للملك عبد العزيز رحمه الله يد بيضاء تطوق عنق كل مسلم وموحد منذ أن قام بجهاده العظيم لتوحيد الجزيرة العربية ، وبسط حكم الشريعة على أرجائها، وتمكين منهج السلف في ربوعها ، فخدم الإسلام بذلك خدمة لا نظير لها في زمانه .
وكان رحمه الله إلى جانب عبقريته الفذة في السياسة والقيادة كان إلى ذلك ذا اطلاع واسع على علوم الشريعة ، وذا فهم دقيق لأصولها ومقاصدها، كما تدل رسائله ، وكلماته التي حفظها لنا التاريخ .
وقد أحبه أهل السنة في مشارق الأرض ومغاربها ، واعترفوا بفضله وأمانته وعدالته واستقامته رحمه الله، كما شرق به _من جهة أخرى _ أهل البدع ، والخرافة ، في حياته وإلى عصرنا هذا ، وجهدوا ما استطاعوا في تشويه صورته ، حسداً وبغياً
إن للملك عبد العزيز رحمه الله من المآثر والمناقب ما لا يحصى كثرة ، وما لا يخطر بالبال جلالة وعظمة ، وإليك هذا الخبر أنموذجاً يدل اللبيب على ما وراءه :
"كان الشيخ (عثمان سفر) مغترباً في عهد الحسين فلما استولى الملك عبد العزيز على الحجاز عاد إلى مكة وكانت له أوقاف بمكة استولت عليها ابنة عمه طيلة غيابه وتصرفت في ريعها تصرف المالك ، فتقدم بالشكوى إلى قاضي المحكمة الشيخ (أحمد ناضرين) رحمه الله فسجل إقراره ثم طلب ابنة عمه فأقرت بتصرفها في الوقف طيلة غياب الشيخ عثمان سفر ووقعت على إقرارها ، وصادف أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله أصدر منشوراً بنصرة المظلوم ، فلجأت إلى جلالته ، وادعت أنها مظلومة، فأمرها بمراجعة القاضي بأن جلالة الملك (وكيلها) !!!
فأسرعت إلى المحكمة وأشعرت الشيخ (أحمد ناضرين) بأن وكليها جلالة الملك عبد العزيز. فسجل إقرارها ، وأمرها بحضور وكيلها يوم الجلسة التي حددها، فأسرعت إلى جلالة الملك وأبلغته أمر القاضي .
ولما كان جلالته حامياً للدين ومنفذاً لأحكام شريعته حضر إلى المحكمة بنفسه مع الشيخ (عبد الله بن بليهد) فأمر القاضي مسجل الضبط بقراءة الدعوى فحكم القاضي على المرأة بدفع جميع ما تسلمته من ريع الوقف لـ(عثمان سفر) وتسليمه الوقف . فنظر جلالة الملك إلى الشيخ عبد الله بن بليهد فقال له : (هذا هو الشرع) .
وبعد التنفيذ، وقف الشيخ أحمد ناضرين لجلالة الملك وسلم عليه وقال له : إنني ابن بائع لقيمات! ولم أصل إلى هذا المنصب إلا بفضل الله ثم بالعلم والتمسك بأهدافه القيمة..
إنني منفذ لحدود الله ، وأوامر جلالتكم لحماية المظلوم ، وهذا لون من ألوان الظلم التي ارتكبته المرأة بظلم ابن عمها في الوقف..
وإني لم أتصلب في القضية إلا دفاعاً عن الحق ونصرة المظلوم..)1
وإليك خبراً آخر أبلغ في الدلالة على خضوع هذا الملك لحكم الشرع وتواضعه في ذات الله فقد ادعى شخص أن الإمام عبد الرحمن - رحمه الله - توفي ، وعليه في ذمته مبلغ من المال ، وطالب الملك عبد العزيز بالوفاء عن والده ، وذهب معه بعد صلاة الفجر إلى منزل القاضي سعد بن عتيق ، ولما عرف القاضي أن بينهما دعوى ، لم يدخلهما منزله ، بل أجلسهما على الأرض أمام المنزل ، وبعد أن انتهى الحكم لصالح المدعي ، انصرف راضياً، وعندها أدخل القاضي الملك عبد العزيز إلى منزله ، وقال : أنت الآن ضيفي 2.
أيها القارئ الكريم:
إنهما واقعتان تثيران الدهشة والحيرة إذ يجعل الملك من نفسه وكيلاً لامرأة من عامة الشعب أتته بلباس المظلوم المغلوب على أمره ثم يتكلف بالحضور لمجلس الحكم مع أعباء الملك ومسؤولياته ثم يصدر حكم القاضي (ابن بائع اللقيمات) على موكلة الملك فيرضخ ويستجيب لحكم الشرع .
وفي الثانية _ وهي أعظم وأجل_ إذ يحضر بنفسه مجلس الحكم وكان آنذاك أمام باب بيت القاضي فيجلس خصماً كغيره من المتخاصمين لا فضل له على خصمه بملكه وسلطانه فالجميع امام قضاء الشرع سواسية .
ويستمع القاضي للدعوى والدفاع ويصدر حكمه ويرضخ الملك لحكم الشرع وتنتهي القضية عند هذا الحد .
لا يمس الخصم شيء من السوء ولا يزيد القاضي تصرفه ذلك عند الملك إلا تقديراً وإجلالاً .
نعم هذا هو عبد العزيز موحد الجزيرة العربية تحت راية التوحيد .
هذا هو عبد العزيز الإمام السلفي الذي ملك القلوب بتقواه وعدله ورحمته وتواضعه وخضوعه لحكم الله قبل أن يملك البلاد بسيفه وجيوشه .
وهؤلاء هم رجال قضائه لا يداهنون ولا يحابون ولا يخافون في الحق لومة لائم، زادهم ثباتاً على هذه المسيرة ما عرفوه يقيناً أن إمامهم يريد منهم أن يجعلوا حكم الله _حسب اجتهادهم_ فوق كل اعتبار.
ألا فرحم الله الملك عبد العزيز، وأجزل له المثوبة ، وأدام ملك بنيه على الحق والعدل ، ونصرة الشريعة ، وإعلاء منار التوحيد والسنة .
وهكذا فليكن ملوك الإسلام . وهكذا فليكن قضاته .
علي بن يحيى الحدادي
17/2/1425
______________________________________
1- سير وتراجم ص 48. تأليف عمر عبد الجبار رحمه الله.
2- الدعوة إلى الله في عهد الملك عبد العزيز للدكتور عبد الله التركي.
المصدر :موقع علي بن يحى الحدادي