الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فتقييدُ الطّلاقِ بالقضاءِ دعوةٌ تبنّاها بعضُ دعاةِ التّجديدِ، وذلك بإسنادِ أمرِ الطّلاقِ للقضاةِ، والدّعوةِ إلى الحجرِ على الزّوجِ بحيث يمتنع عليه الطّلاقُ ولا يُعتدّ به مهما أوقعه إلاّ في ساحةِ القضاءِ، بعد بحثِ القاضي في أسبابِ الطّلاقِ والنّظرِ في جدواها، فإنْ وجدها صالحةً للتّفريقِ حكم به، وإلاّ فلا يفرّق بينهما؛ عملاً -في زعمِهم- بالعدلِ والإنصافِ، بعيدًا عن التّحيّزِ إلى أحدِهما، أخذًا بمبدإِ التّسويةِ بين الرّجلِ والمرأةِ في حقِّ الطّلاقِ، كلُّ ذلك بحجّةِ حمايةِ الأسرةِ من الانهيارِ، وصيانةِ الرّابطةِ الزّوجيّةِ من العبثِ، وضمانِ عدمِ تعسُّفِ الرّجلِ وإساءتِه في استعمالِ هذا الحقِّ، ولا يخفى أنّ هذه الدّعوى باطلةٌ، وتعليلاتِها غيرُ صحيحةٍ؛ لأنّ المعلومَ أنّ الطّلاقَ تصرُّفٌ شرعيٌّ قوليٌّ، وهو حقٌّ ملّكه اللهُ تعالى للرّجلِ خالصًا وجعله بيدِه، ويمارسه بعبارتِه وإرادتِه المنفرِدةِ تقصُّدًا لحَلِّ قيدِ النّكاحِ ومفارقةِ زوجتِه إذا وجد ما يدعوه إلى ذلك، ويدلّ عليه قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، وقولُه تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠]، وقولُه تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، وغيرُها من الآياتِ القرآنيّةِ، وفي الحديثِ المرفوعِ: «إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»(١)، ووردتْ أحاديثُ أخرى كثيرةٌ تدلّ على هذا المعنى منها حديثُ عمرَ رضي اللهُ عنه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا»(٢)، وحديثُ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: «كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ، وَكُنْتُ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا، فَأَبَيْتُ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْهَا»»(٣)، ويظهر جليًّا أنّ المخاطَبَ بالتّطليقِ في هذه الآياتِ والأحاديثِ همُ الأزواجُ دون غيرِهم، والحكمةُ من ذلك المحافظةُ على العقدِ من مخاطرِ إنهائِه لأتفهِ الأسبابِ وأهونِها، إذ لا يخفى أنّ الرّجلَ -في الغالبِ- أكثرُ تقديرًا لعواقبِ الأمورِ وأبعدُ عنِ الطّيشِ في التّصرّفِ، وخاصّةً وهو يعلم تبعاتِ وأعباءَ الطّلاقِ الماليّةَ مِنَ المصاريفِ المتعلِّقةِ به والنّفقاتِ المترتّبةِ على عاتقِه في حالةِ إيقاعِه للطّلاقِ، الأمرُ الذي يحمله على التّأنّي والتّروّي فيه، وتقديرِ عواقبِ تصرّفاتِه مع زوجتِه، بخلافِ المرأةِ -إن قُدِّرَ أنّ الطّلاقَ بيدِها-، فلا تتأنّى في إيقاعِه -غالبًا- لعاطفتِها الجيّاشةِ وسرعةِ انفعالِها -من جهةٍ-، وعدمِ تضرُّرِها ماليًّا بتكاليفِ الطّلاقِ ونفقاتِه -من جهةٍ أخرى-.
وإذا لم يجعلِ اللهُ الطّلاقَ بيدِ الزّوجةِ مع أنّها شريكةُ زوجِها في العقدِ والحياةِ الزّوجيّةِ؛ فلا حقَّ للرّجلِ الأجنبيِّ فيه من بابٍ أولى.
هذا، وإنْ تقرّر أنّ للزّوجِ حقًّا منفرِدًا في حَلِّ قيدِ النّكاحِ بلفظِ الطّلاقِ ونحوِه، إلاّ أنّ الزّوجَ يجوز له -على أرجحِ قولَيِ العلماءِ- أنْ يوكّلَ غيرَه عن نفسِه في طلاقِ زوجتِه منه، كما يجوز أن يفوّضَ إلى زوجتِه حقَّه في طلاقِ نفسِها منه، وهو ما عليه مذهبُ جماهيرِ أهلِ العلمِ من الأئمّةِ الأربعةِ وغيرِهم؛ لأنّ الطّلاقَ تصرُّفٌ شرعيٌّ قوليٌّ تصحّ النّيابةُ فيه والتّوكيلُ أوِ التّفويضُ، كسائرِ التّصرُّفاتِ القوليّةِ الأخرى التي يملكها الموكِّلُ كالبيعِ والإجارةِ وغيرِهما.
وتُستثنى قضايا الزّوجين التي تُرْفَع إلى القاضي الشّرعيِّ للفصلِ فيها، وذلك في حالاتٍ خاصّةٍ، فيجوز للقاضي أن يحكمَ بالتّفريقِ بين الزّوجين إذا ما حصلتْ أسبابُه وتحقّقتْ شروطُه، كالتّفريقِ بسببِ الإيلاءِ أوِ الظّهارِ أو اللّعانِ، أو بسببِ الضّررِ، أو الخلعِ، أو للعيوبِ المانعةِ من الاستمتاعِ، أو بسببِ إسلامِ أحدِ الزّوجين أو رِدّتِه، أو التّفريقِ لفقدانِ الزّوجِ أو لعدمِ الإنفاقِ، وغيرِ ذلك من الأسبابِ التي في بعضِها خلافٌ، وقد يكون الاختلافُ في تفاصيلِها.
وللقاضي أن يرفعَ الخلافَ في القضايا المطروحةِ عليه ذاتِ الصّبغةِ الاجتهاديّةِ، وحكمُه نافذٌ إذا ورد على سببٍ صحيحٍ موافِقٍ لحكمٍ شرعيٍّ -نصًّا كان أو إجماعًا- وقَوِيَ دليلُه؛ لأنّ مهمّةَ القاضي الشّرعيِّ هي امتدادٌ لمهمّةِ الرّسلِ، تتمثّل في فكِّ النّزاعِ بين المتخاصمين برفعِ الظّلمِ والفصلِ في الخصومةِ بالحقِّ والعدلِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، لذلك فحكمُ القاضي ينتقض بالخطإِ في السّببِ والاجتهادِ، فإنْ كان الحكمُ مرتَّبًا على سببٍ باطلٍ كشهادةِ الزّورِ، فإذا شهد شاهِدَا زورٍ عند القاضي على طلاقِ امرأةٍ وحكم القاضي بالطّلاقِ؛ فإذا حصل العلمُ بالكذبِ والزّورِ فلا يُنَفَّذُ حكمُ القاضي ولا تُطلَّق من زوجِها بقضائِه، ولا يجوز لها أن تتزوّجَ من آخَرَ، وأمّا الخطأُ في الاجتهادِ -إذا كان القاضي أهلاً له-؛ فإنّه ينتقض وجوبًا بمخالَفةِ نصٍّ صريحٍ من كتابٍ أو سنّةٍ ولو كانت آحادًا، وينتقض -أيضًا وفاقًا لمالكٍ والشّافعيِّ- بمخالَفةِ القياسِ الجليِّ، وزاد مالكٌ مخالفةَ القواعدِ الأساسيّةِ(٤).
ومعنى ذلك أنّ القاضِيَ لا يُحلّ حرامًا ولا يحرّمُ حلالاً، فلو أنّ زوجًا أوقع طلقاتٍ ثلاثةً؛ فإنّ زوجتَه لا تحلّ له بعد ذلك حتّى تنكحَ زوجًا غيرَه، ولا يُنفَّذُ حكمُ القاضي إذا حكم بحِلِّها، لأنّ حُكْمَه لا يُحِلّ الحرامَ، أمّا إذا كان في نوعِ الطّلقاتِ خلافٌ اجتهاديٌّ؛ فإنّ حُكمَ القاضي يرفع الخلافَ بالضّوابطِ السّابقةِ، ويشهد لذلك قولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي نَحْوَ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»(٥).
قال النّوويُّ: «وفي هذا الحديثِ دلالةٌ لمذهبِ مالكٍ والشّافعيِّ وأحمدَ وجماهيرِ علماءِ الإسلامِ وفقهاءِ الأمصارِ مِنَ الصّحابةِ والتّابعين فمَن بعْدَهم، أنّ حُكْمَ الحاكمِ لا يُحيل الباطنَ ولا يُحِلّ حرامًا، فإذا شهد شاهِدَا زورٍ لإنسانٍ بمالٍ فحكم به الحاكمُ؛ لم يَحِلَّ للمحكومِ له ذلك المالُ، ولو شهِدَا عليه بقتلٍ لم يَحِلَّ للوليِّ قتلُه مع علمِه بكذبِهما، وإن شهِدَا بالزّورِ أنّه طلّق امرأتَه لم يَحِلَّ لمن علم بكذبِهما أن يتزوّجَها بعد حكمِ القاضي بالطّلاقِ، وقال أبو حنيفةَ رضي اللهُ عنه: يُحِلّ حكمُ الحاكمِ الفروجَ دون الأموالِ، فقال: يُحِلّ نكاحَ المذكورةِ، وهذا مخالِفٌ لهذا الحديثِ الصّحيحِ ولإجماعِ مَن قبله، ومخالفٌ لقاعدةٍ وافق هو وغيرُه عليها، وهي أنّ: «الأَبْضَاع أَوْلَى بِالاحْتِيَاطِ مِنَ الأَمْوَالِ»»(٦).
ومن نتيجةِ ما ذُكر يظهر جليًّا فسادُ دعوى دعاةِ التّجديدِ، وعدمُ اعتبارِ تعليلاتِهم لمقابلتِها للنّصوصِ الشّرعيّةِ، ولو سلّمْنا -جدلاً- بالتّعليلاتِ المذكورةِ، فمن العسيرِ على القاضي -إذا ما جُعل الطّلاقُ بيدِه- أن يُثبتَ الحالاتِ النّفسيّةَ الواقعةَ بين الزّوجين التي هي سببُ الطّلاقِ، كالتّناكرِ الطّبيعيِّ والنّفورِ المُفضي إلى البغضِ والكراهيةِ وعدمِ انسجامِ الأخلاقِ وتلاؤمِها بين المرءِ وزوجِه، وغيرِها من الحالاتِ النّفسيّةِ التي لا مطمعَ للقاضي في إدراكِها على الوجهِ المستوفي لحقيقةِ حجمِها، فضلاً عن أنّ هذه التّعليلاتِ تقلّل من شأنِ الرّجلِ، وتحكم عليه بالسّفهِ وعدمِ التّقديرِ وسوءِ التّصرّفِ، وتحجر تصرّفاتِه وتسلب منه الثّقةَ في حقٍّ شرعيٍّ ملّكه الشّارعُ إيّاه على وجهِ الخصوصِ، لذلك فالمصلحةُ الشّرعيّةُ تقضي أن يكونَ إنهاءُ الحياةِ الزّوجيّةِ بيدِ الرّجلِ تجاوبًا مع الأدلّةِ الشّرعيّةِ.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
(١) أخرجه ابن ماجه في: «الطّلاق»، باب طلاق العبد (٢٠٨١)، والبيهقيّ في «الكبرى» (١٥١٧٩)، والدّارقطنيّ في «سننه» (٣٩٩١) ولفظ الدّارقطنيّ: «أَلاَ إِنَّمَا يَمْلِكُ الطَّلاَقَ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ»، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما، والطّبرانيّ في «المعجم الكبير» (٤٧٣)، من حديث عصمة بن مالك الخَطَميّ، ولفظه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الطَّلاَقُ بِيَدِ مَنْ أَخَذَ السَّاقَ»، والحديث حسّنه الألبانيّ في «إرواء الغليل» (٢٠٤١).
(٢) أخرجه أبو داود في «الطّلاق»، باب في المراجعة (٢٢٨٣)، وابن ماجه في «الطّلاق»، (٢٠١٦)، وابن حبّان في «صحيحه» (٤٢٧٥)، والحاكم في «المستدرك» (٢٧٩٧)، والبيهقيّ في الصّغير (٢٦٥٢)، من حديث ابن عبّاس عن عمر رضي الله عنهم، والنّسائيّ في «الطّلاق»، باب الرّجعة (٣٥٦٠)، من حديث ابن عبّاس عن ابن عمر رضي الله عنهم، وأحمد (١٥٩٢٤)، من حديث عاصم بن عمر رضي الله عنهما، وصحّحه الألبانيّ في «إرواء الغليل» (٢٠٧٧)، و«السّلسلة الصّحيحة» (٢٠٠٧)، قال الألبانيّ: «... وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط الشّيخين»، ووافقه الذّهبيّ. وأقول: وهو كما قالا».
(٣) أخرجه أبو داود في «الأدب»، باب في برّ الوالدين (٥١٣٨)، والتّرمذيّ في «الطّلاق واللّعان»، باب ما جاء في الرّجل يسأله أبوه أن يطلّق زوجته (١١٨٩)، وابن ماجه في «الطّلاق»، باب الرّجل يأمره أبوه بطلاق امرأته (٢٠٨٨)، وأحمد (٤٧١١)، وابن حبّان (٤٢٧)، والحاكم (٢٧٩٨)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسّنه الألبانيّ في «السّلسلة الصّحيحة» (٩١٩).
(٤) انظر: الفتوى (٤٥٧) الموسومة ﺑ: «في الاعتداد بحكم الحاكم في رفع الخلاف».
(٥) متّفقٌ عليه: أخرجه البخاريّ في «الأحكام»، باب موعظة الإمام للخصوم (٧١٦٩)، ومسلم في «الأقضية» (١٧١٣) دون قوله «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ»، من حديث أمّ سلمة رضي الله عنهما.
(٦) «شرح مسلم» للنّوويّ (١٢/ ٦).
https://ferkous.com/home/?q=art-mois-59