شيئا فشيئا يبدو المشهد الذي أتى به ربيع العرب وكأنه تكرار لمشاهد ربيعية غطت بعض أجزاء أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي، البرازيل والأورغواي والأرجنتين والشيلي على وجه الخصوص. ومراعاة للدقة تكفي الإشارة إلى وجود أوجه شبه بين الربيع في بلاد العرب اليوم، وفي جنوب أميركا اللاتينية بالأمس، تتمثل بشلال الدماء من جهة وبمعطى يفيد بأن إسقاط الرئيس لا يعني على الإطلاق إسقاط النظام من جهة ثانية. أما غاية الذين يخلطون بين الرئيس والنظام فهي الخداع وإيهام الناس بأن ظروف عيشهم سوف تتغير نحو الأفضل، وهذا ليس صحيحا. إذ أن إسقاط النظام مسألة صعبة جدا، وتكاد أن تكون مستحيلة. طالما أن الذين وضعوا ركائزه وفرضوه، ثم نصبوا الرئيس وأملوا عليه السياسات التي اتبعها والاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمها، هم أنفسهم الذين يقفون مع المحتجين يشجعونهم على التظاهر ضده والمطالبة بإسقاطه، بحجة أنه فقد شرعية، كان يحوزها فتوجب عليه التنحي عن السلطة فورا من وجهة نظرهم، وبحسب إرادتهم أيضا.
هذا التحول في المواقف ليس جديدا. فلقد تمت تجربته في أميركا اللاتينية عندما استقدمت الولايات المتحدة الأمريكية، إلى بلدانها ربيعا أحمر قان، بلون الدم أثمر نظما ديكتاتورية كان أبرزها نظام الجنرال بينوشيه سنة 1973 الذي أطاح بواسطة انقلاب عسكري بحكومة الرئيس سلفادور ألندي. استطاع العسكر فرض نظام ليبرالي اقتضى تصفية الأحزاب الوطنية، وكسر منظمات العمل الشعبي الجمعي، وفي مقدمتها النقابات العمالية، فضلا عن إلغاء القوانين الناظمة للاقتصاد الوطني، ضمانة لحقوق الناس بالعمل وبأجر يمنحهم قدرة شرائية كافية لتلبية حوائجهم، واستبدالها بقوانين تحرر الأسعار من أية قيود وتُخضع الاقتصاد الوطني لمشيئة السوق العالمية وتقلباتها دون الأخذ بعين الاعتبار اختلاف مستويات النمو وعادات الاستهلاك من بلد إلى آخر. وما أن أنجزوا ذلك حتى أطلقت مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية، الخاصة والحكومية، حملات ضد العسكريين الذين استولوا على السلطة في بلادهم، تنفيذا لرغبات الولايات المتحدة نفسها. وراحت تحث منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان على إثارة موضوع انتهاك هذه الحقوق في ظل حكم العسكريين وعلى ممارسة الضغوط عليهم لكي يحدوا من عسفهم وتجبرهم. ثم تصاعدت هذه الحملات تدريجيا إلى أن تجرأ الناس الذين روعهم القمع وأفقرهم جشع أصحاب النفوذ، على تحدي الاستبداد والتظاهر ضد النظام. فسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى نزع الشرعية عن الحكام الذين كانت قد صنعتهم، وأمرتهم بالتنحي، أو تخلت عن حمايتهم وتركتهم يواجهون غضب الجماهير.