جوهراً، لأنا وإياكم لم نجد قديماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك.
وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضاً واعتلوا بالوجود. فإن قيل: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه فقال {الرحمن على العرش استوى} طه5، وقال {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر10، وقال {أأمنتم من في السماء} الملك16.
قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه وفي الحشوش، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، ويصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا ويميننا وشمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه، وتخطئة قائله. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضا.
(1) االإرشاد (ص40).
(2) الإنصاف (ص24).
وقال مثل هذا القول في كتاب "التمهيد" له.
وقال في كتاب "الذب عن أبي الحسن الأشعري" كذلك: قولنا في جميع المروي عن رسول الله في صفات الله إذا صح من إثبات اليدين والوجه والعينين، ونقول: إنه يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام، وإنه ينزل إلى السماء الدنيا كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه). إلى أن قال: (وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف، ولا تحديد، ولا تجنيس، ولا تصوير، كما روي عن الزهري وعن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا فقد تعدى وابتدع وضل.
قلت -أي الذهبي معلقاً-: فهذا النفس نفس هذا الإمام، وأين مثله في تبحره وذكائه وبصره بالملل والنحل، فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب، ونفي الصفات وردها، صم بكم غتم عجم، يدعون إلى العقل ولا يكونون على النقل) (1) اهـ.
وقد قال الذهبي في بيان التغير الذي طرأ على الأشعرية لما نقل كلام أبي الحسن الأشعري في الإبانة: (فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن هذه، ولزموها، لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق فلا قوة إلا بالله) (2) اهـ.
(1) العلو (ص237) والسير (17/ 558) ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 98 - 99).
(2) العلو (ص222).
منقول من موقع الحصن