عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في عرق النسا يأخذ إلية كبش عربي ليست بأعظمها ولا أصغرها فيتقطعها صغارا ثم يذيبها فيجيد إذابتها ويجعلها ثلاثة أجزاء فيشرب كل يوم جزءا على ريق النفس»(3).
من وصايا الحديث النبوي هذا نستخلص بأن الإلية يجب أن تكون لكبش عربي ويتم تقطيعها إلى أوصال صغيرة ثم تذاب ثم يقسم زيتها إلى ثلاثة أقسام ثم يشرب كل قسم في يوم على الريق أي قبل تناول أي شيء قبله.
ما هو عرق النسا؟
عرق النسا (بفتح النون) هو مرض يصيب الإنسان فيقعده تقريبا عن الحركة بسبب آلام شديدة تقع في أسفل الظهر عند الورك الأيمن أو الأيسر أو كلاهما.
جاء في فقه اللغة: عِرْقُ النَّسَا مَفْتُوح مَقْصُورٌ وَجَع يَمْتَدُّ من لَدُنِ الوَرِكِ إلى الفَخِذِ كُلِّها في مكانٍ منْها بالطُّولِ ورُبَّما بَلَغَ السَّاقَ والقَدَمَ مُمْتَدّاً(4).
وصفه ابن القيم صاحب كتاب زاد المعاد الذي ضمنه الطب النبوي قائلا: عرق النساء: وجع يبتدئ من مفصل الورك وينزل من خلف على الفخذ وربما على الكعب وكلما طالت مدته زاد نزوله وتهزل معه الرجل والفخذ.
وسمي بذلك: لأن ألمه ينسي ما سواه(5)، فكم ممن ابتلى بعرق النسا وبأوجاع الوركين والركبتين وترهلت أوراكه وأعضاؤه ووجهه وأطرافه(6).
وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب من الجانب الوحشي فيما بين عظم الساق والوتر(7).
سبب تعين العلاج بشاة عربية:
جاء في علاج عرق النسا أن تكون إلية شاة عربية فما المراد بالشاة العربية؟ هل هي الشاة التي تعيش في الجزيرة العربية فقط أم المراد بها شيء آخر؟ يقول ابن القيم بعد وصف العلاج بالإلية بأنه من أنفع العلاج حيث أن المرض يحدث من يبس وقد يحدث من مادة غليظة لزجة فعلاجها بالإسهال.
ولذلك يقول ابن القيم: والألية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين ففيها الإنضاج والإخراج وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين(8).
فالشاة العربية إذن هي التي ترعى في الطبيعة وتعيش على النباتات الطبيعية والحشائش الغنية بمادة أميغا 3 مثل نبات الشيح والقَيْصُوم فالشاة الأعرابية بالغريزة ترعى الأعشاب المفيدة، وتبتعد عن الأعشاب السامة.
ولقد أكتشف العلم الحديث أكثر من 700 دواء من الأعشاب البرية فالشاة الأعرابية ترعى على النباتات البرية المفيدة وتهضمها وتحول زيوتها المفيدة إلى دهون تتركز في إليتها(9).
وفي تعيين الشاة الأعرابية فوائد جمة يعرفها من كان له عناية بالطب الشعبي أو ما يسمى بالطب البديل اليوم، فالشاة العربية إذن مقدمة على غيرها بل لا يصح العلاج المراد إلا بها لقلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها وخاصية مرعاها لأنها ترعى أعشاب البر الحارة كالشيح والقيصوم ونحوهما وهذه النباتات إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطفها تغذيه بها ويكسبها مزاجا ألطف منها ولا سيما الإلية، وظهور فعل هذه النباتات في اللبن أقوى منه في اللحم ولكن الخاصية التي في الإلية من الإنضاج والتليين لا توجد في اللبن، وهذا كما تقدم أن أدوية غالب الأمم والبوادي هي الأدوية المفردة (10).
أعراض عرق النسا:
تقدم أن عِرْقُ النَّسَاء: وجعٌ يبتدأ مِن مَفْصِل الوَرِك، وينزل مِن خلفٍ على الفخذ، وربما على الكعب، وكلما طالت مدتُه، زاد نزولُه، وتُهزَلُ معه الرجلُ والفَخِذُ وقد يرافق بالتنميل وضعف قوة الرجل(الطرف السفلي للجسم) وقد يترافق مع هذه الأعراض ألم بأسفل الظهر وقد تكون الأعراض خطيرة إذا رافقها عدم التحكم في إخراج الفضلات من الجسم، وامتداد ضعف الحركة أو التنميل إلى أعلى الرجل.
بيان الشروط الواردة في الحديث النبوي الشريف:
سبق بأن الإلية يجب أن تكون لكبش عربي ويتم تقطيعها إلى أوصال صغيرة ثم تذاب ثم يقسم زيتها إلى ثلاثة أقسام ثم يشرب كل قسم في يوم على الريق أي قبل تناول أي شيء قبله، فما الحكمة العلمية المستقاة من هذه الشروط التفصيلية؟
أما في قوله (تذاب) ففائدة ذلك هو لتعقيم الإلية برفع درجة الحرارة إلى درجة متوسطة كافية لقتل البكتريا والجراثيم إضافة لتذويب الدهون الغير مشبعة، ولكن دون الوصول إلى درجة حرارة عالية مثل ما يحدث في عملية القلي بالزيوت، حيث يتغير الشكل الهندسي للدهون الغير المشبعة من شكل الجيد للجسم البشري والمتوفر في الحالة الطبيعية للزيوت النباتية، إلى الشكل الغير طبيعي والذي تتحول فيه هذه الدهون إلى مواد ضارة بصحة الإنسان.
أما تقسيمها إلى ثلاثة أقسام لا أكثر ولا أقل فإن زيادة الجرعة إلى أكثر من ثلاثة قد يؤدي إلى تزنخ تزنخ وفساد الدهن بتعرضه للتأكسد الذي يكتشف بتغير طعمه، وأما إنقاص الجرعات إلى أقل من ثلاث فهو لأن الكمية الكبيرة من هذا الزيت الحيواني قد يؤدي تناولها دفعة واحدة إلى حدوث أعراض أو إصابة بتصلب الشرايين المفاجئ أو ما يسمى بالجلطة،
وأما قوله (على ريق النفس) فيبين أهمية أن يتناول الإنسان السائل الدهني على الريق حيث أن تناول الإنسان السائل على الريق يعني عدم وجود دهن آخر يمكن أن ينافس دهن الإلية ويعرقل استئثارها بالعديد من السوائل والأنزيمات المهمة، مثل سوائل المرارة والبنكرياس التي تعمل على تسهيل مرور الدهون عن طريق جدار القناة الهضمية إلى داخل الجسم، ومثل الأنزيمات التي تعمل ضمن الجدار الخلوي كي تحول دهون الإلية من نوع أوميغا ثلاثة إلى البرستجلندينات النافعة من الصنف الثالث والتي تخفف الالتهابات والآلام النتيجة عن مرض عرق النسا(11).
أسباب عرق النسا:
ولعرق النسا أسباب عدة يخبرنا بها الأطباء اليوم حيث أن أكثر حوادثه تنجم عن فتق النواة اللبية للغضاريف بين الفقرات والذي يؤدي إلى انضغاط الجذور العصبية، كما أن التعرض للبرد يسبب الاحتقان الدموي داخل السيساء المؤدي إلى ذلك الانضغاط، وقد تنجم عن الإنسمامات أو الإصابة بداء المفاصل الفقرية أو الأنتان بالعصيات الكولونية التي تستوطن الأمعاء وتصبح ممرضة في ظروف خاصة وهذا يؤدي إلى التهابات في بعض الأعصاب مما يؤدي إلى حدوث آلام عرق النسا(12).
دور الدهون في علاج عرق النسا:
أما من الناحية العلمية التفصيلية الدقيقة فقد وجد اليوم من يستطيع الغوص في مكونات المركبات الدهنية المتناهية في الصغر ليخبرنا عن أسرار الدهون بأنواعها وعلاقتها في علاج عرق النسا، يقول الدكتور زهير بن رابح قرامي: إن استقلاب الدهون في الغذاء يتفرع إلى ثلاثة مسارات، ترتبط كل واحدة منها بنوع الغذاء الدهني الذي يتناوله الإنسان بكمية عالية، بحيث نحصل على ثلاثة مركبات كيميائية تتباين أو حتى تتناقض في طبيعة مفعولها، وهذه المركبات هي شبيهة بالهورمونات وتسمى برستجلندينات، ومرد هذا التنوع هو اختلاف مفعول كل واحدة منها على الآلام والالتهابات في جسم الإنسان.
فهنالك البرستجلندين من الصنف الأول وهي تمنع الآلام، وهذه البرستجلندينات تنتج عن نوع من الأحماض الدهونية تسمى جاما لينولينيك gla التي تنتمي للدهون من مجموعة أوميغا ستة، وتوجد بصفة محدودة في بعض النباتات وخاصة نبتتين هما زهرة الربيع المسائية ونبات لسان الثور، ولذلك تباع المنتجات الدوائية المحتوية على هذين النبتتين بأسعار مرتفعة.
وتنفع هذه المنتجات من لا يملك أنزيمات فعالة لتحويل حامض اللينولييك إلى حامض جاما لينولينيك ثم برستجلندين من الصنف الثالث.
أما البرستجلندين من الصنف الثاني فهي تزيد من الآلام، وهي تنتج عن الدهون من مجموعة أوميغا ستة أيضا، وعلى رأسها حامض اللينولييك la، الموجود في الغذاء العصري مثل الكيك والمرجرين وغيرها، والزيوت النباتية السائلة التي حولتها صناعة الأغذية بالهدرجة إلى دهون ترانس الصلبة لتتماسك الكيكات والشكولاتات والحلويات في درجة حرارة الغرفة.
وتتميز البرستجلندينات من الصنف الثالث بخاصية تخفيف الآلام والإلتهابات ويتم تصنيعها انطلاقا من حامض ألفا لينولينيك ala الذي يتحول إلى مادتي epa و dha، وهما ينتجان من حامض ألفا لينولينيك الذي يوجد بكثرة في الزيوت الدهنية المكونة من الأعشاب الطبيعية والأوراق الخضراء، لذلك فهي ميزة للغذاء النباتي الطبيعي الذي يتغذى منه الإنسان والشاة الأعرابية.
والزيوت المحتوية على ألفا لينولينيك هي رخيصة الثمن وفي متناول الجميع، وتنتمي هذه الزيوت الدهنية إلى مجموعة أوميغا ثلاثة الشهيرة بمنافعها الجمة، والتي تبقى سائلة في درجة حرارة الغرفة، وللدهون من نوع أوميغا ثلاثة منافع متعددة ومن هذه المنافع: خفض الكلسترول والحماية من جلطة القلب والدماغ، والذبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، والروماتويد، والتصلب المتعدد في الجهاز العصبي، والصدفية والإكزيما، والسرطان، كما ثبت أن الدهون من نوع سيس لها دور في تخفيف الشحوم في الجسم وتخفيف الوزن.
وعلى عكس الدهون التي في إلية الشاة الأعرابية من نوع أوميغا ثلاثة، فإن الدهون الحيوانية المشبعة والدهون النباتية المهدرجة التي تحولها الصناعة الغذائية إلى دهون من صنف ترانس، والدهون من نوع أوميغا ستة، لا يوجد فيها مثل المنافع التي ذكرناها في دهون أوميغا ثلاثة بل تسبب أضرارا عديدة.
ويمكن فهم هذا التنوع الكبير في منافع الدهون أوميغا ثلاثة بتوضيح التأثير الفزيولوجي للأحماض الدهنية الأساسية، ومن هذا التأثير تكوين المادة الخام في نسيج الدماغ والعين، والأذن، والغدد التناسلية والغدة الكظرية، وتدخل هذه الأحماض الأساسية في تكوين الغشاء المحيط بكل خلية في الجسم والذي يقوم بدور حمايتها وكما ثبت أن لها دورا في ترميم الأنسجة العصبية ومنها الأضرار الناتجة عن فتق النواة اللبية التي هي من أهم أسباب آلام عرق النسا كما أثبت العلم الحديث أن للدهون من نوع أوميغا ثلاثة فوائد جمة في علاج التهابات الأنسجة العصبية، والتي هي السبب الثاني لآلام عرق النسا.
حيث صدر كتاب متخصص في هذا المجال في سنة 1998، ألفه جويل كريمر أستاذ الطب ورئيس قسم الروماتزم في كلية الطب بنيويورك، ونشر هذا الكتاب بعنوان الدهون الطبية والإلتهابات وصدر عن دار بركهاوزر فيرلاق ويحتوي الكتاب على تفاصيل واسعة عن الكيمياء الحيوية في موضوع علاج الالتهاب بالدهون من نوع أوميغا ثلاثة(13).
وجه الإعجاز:
ذكرنا أن من يعطي وصفة طبية لآخر فهو أحد اثنين إما أن يكون طبيبا وإما أن يكون قد أخبر من مصدر آخر أعلم بهذا المرض منه! وقد بينا أن رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن طبيبا ولم يعرف عنه أنه كان يمارسه بل لا يعرف من في زمنه من كان يصف العلاج بهذه الصورة ممن كان يمارس الطب في زمنه فإن وصفة العلاج التي مرت بنا هي فريدة من نوعها لم يسبق أن دونها أحد من الحكماء ولا الأطباء.
بقي إذن الاحتمال الآخر وهو هل أخبر محمدا أحد ممن له خبرة في الطب؟ نعم إنه الله الذي ﴿إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80].
فقد أخبرنا نبينا بأنه رسول أرسله الله واصطفاه ليكون شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكان بالفعل سراجا منيرا أخرج الله من آمن به من الظلمات إلى النور وصاروا يعبدون خالقهم على بصيرة وعلى حجة وبرهان لا على بدع وأهواء وخرافات ونظريات ابتدعها البشر وأرادوا من غيرهم أن يتبعوها قسرا وإلزاما.
جاءنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا القرآن وزكاه الله فيه فقال: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3, 4].
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل إن الله تعالى جعل في هذا القرآن من الأسرار التي صارت تنكشف لنا في عصر العلم يوما بعد يوم حتى يكون المؤمنون على يقين بأن هذا القرآن جاء من عند الله سبحانه وليس هو أساطير الأولين وزاده حجة وبرهانا بأن جعله محفوظا من التحريف والتبديل، فهو ذا محفوظ لم يطرأ عليه التبديل منذ ألف وأربعمائة عام بل وإلى يوم القيامة فقال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].
ونحن نرى كتب أهل الكتاب كيف حرفت وبدلت وزادوا فيها ونقصوا حتى صار بدل الأنجيل أربعة أناجيل إن لم تكن ثمانية، فأين عقول أهل العقول الذين أعطاهم الله العلم وصاروا بأنفسهم يشهدون أن هذا القرآن هو من عند خالق يخلق بيده مقاليد السماوات والأرض فسبحان الله القائل: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 54].
إعداد وترتيب: قسطاس إبراهيم النعيمي.
11/ 11/ 2008م.
مراجعة: محمد المحمدي.