بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم و رحمة الله أيها الرائعون
بداية أشكر كل من ساندني و دعمني عندما نزلت مقتطفا من الفصل الّأول على المنتدى
و أخص بالذكر الأختين وحي القلم و أبجديات
الآن أترككم مع تتمة الفصل الأول و كالعادة ما أحوجني إلى ملاحظاتكم و تقييماتكم
لقد كان ذلك الشيخ الهزيل في يوم من الأيام واحدا من الوطنيين البؤساء الذين لم يجنوا من المقاومة سوى بعض الجراح التي ما لها مع طول الدهر نسيان ، إضافة إلى شيء من الأمراض التي ستلازمهم بإخلاص حتى أخر رمق من حياتهم . لقد كان يكرر دائما عبارته الشهيرة المعتادة و المليئة بالكمد و الأسى : " ما لك يا وطني تعيس الحظ هكذا ، ما أن أخرجناك من حفرة الاستعمار و أوَدناك لتقف شامخا عزيزا ، حتى سقطت في حفرة ثانية أدهى و أخطر "
لقد كان سي العربي من الثلة الذين حملوا السلاح في وجه العدو ، في أيام لم يذكر منها التاريخ سوى سوى بعض الأحداث البطولية التي تمجد دور الطبقة الحاكمة و تضحياتها من أجل جمع شتات هذه الأمة و طرد المستعمر . و لا يخفى على أي واحد من الوطنين أمثال السي العربي أو حتى الساسة أنفسهم أنها مجرد حقائق مزيفة ابتدعها أصحابها للحفاظ على مناصبهم ، و جعلهم مفخرة لشعب لا تزال صرخات الاستعمار يدب صداها إلى آذانهم المثقلة بضجيج الحروب و المعارك ، و تلاحقهم أصوات البنادق و السيوف حتى في أعمق كوابيسهم و تؤرق نومهم . لقد تنكر الوطن لكل هؤلاء بمجرد رحيل الأجنبي .
قال سي العربي ذات يوم بابتسامة متصنعة "لقد قاومت الاستعمار .. فشردني وطني" ، و هو الذي لم يتبقى له أي شيء بعد الحرب ، حتى منزله الصغير قد تعرض للدمار و صار أشلاء على الأرض عقب أحداث الاجتياح العسكري التي شهدتها منطقته في ذلك اليوم المشؤوم حيث شردت عشرات الأسر ، و كانت النتيجة سقوط عامة أهل قريته في الأسر و العبودية ، و تم التسبب في دمار قرية بأكملها و تحولها إلى رماد . كان ذلك بمؤامرة خبيثة بين سلطات الاستعمار و أعوانهم من السلطات المحلية ممن خانوا عهدهم و نكثوا يمينهم و تنكروا لوطن لطالما احتضنهم و آواهم و رأف بهم . لقد كان ليلا حالكا يومها ، عندما أدخلوا الرعب في قلوب الناس الذين كانوا نياما في منازلهم منتظرين بزوغ نور فجر قريب ، إلا أن صهيل الأحصنة و شرارات النار الملتهبة العظيمة التي أخذت تلتهم في شراهة جل المحاصيل التي كد هؤلاء المساكين من أجلها قد أيقظتهم من نومهم العميق ، وفي طرفة عين بدأت منازلهم المهترئة و المتجاورة بالاحتراق و ما هي إلا لحظات حتى بدأ الناس بالصراخ فتراهم حيارى لا دليل لهم بهم من الهول و الفزع ما بهم ، هاربين من ألسنة النيران التي بدت كلوحة فنية شديدة الإضاءة رسمتها أياد غليظة لا تعرف معنى للرحمة ، إلا أن الأمل في النجاة و الفرار سرعان ما تقطع بهم أمام ذلك الجحفل العظيم من القوات المدججة بالسيوف و الأسلحة النارية ، لم يبد أهل القرية أية مقاومة و انصاعوا لرغبة القدر ، إلا أن النوايا الخبيثة للمستعمرين و الحقد الدفين في قلوبهم ما كان ليدع الأمور تمر هكذا دون أن يضع عليها بصمته و صبغته المعهودة من اللون الأحمر الذي أخذ يلمع تحت وطأة تلك النيران . لم يسلم أحد من دبيب رصاصاتهم و لا من وطأة سيوفهم المرهفة و المتلألئة، حتى النساء و الأطفال كانوا ضحايا لبطشهم ، فنُحر من نُحر، و أصيب من أصيب . و حيل بين أم و أبنائها ، كما تفرق ارواح و أجساد . كان منظرا شنيعا و مبكيا يوحي بالحزن و الألم و تقشعر له الأبدان ، فهذه فتاة صغيرة حسناء وسط تلك الحشود تصرخ بكل ما أوتيت من قوة و تتوسل إلى ذلك العلج الذي يسوق أمها نحو الأسر و الدمع يسبل فيضا من عينيها دون أن يهتز صدره و يرأف لحالها ، ظلت ترجوه بصوت متقطع ندي ، حتى اندفعت يد من بين كل هؤلاء فهزت بها من شعرها وأخذت تجرها على الأرض بلا شفقة ولا رحمة ، فبدأت السيوف تنهال على أعناق تلك المخلوقات الضعيفة بكل وحشية و دموية ، و تحولت الطرقات إلى أودية تسيل بالدماء جارفة معها الجثث المنتشرة في كل مكان، والتي تداس تحت الأقدام . و أخذت صرخات تلك الأرواح البئيسة بالتخافت شيئا فشيئا في ذلك الليل العصيب ثم شرقت الشمس الذهبية في الأفق لتضيء تلك الجثت المبعثرة هنا و هناك و الغارقة في وحل من الدماء . أما من بقي على قيد الحياة من أهل القرية فقد تم اعتقاله و أسره ، و كان سي العربي واحدا من هؤلاء المعتقلين ، الذين قبعوا في سجون الاحتلال لسنوات عدة قبل أن يروا نور الشمس مجددا ، هناك تعرضوا لكافة أنواع و أشكال التعذيب فمنهم من كسرت ساقه ، و من اقتلعت عينه ، و آخرون تم وشمهم بوشوم العبودية ليعيشوا حياة المهانة و الذل لدى أسيادهم ..
و قد قبع السي العربي هناك ما يقرب خمس سنوات ، حتى تم الإفراج عنه ليرى نور الحرية بعد ذلك . و نظرا لما حل بقريته صار دائم الترحال للبحث عن مأوى و بدء حياة جديدة ، فساقته الأقدار إلى قريتنا حيث تأتت لي فرصة التعرف على هذا الرجل الذي كان اسمه غير غريب عنا ، فقد كان ذائع الصيت بين المقاومين فبدأ معنا حياة جديدة من النضال و الكفاح الذي استمر لعشر سنين ، قبل انتهاء الحقبة الاستعمارية .