قال رحمه الله و طيب ثراه في مطلع كتابه (التبصير بمعالم الدين):
القول في المعاني التي تدرك حقائق المعلومات من أمور الدين، وما يسع الجهل به منه، وما لا يسع ذلك فيه، وما يعذر بالخطأ فيه المجتهد الطالب، وما لا يعذر بذلك فيه.
اعلموا –رحمكم الله- أن كل معلومٍ للخلق من أمر الدين والدنيا أن تخرج من أحد معنيين:
(أ) من أن يكون إما معلوماً لهم بإدراك حواسهم إياه.
(ب) وإما معلوماً لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم
ثم لن يعدو جميع أمور الدين –الذي امتحن الله به عباده- معنيين:
أحدهما: توحيد الله وعدله.
والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلالٍ وحرامٍ وأقضيةٍ وأحكام.
(أ) فأما توحيده وعدله: فمدركةٌ حقيقة علمه استدلالاً بما أدركته الحواس.
(ب) وأما شرائعه فمدركةٌ حقيقة علم بعضها حساً بالسمع، وعلم بعضها استدلالاً بما أدركته حاسة السمع.
ثم القول فيما أدركت حقيقة علمه منه استدلالاً على وجهين:
أحدهما: معذورٌ فيه بالخطأ والمخطئ، ومأجورٌ فيه على الاجتهاد والفحص والطلب؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ)) .
وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلفةً غير مؤتلفةٍ، والأصول في الدلالة عليه مفترقةً غير متفقةٍ،
وإن كان لا يخلو من دليل على الصحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنه يغمض بعضه غموضاً يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثيرٍ من بغاته.
والآخر منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مكلفٌ قد بلغ حد الأمر والنهي، ومكفرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحته متفقةً غير مفترقة، ومؤتلفةً غير مختلفةٍ، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس.
وأما ما أدركت حقيقة علمه منه حساً، فغير لازمٍ فرضه أحداً إلا بعد وقوعه تحت حسه، فأما وهو واقعٌ تحت حسه فلا سبيل له إلى العلم به، وإذا لم تكن له إلى العلم به سبيلٌ، لم يجز تكلفيه فرض العمل به، مع ارتفاع العلم به؛ وذلك أنه من لم ينته إليه الخبر بأن الله تعالى ذكره بعث رسولاً يأمر الناس بإقامة خمس صلواتٍ كل يومٍ وليلةٍ، لم يجز أن يكون معذباً على تركه إقامة الصلوات الخمس. لأن ذلك من الأمر الذي لا يدرك إلابالسماع، ومن لم يسمع ذلك ولم يبلغه؛ فلم تلزمه الحجة به، وإنما يلزم فرضه من ثبتت عليه به الحجة.
فأما الذي لا يجوز الجهل به من دين الله لمن كان في قلبه من أهل التكليف لوجود الأدلة متفقةً في الدلالة عليه غير مختلفةٍ،
ظاهرةً للحس غير خفية، فتوحيد الله تعالى ذكره، والعلم بأسمائه وصفاته وعدله، وذلك أن كل من بلغ حد التكليف من أهل الصحة والسلامة، فلن يعدم دليلاً دالاً وبرهاناً واضحاً يدله على وحدانية ربه جل ثناؤه، ويوضح له حقيقة صحة ذلك؛ ولذلك لم يعذر الله جل ذكره أحداً كان بالصفة التي وصفت بالجهل وبأسمائه، وألحقه إن مات على الجهل به بمنازل أهل العناد فيه تعالى ذكره، والخلاف عليه بعد العلم به، وبربوبيته في أحكام الدنيا، وعذاب الآخرة فقال –جل ثناؤه-: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} .
فسوى –جل ثناؤه- بين هذا العامل في غير ما يرضيه على حسبانه أنه في عمله عاملٌ بما يرضيه في تسميته في الدنيا بأسماء أعدائه المعاندين له، الجاحدين ربوبيته مع علمهم بأنه ربهم، وألحقه بهم في الآخرة في العقاب والعذاب. وذلك لما وصفنا من
استواء حال المجتهد المخطئ في وحدانيته وأسمائه وصفاته وعدله، وحال المعاند في ذلك في ظهور الأدلة الدالة المتفقة غير المفترقة لحواسهما، فلما استويا في قطع الله –جل وعز- عذرهما بما أظهر لحواسهما من الأدلة والحجج، وجبت التسوية بينهما في العذاب والعقاب.
وخالف حكم ذلك حكم الجهل بالشرائع، لما وصفت من أن من لم يقطع الله عذره بحجة أقامها عليه بفريضة ألزمه إياها من شرائع الدين، فلا سبيل له إلى العلم بوجوب فرضها؛ إذ لا دلالة على وجوب فرضها، وإذا كان ذلك كذلك لم يكن مأموراً، وإذا لم يكن مأموراً لم يكن بترك العمل لله –عز ذكره- عاصياً، ولا لأمر ربه مخالفاً؛ فيستحق عقابه؛ لأن الطاعة والمعصية إنما تكون باتباع الأمر ومخالفته.
و قال ص 122:
فلذلك افترق القول في حكم الخطأ في التوحيد، وحكم الخطأ في شرائع الدين وفرائضه.
و قال ص123 :
وإذا كان صحيحاً ما قلنا بالذي عليه استشهدنا، فواجبٌ أن يكون كل من بلغ حد التكليف من الذكور والإناث وذلك قبل أن يحتلم الغلام أو يبلغ حد الاحتلام، وأن تحيض الجارية أو تبلغ حد المحيض - فلم يعرف صانعه بأسمائه وصفاته التي تدرك بالأدلة بعد بلوغه الحد الذي حددت، فهو كافرٌ حلال الدم والمال، إلا أن يكون من أهل العهد الذين صولح سلفهم على الجزية وأقهروا فمن عليهم ووصف عليهم خراجٌ يؤدونه إلى المسلمين، فيكون من أجل ذلك محقون الدم والمال وإن كان كافراً.
فائدة:
1-ذكر سماحة العلامة الامام عبد العزيز بن باز أن من غيرت فطرته لحال مجتمعه و فرضنا أن الآيات لم تصله فله حكم أهل الفترة (لا حظ لم يجعله مسلما)
2-اعترض الشيخ على قتل من لم يحتلم .
الشريط الاول من شرح التبصير .