|
القسم الاسلامي العام للمواضيع الإسلامية العامة كالآداب و الأخلاق الاسلامية ... |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
2015-07-26, 08:36 | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
مشاهد الخلق في المعصية = نفيسة من نفائس ابن القيم رحمه الله =
بسم الله الرّحمن الرّحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته **** مشاهد الخلق في المعصية قال ابن القيّم -رحمهُ الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنّة - : “وهي ثلاثة عشر مشهدًا : - مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة -ومشهد الجبر - ومشهد الحكمة -ومشهد التوفيق والخذلان -ومشهد التوحيد - ومشهد الأسماء والصّفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده -ومشهد الرّحمة - ومشهد العجز والضعف - ومشهد الذلّ والافتقار -ومشهد المحبّة والعبودية فالأربعة الأول للمنحرفين ، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة وأعلاها المشهد العاشر وهذا الفصل من أجلّ فصول الكتاب ، وأنفعها لكلّ أحد ، وهو حقيقٌ بأن تُثنى عليه الخناصر ،ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه ، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى -سفر الهجرتين في طريق السعادتين- “ ملاحظة : يرجى الضغط على المشهد للانتقال المباشر والله الموفق
|
||||
2015-07-26, 08:37 | رقم المشاركة : 2 | |||
|
مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة
“فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة فمشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها ، فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانيةفضلا عن درجة الملائكة ، فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر ، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها . فمنهم من نفسه كلبية ، لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها ، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحي من قبيح ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك ، وإن منعته هرك ونبحك . ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف ، كلما زيد في علفه زيد في كده ، أبكم الحيوان وأقله بصيرة ، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملا ، ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه ، وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها . ومنهم من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته ، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه . ومنهم من نفسه فأرية فاسق بطبعه مفسد لما جاوره ، تسبيحه بلسان الحال : سبحان من خلقه للفساد . ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما ، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر والجمل القدر ، والعين وحدها لم تفعل شيئا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب ، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه ، فإما عطب وإما أذى ، ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت ، فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحية إذا قابلت درعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف ، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في القرآن والتي في السنة . وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإنسان وفي داره ، أو أنها تحاربه ، وهو كما اعتمدوه ، وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة فكان تأويلها مطابقا لأقوام على طباع تلك الحيوانات ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرا تنحر فكان من أصيب من المؤمنين بنحر الكفار ، فإن البقر أنفع الحيوانات للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذل بكسر الذال فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية ، والجواميس كبارهم ورؤساؤهم ، رأى عمر بن الخطاب كأن ديكا نقره ثلاث نقرات فكان طعن أبي لؤلؤة له ، والديك رجل أعجمي شرير . ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه ، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه ، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله. ومنهم من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وليس وراء ذلك من شيء . ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان، وأغلظه كبدا . ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث وعلى طبيعة القرد . وأحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسا ، وأكرمها طبعا وكذلك الغنم ، وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى . ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها ، والله أعلم . والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى مثل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك البتة “ |
|||
2015-07-26, 08:38 | رقم المشاركة : 3 | |||
|
مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة الإنسانية ، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه الأخلاط فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية تتقاضاه آثار هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة ، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج عنه ، وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورة كحاجته إلى مصالحه من الطعام والشراب واللباس .
وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع من نفسه قاهر لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية الموجبة للجنايات كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات وليس لهم مشهد وراء ذلك . |
|||
2015-07-26, 08:39 | رقم المشاركة : 4 | |||
|
مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم ، وأنها واقعة بغير قدرتهم ، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتة .
يقولون : إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر ، وأن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه ، وأنه آلة محضة ، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح ، وحركات الأشجار . وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر ، وحملوا ذنوبهم عليه ، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات ، خيرها وشرها ، لموافقتها للمشيئة والقدر . ويقولون : كما أن موافقة الأمر طاعة ، فموافقة المشيئة طاعة ، كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه ، وهؤلاء شر من القدرية النفاة ، وأشد منهم عداوة لله ، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه ، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده ، وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال ، ويقول : ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه ؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ؟ ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه ؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنا ؟ ولكن : إذا كان المحب قليل حظ *** فما حسناته إلا ذنوب وهؤلاء أعداء الله حقا ، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه ، وإذا ناح منهم نائح على إبليس ، رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ، ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم ، وصفحات وجوههم ، وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه ، فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته : ويدعى خصوم الله يوم معادهم *** إلى النار طرا فرقة القدرية |
|||
2015-07-26, 08:40 | رقم المشاركة : 5 | |||
|
مشهد الحكمة وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ، ويلوم ويعاقب عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منه ، ولحال بينه وبينه ، وأنه سبحانه لا يعصى قسرا ، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها ، وتكل الألسن عن التعبير عنها . فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب ، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا{أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} فأجابهم سبحانه بقوله :{ إني أعلم ما لا تعلمون } فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم ، وأنواع التعرفات إلى خلقه ، وتنويع آياته ، ودلائل ربوبيته ووحدانيته ، وإلهيته ، وحكمته ، وعزته ، وتمام ملكه ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم ، فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة ، وآياتك الظاهرة . ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد*** وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد فكم من آية من الأرض بينة ، دالة على الله ، وعلى صدق رسله ، وعلى أن لقاءه حق ، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم ، كآيته في إغراق قوم نوح ، وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه ، وأهل معرفته وتوحيده ، فكم في ذلك من آية وعبرة ، ودلالة باقية على مر الدهور ؟ ! وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود . وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حيث إغراقهم ، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب ، وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى : اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه ، وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر ، وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر . وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم ، وإلقائهم له في النار ، حتى صارت تلك آية ، وحتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة . وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده ، بسبب صبرهم على أذى قومهم ، وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم . وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ، ومجاهدتهم في الله ، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه ، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات . إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم ، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه ، وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية . فحصول هذا المحبوب العظيم أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط ، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المكروه المسخوط ، وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين ، وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه ، وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا ، كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها ، والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله ، وكمال قدرته وربوبيته . ويكفي من هذا مثال واحد ، وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى ، من امتحان خلقه وتكليفهم ، وإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها ، وإكرام أوليائه ، وإهانة أعدائه ، وظهور عدله وفضله ، وعزته وانتقامه ، وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه ، وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان . فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ، ولم يخرج من الجنة هو وأولاده لم يكن شيء من تلك ، ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ، ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ، ولم تتم المملكة ، حيث لم يكن هناك إكرام وثواب ، وعقوبة وإهانة ، ودار سعادة وفضل ، ودار شقاوة وعدل . وكم في تسليط أوليائه على أعدائه ، وتسليط أعدائه على أوليائه ، والجمع بينهما في دار واحدة ، وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ، ونعمة سبغة ! . وكم فيها من حصول محبوب للرب ، وحمد له من أهل سماواته وأرضه ، وخضوع له وتذلل ، وتعبد وخشية وافتقار إليه ، وانكسار بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه ، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم ، وإعراضه عنهم ، ومقته لهم ، وما أعد لهم من العذاب ، وكل ذلك بمشيئته وإرادته ، وتصرفه في مملكته ، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون ، على أشد وجل ، وأعظم مخافة ، وأتم انكسار . فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له ، وهاروت وماروت وضعت رءوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، وخشية من إبعاده وطرده ، وتذللا لهيبته ، وافتقارا إلى عصمته ورحمته ، وعلمت بذلك منته عليهم ، وإحسانه إليهم ، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته . وكذلك أولياؤه المتقون ، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم ، وغضبه عليهم ، وخذلانه لهم ، ازدادوا خضوعا وذلا ، وافتقارا وانكسارا ، وبه استعانة وإليه إنابة ، وعليه توكلا ، وفيه رغبة ، ومنه رهبة ، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه ، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ، ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته ، فالفضل بيده أولا وآخرا . وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه ، والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه ، فيطلعه على عجائب من حكمته ، لا تبلغها العبارة ، ولا تنالها الصفة . وأما حظ العبد في نفسه ، وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته ، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية ، وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه ، والله الموفق والمعين . |
|||
2015-07-26, 08:41 | رقم المشاركة : 6 | |||
|
مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته ، وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فالقلوب بيده ، وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد ، وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها ، وهو الذي هداها وزكاها ، وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته ، هذا فضله وعطاؤه ، وما فضل الكريم بممنون ، وهذا عدله وقضاؤه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . قال ابن عباس رضي الله عنه :”الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ، ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده .” وفي هذا المشهد يتحقق للعبد مقام (إياك نعبد وإياك نستعين ) علما وحالا ،فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ، ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية ، فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع ، والعطاء والمنع ، والهدى والضلال ، والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره ، وأنه الذي يقلب القلوب ، ويصرفها كيف يشاء ، وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ، ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه ، وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها ، وأرقها وأصفاها ، وأشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا ، فكان أحب إليه من كل ما سواه ، وأخوف عنده من كل ما سواه ، وأرجى له من كل ما سواه ، فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب ، فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ، ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات ، فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ، ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء ، فينساق كل رجاء تبعا لرجائه . فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب ، والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية ، أي باب توحيد الإلهية هو توحيد الربوبية . فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ، ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية ، كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر ، ويحتج عليهم به ، ويقررهم به ، ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية . وفي هذا المشهد يتحقق له مقام ( إياك نعبد ) قال الله تعالى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون} أي فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله ، وعن عبادته وحده ، وهم يشهدون أنه لا رب غيره ، ولا خالق سواه ، وكذلك قوله تعالى{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون } فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأرض ومن فيها ، وخالقهم وربهم ومليكهم ، فهو وحده إلههم ومعبودهم ، فكما لا رب لهم غيره ، فهكذا لا إله لهم سواه { قل من ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون** قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه } الآيات ، وهكذا قوله في سورة النمل: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون**أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون }إلى آخر الآيات . يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده ، فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه ، وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر ؟ ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية أإله مع الله فعل هذا ؟ حتى يتم الدليل ، فلا بد من الجواب بلا ، فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله ، فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه ؟ فعلم أن إلهية ما سواه باطلة ، كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقرارهم وشهادتكم . ومن قال : المعنى هل مع الله إله آخر ؟ من غير أن يكون المعنى " فعل هذا " فقوله ضعيف لوجهين : أحدهما : أنهم كانوا يقولون : مع الله آلهة أخرى ، ولا ينكرون ذلك . الثاني : أنه لا يتم الدليل ، ولا يحصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير أي فإذا كنتم تقولون : إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله ، فكيف تجعلون معه إلها آخر لا يخلق شيئا وهو عاجز ؟ وهذا كقوله :{أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} وقوله : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وقوله :{أفمن يخلق كمن لا يخلق} وقوله :{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} وقوله :{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون}وهو كثير في القرآن ، وبه تتم الحجة كما تبين. والمقصود أن العبد يحصل له هذا في المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب ، وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم ، وأنه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو ، ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته ، ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه ، فموارد الأمور كلها منه ، ومصادرها إليه ، وأزمة التوفيق جميعها بيديه فلا مستعان للعباد إلا به ، ولا متكل إلا عليه ، كما قال شعيب خطيب الأنبياء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . |
|||
2015-07-26, 08:44 | رقم المشاركة : 7 | |||
|
مشهد التوفيق والخذلان
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه ، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به ، وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك ، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك ، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه ، بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا ، فيطيعه ويرضيه ، ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنهبخذلانه له ، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه ، فإن وفقه فبفضله ورحمته ، وإن خذله فبعدله وحكمته ، وهو المحمود على هذا وهذا ، له أتم حمد وأكمله ، ولم يمنع العبد شيئا هو له ، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه ، وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله ؟ فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه ، علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحظة وطرفة عين ، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى ، لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش توحيده ، ولخرت سماء إيمانه على الأرض ، وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، فهِجِّيرَى قلبه ودأب لسانه : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك ، ودعواه : يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك . ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه ، كما يشهد ربوبيته وخلقه ، فيسأله توفيقه مسألة المضطر ، ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف ، ويلقي نفسه بين يديه ، طريحا ببابه مستسلما له ، ناكس الرأس بين يديه ، خاضعا ذليلا مستكينا ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ونشورا . والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد ، بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه ، مريدا له ، محبا له ، مؤثرا له على غيره ، ويبغض إليه ما يسخطه ، ويكرهه إليه ، وهذا مجرد فعله ، والعبد محل له ، قال تعالى{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له ، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله ، لا يمنعه أهله ، ولا يضعه عند غير أهله ، وذكر هذا عقيب قوله : {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} ثم جاء به بحرف الاستدراك فقال {ولكن الله حبب إليكم الإيمان}. يقول سبحانه لم تكن محبتكم للإيمان وإرادتكم له ، وتزيينه في قلوبكم منكم ، ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك ، فآثرتموه ورضيتموه ، فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ، ولا تقولوا حتى يقول ، ولا تفعلوا حتى يأمر ، فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم ، وأنتم لولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان ، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم ، ولا تقدمتم به إليها ، فنفوسكم تقصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه ، فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون ، ولا تظنوا أن نفوسكم تريد لكم الرشد والصلاح كما أردتم الإيمان ، فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم ، وكرهت إليكم ضده لما وقع منكم ، ولا سمحت به أنفسكم . وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثل : ملك أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا ، وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب ومجتاحهم ، ومخرب البلد ، ومهلك من فيها ، وأرسل إليهم أموالا ومراكب وزادا وعدة وأدلة ، وقال :ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة ، وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه ثم قال لجماعة من مماليكه :اذهبوا إلى فلان ، فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يقعد ، واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان ، وذروا من عداهم ، فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي ، فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم ، فلم يتركوهم يقرون ، بل حملوهم حملا ، وساقوهم سوقا إلى الملك ، فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم ، وأسر من أسر . فهل يعد الملك ظالما لهؤلاء ، أم عادلا فيهم ؟ نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم ، إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه ، بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء . وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة ، والخذلان بأنه خلق المعصية . ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم ، وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة . وقابلهم القدرية النفاة ، ففسروا التوفيق بالبيان العام ، والهدى العام ، والتمكن من الطاعة والإقبال عليها ، وتهيئة أسبابها ، وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة ، وتمكن من الإيمان . فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين ، إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عم به الفريقين ، ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم ، والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ، ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلما . والتزموا لهذا الأصل لوازم ، قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ، ولم يجدوا بدا من التزامها ، فظهر فساد مذهبهم ، وتناقض قولهم ، لمن أحاط به علما ، وتصوره حق تصوره ، وعلم أنه من أبطل مذهب في العالم وأردئه . وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فلم يرضوا بطريق هؤلاء ، ولا بطريق هؤلاء ، وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم ، فأثبتوا القضاء والقدر ، وعموم مشيئة الله للكائنات ، وأثبتوا الأسباب والحكم ، والغايات والمصالح ، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء ، أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته ، أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ، ومن قال ذلك فلم يعرف ربه ، ولم يثبت له كمال الربوبية . ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح ، وأن يخلق شيئا سدى ، وأن تخلو أفعاله عن حكم بالغة لأجلها أوجدها ، وأسباب بها سببها ، وغايات جعلت طرقا ووسائل إليها ، وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة ، وتلك الحكمة صفة له قائمة به ، ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة . فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين ، إلا من حق تتضمنه مقالاتهم ، فإنهم يوافقونهم عليه ، ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى ، ولا يبطلون ما معهم من الحق لما قالوه من الباطل ، فهم شهداء الله على الطوائف ، وأمناؤه عليهم ، حكام بينهم ، حاكمون عليهم ، ولا يحكم عليهم أحد منهم ، يكشفون أحوال الطوائف ، ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف الفرق بينه وبين غيره ، ولم يلتبس عليه ، وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته ، ليسوا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، بل ممن هم على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه ، ومعرفة بما عند الناس ، والله الموفق . |
|||
2015-07-26, 08:45 | رقم المشاركة : 8 | |||
|
مشهد الأسماء والصفات وهو من أجل المشاهد ، وهو أعلى مما قبله وأوسع .
والمطلع على هذا المشهد :معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى ، والصفات العلا ، وارتباطه بها ، وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها . وهذا من أجل المعارف وأشرفها ، وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة ، فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال ، وكل صفة لها مقتضى وفعل إما لازم ، وإما متعد ، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه ، وهذا في خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه ، كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها . ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها ، وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال ، وتعطيل الأفعال عن المفعولات ، كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته ، وصفاته عن أسمائه ، وتعطيل أسمائه وأوصافه عن ذاته . وإذا كانت أوصافه صفات كمال ، وأفعاله حكما ومصالح ، وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ، ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه ، وأن ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه ، وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ، ولا عظمه حق تعظيمه ، كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين ، كالأبرار والفجار ، والمؤمنين والكفار{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به ، تأباه أسماؤه وصفاته ، وقال سبحانه{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} عن هذا الظن والحسبان ، الذي تأباه أسماؤه وصفاته . ونظائر هذا في القرآن كثيرة ، ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها . فاسمه الحميد ، المجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يثاب ولا يعاقب ، وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك ، وكذلك اسمه الملك واسمه الحي يمنع أن يكون معطلا من الفعل ، بل حقيقة الحياة الفعل ، فكل حي فعال ، وكونه سبحانه خالقا قيوما من موجبات حياته ومقتضياتها ، واسمه السميع البصير يوجب مسموعا ومرئيا ، واسمه الخالق يقتضي مخلوقا ، وكذلك الرازق ، واسمه الملك يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا ، وإعطاء ومنعا ، وإحسانا وعدلا ، وثوابا وعقابا ، واسم البر والمحسن ، المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها . إذا عرف هذا ، فمن أسمائه سبحانه الغفار ، التواب ، العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ، ولا بد من جناية تغفر ، وتوبة تقبل ، وجرائم يعفى عنها ، ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه ، إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق ، الرازق ، المعطي ، المانع للمخلوق والمرزوق والمعطى والممنوع ، وهذه الأسماء كلها حسنى . والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه ، فهو عفو يحب العفو ، ويحب المغفرة ، ويحب التوبة ، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ، ويحلم عنه ، ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته ، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك ، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سماواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده . وهو سبحانه الحميد المجيد ، وحمده ومجده يقتضيان آثارهما . ومن آثارهما مغفرة الزلات ، وإقالة العثرات ، والعفو عن السيئات ، والمسامحة على الجنايات ، مع كمال القدرة على استيفاء الحق . والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها ، فحلمه بعد علمه ، وعفوه بعد قدرته ، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته ، كما قال المسيح صلى الله عليه وسلم { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك ، لست كمن يغفر عجزا ، ويسامح جهلا بقدر الحق ، بل أنت عليم بحقك ، قادر على استيفائه ، حكيم في الأخذ به . فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم ، وفي الأمر ، تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد ، وتقديرها : هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال . وغاياتها أيضا : مقتضى حمده ومجده ، كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته . فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة ، والآيات الباهرة ، والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته ، واستدعاء محبتهم له ، وذكرهم له ، وشكرهم له ، وتعبدهم له بأسمائه الحسنى ، إذ كل اسم فله تعبد مختص به ، علما ومعرفة وحالا ، وأكمل الناس عبودية المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر ، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر ، كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم ، أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع ، أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم ، أو التعبد بأسماء التودد ، والبر ، واللطف ، والإحسان عن أسماء العدل ، والجبروت ، والعظمة ، والكبرياء ونحو ذلك . وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله ، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن ، قال الله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ، ودعاء الثناء ، ودعاء التعبد ، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ، ويثنوا عليه بها ، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها . وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته . فهو عليم يحب كل عليم ، جواد يحب كل جواد ، وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال ، عفو يحب العفو وأهله ، حيي يحب الحياء وأهله ، بر يحب الأبرار ، شكور يحب الشاكرين ، صبور يحب الصابرين ، حليم يحب أهل الحلم ، فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة ، والعفو والصفح خلق من يغفر له ، ويتوب عليه ويعفو عنه ، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ، ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب . فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع : محبوب يفضي إلى محبوب ، ومكروه يفضي إلى محبوب ، وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه . والثالث :مكروه يفضي إلى مكروه ، والرابع : محبوب يفضي إلى مكروه ، وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه ، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له . والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له . فالطاعات والتوحيد أسباب محبوبة له ، موصلة إلى الإحسان ، والثواب المحبوب له أيضا . والشرك والمعاصي أسباب مسخوطة له ، موصلة إلى العدل المحبوب له ، وإن كان الفضل أحب إليه من العدل ، فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر ، لما فيهما من كمال الملك والحمد ، وتنوع الثناء ، وكمال القدرة . فإن قيل : كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه . قيل :هذا سؤال باطل ، لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب ، وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم ، بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته ، فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له ، كان نسبة له إلى ما لا يليق به ، ويتعالى عنه . فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل ، فإنه مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف . وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب ، أو يستوعبه خطاب ، وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها ، والله الموفق المعين . |
|||
2015-07-26, 08:46 | رقم المشاركة : 9 | |||
|
مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده وهذا من ألطف المشاهد ، وأخصها بأهل المعرفة ، ولعل سامعه يبادر إلى إنكاره ، ويقول :كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي ؟ ولا سيما ذنوب العبد ومعاصيه ، وهل ذلك إلا منقص للإيمان ، فإنه بإجماع السلف يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية . فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب والمعاصي منه ومن غيره وإلى ترتب آثارها عليها ، وترتب هذه الآثار عليها علم من أعلام النبوة ، وبرهان من براهين صدق الرسل ، وصحة ما جاءوا به ، فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهرهم وبواطنهم ، في معاشهم ومعادهم ، ونهوهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم في المعاش والمعاد ، وأخبروهم عن الله عز وجل أنه يحب كذا وكذا ، ويثيب عليه بكذا وكذا ، وأنه يبغض كيت وكيت ، ويعاقب عليه بكيت وكيت ، وأنه إذا أطيع بما أمر به شكر عليه بالإمداد والزيادة ، والنعم ، في القلوب والأبدان والأموال ، ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها ، وأنه إذا خولف أمره ونهيه ، ترتب عليه من النقص ، والفساد ، والضعف ، والذل والمهانة ، والحقارة ، وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب ، كما قال تعالى{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} وقال {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير } وقال تعالى {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} وقال تعالى { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ، والصحيح أنها في الدنيا وفي البرزخ ، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله ، فله من ضيق الصدر ، ونكد العيش ، وكثرة الخوف ، وشدة الحرص والتعب على الدنيا ، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها ، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب ، لسكرته ، وانغماسه في السكر ، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم ، فبادر إلى إزالته بسكر ثان ، فهو هكذا مدة حياته ، وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور ؟ . فقلوب أهل البدع ، والمعرضين عن القرآن ، وأهل الغفلة عن الله ، وأهل المعاصي في جحيم قبل الجحيم الأكبر ، وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} هذا في دورهم الثلاث ، ليس مختصا بالدار الآخرة ، وإن كان تمامه وكماله وظهوره : إنما هو في الدار الآخرة ، وفي البرزخ دون ذلك ، كما قال تعالى {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } وقال تعالى{ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ، ولكن يمنع من الإحساس به الاستغراق في سكرة الشهوات ، وطرح ذلك عن القلب ، وعدم التفكر فيه . والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ، ويقطع التفاته عنه ، ويجعل إقباله على غيره ، لئلا يشعر به جملة ، فلو زال عنه ذلك الالتفات ، لصاح من شدة الألم ، فما الظن بعذاب القلوب وآلامها ؟ ! .
فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، قال الله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه{أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } والمراد بالحسنة والسيئة هنا النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله ، ولهذا قال " ما أصابك " ولم يقل " ما أصبت " . فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة ، فسببه الذنوب ، ومخالفة أوامر الرب ، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها . وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم ، لا ينكره ذو عقل سليم ، بل يعرفه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر . وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره ، وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل ، وبالثواب والعقاب ، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم ، ومثوبات وعقوبات عاجلة ، دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة ، كما قال بعض الناس : إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة انتظرت أثره السيئ ، فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت ، يكون هجيراي : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته ، فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا ، فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه ، لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه ، وليس هذا لكل أحد ، بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه ، فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به البتة . وإنما يكون هذا القلب فيه نور الإيمان ، وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه ، فهو يشاهد هذا وهذا ، ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح ، فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح ، وتقلب السفينة وتكفئها ولاسيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح ، فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب ، إذا أريد به الخير ، وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر . ومتى انفتح هذا الباب للعبد انتفع بمطالعة تاريخ العالم ، وأحوال الأمم ،ومجريات الخلق ، بل انتفع بمجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس وفهم حينئذ معنى قوله تعالى {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} وقوله : {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ، ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط ، وهو عدل الله وقسطه ، وإن أجراه على يد ظالم ، فالمسلط له أعدل العادلين ، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض{ بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار} الآية . فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات ، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها ، وإلا قهرت القوة الإيمانية ، وكان الهلاك ، كما قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر ، كما أن الحمى بريد الموت . فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه ، وتغير القلوب عليه ، وجفولها منه ، وانسداد الأبواب في وجهه ، وتوعر المسالك عليه ، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه . وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتي ؟ ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه ، فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال ، رأى العز بعد الذل ، والغنى بعد الفقر ، والسرور بعد الحزن ، والأمن بعد الخوف ، والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه ، فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته ، فهذا من الذين قال الله فيهم {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه ، وأعطاه حقه : صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها ، فنفعه الله في نفسه ، ونفع به من شاء من خلقه ، والله أعلم . |
|||
2015-07-26, 08:49 | رقم المشاركة : 10 | |||
|
مشهد الرحمة
فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة ، والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب ، حتى لو قدر عليه لأهلكه ، وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه ، غضبا منه لله ، وحرصا على أن لا يعصي ، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ، ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء ، ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم ، والعيب لهم والذم ، فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه استغاث الله والتجأ إليه ، وتململ بين يديه تململ السليم ، ودعاه دعاء المضطر ، فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة ، وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينا ، مع قيامه بحدود الله ، وتبدل دعاؤه عليهم دعاء لهم ، وجعل لهم وظيفة من عمره ، يسأل الله أن يغفر لهم . فما أنفعه له من مشهد ! وما أعظم جدواه عليه ، والله أعلم . |
|||
2015-07-26, 08:51 | رقم المشاركة : 11 | |||
|
مشهد العجز والضعف
وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه ، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه ، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ، ترفعها تارة ، وتخفضها تارة أخرى ، تجري عليه أحكام القدر ، وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ، ملقى ببابه ، واضعا خده على ثرى أعتابه ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما ، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع ، لا يردها عنها إلا الراعي ، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء . وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه ، من شياطين الإنس والجن ، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا ، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم ، بل هو نصيب من ظفر به منهم . وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ، ويعرف ربه ، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور " من عرف نفسه عرف ربه " وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا "يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك " وفيه ثلاث تأويلات : أحدها : أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ، ومن عرفها بالذل ، عرف ربه بالعز ، ومن عرفها بالجهل ، عرف ربه بالعلم ، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق ، والحمد والثناء ، والمجد والغنى ، والعبد فقير ناقص محتاج ، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله . التأويل الثاني :أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة ، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به ، فمعطي الكمال أحق بالكمال ، فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما ، يفعل باختياره ، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه ؟ فهذا من أعظم المحال ، بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا ، أولى أن يكون كذلك . فالتأويل الأول من باب الضد ، وهذا من باب الأولوية . والتأويل الثالث : أن هذا من باب النفي ، أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك ، فلا تعرف حقيقتها ، ولا ماهيتها ولا كيفيتها ، فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته ؟ . والمقصود : أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف ، فتزول عنه رعونات الدعاوي ، والإضافات إلى نفسه ، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء ، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف . |
|||
2015-07-26, 08:54 | رقم المشاركة : 12 | |||
|
مشهد الذل ، والانكسار ، والخضوع ، والافتقار للرب جل جلاله فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة ، وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ، ومن بيده صلاحه وفلاحه ، وهداه وسعادته ، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها ، وإنما تدرك بالحصول ، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء ، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل ، الذي لا شيء فيه ، ولا به ولا منه ، ولا فيه منفعة ، ولا يرغب في مثله ، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه ، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا ، فأي خير له من الله استكثره على نفسه ، وعلم أن قدره دونه ، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به ، وسياقته إليه ، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه ، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه ، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله .
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم ، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة ، وملكته هذه الذلة ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه ، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله . قيل لبعض العارفين : أيسجد القلب ؟ قال : نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء ، فهذا سجود القلب . فقلب لا تباشره هذه الكسرة هو غير ساجد السجود المراد منه ، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح ، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم ، وخشع الصوت والجوارح كلها ، وذل العبد وخضع واستكان ، ووضع خده على عتبة العبودية ، ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم ، فلا يرى إلا متملقا لربه ، خاضعا له ، ذليلا مستعطفا له ، يسأله عطفه ورحمته ، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له ، الذي لا غنى له عنه ، ولا بد له منه ، فليس له هم غير استرضائه واستعطافه ، لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ، ومحبته له ، يقول : كيف أغضب من حياتي في رضاه ؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره ؟ وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ، ويربيه أحسن التربية ، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية ، وهو القيم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه في حاجة له ، فخرج عليه في طريقه عدو ، فأسره وكتفه وشده وثاقا ، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب ، وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به ، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة ، فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه ، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد نحره في آخر الأمر ، إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه ، فرأى أباه منه قريبا ، فسعى إليه ، وألقى نفسه عليه ، وانطرح بين يديه ، يستغيث يا أبتاه ، يا أبتاه ، يا أبتاه ! انظر إلى ولدك وما هو فيه ، ودموعه تستبق على خديه ، قد اعتنقه والتزمه ، وعدوه في طلبه ، حتى وقف على رأسه ، وهو ملتزم لوالده ممسك به ، فهل تقول : إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ، ويخلي بينه وبينه ؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ، ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه ، وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحا ببابه ، يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه ، يقول : يا رب ، يا رب ، ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا مغيث له سواك . مسكينك وفقيرك ، وسائلك ومؤملك ومرجيك ، لا ملجأ له ولا منجى له منك إلا إليك ، أنت معاذه وبك ملاذه . يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره ** لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره |
|||
2015-07-26, 08:56 | رقم المشاركة : 13 | |||
|
مشهد العبودية والمحبة ، والشوق إلى لقائه وهو الغاية التي شمر إليها السالكون ، وأمها القاصدون ، ولحظ إليها العاملون . وهو مشهد العبودية والمحبة ، والشوق إلى لقائه ، والابتهاج به ، والفرح والسرور به ، فتقر به عينه ، ويسكن إليه قلبه ، وتطمئن إليه جوارحه ويستولي ذكره على لسان محبه وقلبه ، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية ، وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه ، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي ، قد امتلأ قلبه من محبته ، ولهج لسانه بذكره ، وانقادت الجوارح لطاعته ، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه . ويحكى عن بعض العارفين ، أنه قال : " دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها ، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام ، فلم أتمكن من الدخول ، حتى جئت باب الذل والافتقار ، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ، ولا مزاحم فيه ولا معوق ، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته ، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه" . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول : من أراد السعادة الأبدية ، فليلزم عتبة العبودية . وقال بعض العارفين :لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ، ولا حجاب أغلظ من الدعوى ، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد ، ولا يضر مع الذل والافتقار بطالة ، يعني بعد فعل الفرائض . والقصد : أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله ، وترميه على طريق المحبة ، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق ، وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابا من المحبة ، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم ، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزا ، وتفريطا وذنبا وخطيئة ، نوع آخر وفتح آخر ، والسالك بهذه الطريق غريب في الناس ، وهم في واد وهو في واد ، وهي تسمى طريق الطير ، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة ، فيصبح وقد قطع الطريق ، وسبق الركب . بينا هو يحدثك ، إذا به قد سبق الطرف وفات السعاة ، فالله المستعان ، وهو خير الغافرين . وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له ، وفرحه بتوبة عبده ، فإنه سبحانه يحب التوابين ، ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله . فكلما طالع العبد من ربه سبحانه عليه قبل الذنب ، وفي حال مواقعته ، وبعده ، بره به وحلمه عنه ، وإحسانه إليه هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه ، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها ، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي ، وهو يمده بنعمه ، ويعامله بألطافه ، ويسبل عليه ستره ، ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم ، ويردهم عنه ، ويحول بينهم وبينه ؟ وهو في ذلك كله بعينه ، يراه ويطلع عليه ، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه ، والأرض تستأذنه أن تخسف به ، والبحر يستأذنه أن يغرقه ، كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم ، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه ، والرب تعالى يقول :دعوا عبدي ، فأنا أعلم به ، إذ أنشأته من الأرض ، إن كان عبدكم فشأنكم به ، وإن كان عبدي فمني وإلي ، عبدي وعزتي وجلالي إن أتاني ليلا قبلته ، وإن أتاني نهارا قبلته ، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، وإن مشى إلي هرولت إليه ، وإن استغفرني غفرت له ، وإن استقالني أقلته ، وإن تاب إلي تبت عليه ، من أعظم مني جودا وكرما ، وأنا الجواد الكريم ؟ عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم ، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم ، وأحرسهم على فرشهم ، من أقبل إلي تلقيته من بعيد ، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ، ومن أراد مرادي أردت ما يريد ، أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب ، لأطهرهم من المعايب . ولنقتصر على هذا القدر من ذكر التوبة وأحكامها وثمراتها ، فإنه ما أطيل الكلام فيها إلا لفرط الحاجة والضرورة إلى معرفتها ، ومعرفة أحكامها ، وتفاصيلها ومسائلها ، والله الموفق لمراعاة ذلك ، والقيام به عملا وحالا ، كما وفق له علما ومعرفة ، فما خاب من توكل عليه ، ولاذ به ولجأ إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . *** تمّ بحمد الله من كتاب مدارج السّالكين بين منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين منقولا للفائدة من الشبكة |
|||
2015-07-26, 10:11 | رقم المشاركة : 14 | |||
|
شكرا على كل هذه المجهودات |
|||
2015-07-26, 10:12 | رقم المشاركة : 15 | |||
|
شكرا غلى كل المجهودات المبذولة وجعله الله في ميزان حسناتك والوالدين انشاء الله |
|||
الكلمات الدلالية (Tags) |
مشاهد, المعصية, التوحيد, التوفيق, الخلق, الخذلان, ابن القيم |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc