“سيدة المقام” رواية صدرت في العام 95 عن منشورات الجمل، للروائي الجزائري واسيني الأعرج، يصوّر بها الكاتب - على لسان بطله الراوي - وجهاً للمأساة الدائرة على أرض الجزائر، والتي لا يرى لها نهاية تلوح في الأفق·· إنما إصراراً همجياً - تؤكده الأحداث اليومية - للتوغل أكثر في قلب المأساة·
كانت “سيدة المقام” راوية لمجازر، وحرائق، وجهالات، وتصويراً عن قرب لمشاهد هدم المجتمع المدني بأيدي أبنائه، وتقويض أساساته انقياداً لأفهام خاطئة مدمرة، أو رغبة في “تعميم” الخراب· إلا أن هذه الرواية بعرضها ل “مرثيات اليوم الحزين” ترسم “تواءما” لمأساة تتدحرج فصولها على ساحات بلدان عربية أخرى، بخلاف الجزائر، قد يكون للكويت نصيب من فصل مقبل·· وإن لن يكون الأخير!
ينسج واسيني الأعرج خيوط حكايته، ويداخل بين فصولها، وأزمانها المتعددة، ويظل القارئ ممسكاً بخيط غامض، إلى أن يصل فيما بعد إلى ساحة الحدث، ومشاهد الدمار، متتبعاً ذكريات الراوي حيناً، وخواطر ترد على لسان بطلة الرواية مريم “سيدة المقام” أحيانا أخرى اللذين يشتركان معاً في إكمال المشهد، معتمدين - كما يريد منهما الكاتب - على إضاءات من flash back·
تقول مريم في أحد المقاطع: “شباب في عز عنفوانه، قمعت الحياة في عينيه، فأدخلوه عالم الجنة والجحيم في رمشة عين·! مكاتب بيشاور (باكستان) فتحت لهم الأبواب داخل دروب الجنة والرخاء، ثم أغلقتها على مرتفعات أفغانستان· البائعون الذين تساوموا على رؤوسهم، عادوا يتاجرون·· إحدى الأمهات من اللواتي سرقت تجارة بيشاور ابنها رأت حلما بيّتها واقفة على رؤوس أصابعها· رأت ابنها في المنام، يأخذه أربعة أشخاص يرتدون عباءات بيضاء، أخذوه ورموه في البحر”·
وتواصل مريم حكاية هذا المغرر به، وكيف أن الخبر قد نشر بعد أيام من حلم الأم على صفحات إحدى الصحف، ليصرخ أباه بعد ذلك “ابني استشهد، لقد قبلت بهذا القدر المحتوم· فليبعدوا عن أبنائي الآخرين”·
تعتمد أغلب حوادث الرواية، على حقائق عاشها أبناء المجتمع الجزائري (تعيشها الآن مجتمعات عربية أخرى وإن بدرجات متفاوتة) مثل تكفير المجتمع المدني، والتفكير ببناء خلافة إسلامية، والتخلص من جاهلية الحكام والمحكومين الراغبين في سيادة القوانين الوضعية، تطبيق الحد الشرعي بالقوة دون الاحتكام للسلطات، الهجرة إلى “قاعدة” الدولة الإسلامية الحقة في أفغانستان أو الشيشان أو أية بقاع أخرى تحيا خارج دائرة العصر، التمسك بمظاهر التدين، والتشدد في ذلك·
تقول مريم “سيدة المقام”: “لاشيء تغيّر سوى هذه المدينة الوحيدة التي تموت بين اللحظة واللحظة، وتتهاوى كل يوم مثل الورق اليابس، كل شيء فيها بدأ يفقد معناه، الشوارع، السيارات، البنايات، حتى الوجوه التي تعودنا على وضاءتها صارت متسخة، الأشواق التي تحتل قلب المدينة، لم تعد تحفل كثيراً بالفرح، الطالبات عندما أراهن في ساحة المعهد، ينتابني الإحساس بأن جدّتي كانت أكثر تحرراً··”
تدور فصول رواية الأعرج حول نهاية فتاة جزائرية، “مريم” أو “سيدة المقام” صديقة الراوي التي تواجه هجمة المجتمع الشرسة، ونظرته لها باستخفاف كـ “راقصة باليه”، فتواصل هذه السيدة التي تكشف صفحات الرواية عن قوة عزمها في خوض معركتيها، الأولى في إصرارها على إكمال حفلتها الموسيقية في أداء مسرحية “شهرزاد” تحت رعاية معلمتها الروسية “آناطوليا”·· (التي طردت من الجزائر بعد مضايقتها)، ووسط معارضة “حراس النوايا” من شباب الحركات الأصولية التي انتشرت دعواتهم في كل الأحياء، هذا التحدي الذي يقودها إلى نزيف دماغي - بعد إكمال عرضها المسرحي - بسبب حادثة تعرضت لها قبل سنوات، حينما أصابت رصاصة طائشة رأسها، واستقرت به، نتيجة مواجهة جرت بين رجال الأمن وإحدى الجماعات الأصولية القريبة من حيها السكني، لم يكن لها علاقة بالفريقين·· (نصحها الأطباء بعد الحادث الذي نجت منه بأعجوبة أن لا تبذل مجهوداً بدنياً أو ذهنياً)·
وثاني معاركها في تحديها لمن أسمتهم منذ بداية الرواية بـ “حراس النوايا” الذين طوقوا أجواء المدن الجزائرية، وحبسوا بحرها، وغيبوا سماءها، بسحب سوداء، جاءت بها تعاليمهم المتشددة في الدين!
وسط هذه الخواطر المتواترة، لاينسى الكاتب أن يترك مساحات كبيرة من البوح المباشر بين بطلي الرواية، المدرس الجامعي، ولاعبة الباليه “سيدة المقام”، وأجواء نادرة تنفسا بها بعيداً عن رقابة “حراس النوايا” وسحبهم الداكنة التي ملأت شوارع المدينة·
تنتهي الرواية، بضياع بطلنا - الراوي - في شوارع الجزائر بعد خروجه من مبنى المستشفى، حيث لفظت “مريم” أنفاسها الأخيرة، ويقوده ضياعه هذا إلى جسر “تليملي” في إحدى ساحات المدينة، حيث رمت قبل أعوام كاتبة جزائرية جسدها من فوقه، ليصبح خياراً وحيداً لإنسان ضيق عليه مجتمعه آفاق الحرية الشخصية، والتعبير، والتفكير، وحتى في الملبس والمأكل·
يرمي بطلنا فصول روايته من فوق الجسر، يائساً من جدوى الكتابة في مجتمع لا يقرأ، ولا يريد أن يقرأ·· بينما ترتخي يداه من أعلى الجسر الحديدي إلى نهايات مفتوحة·· إلى المتاهة·
تماهت صورة الفتاة المحاربة في حريتها، وأحلامها (تروي في إحدى خواطرها تعرضها إلى حادثة اغتصاب من زوجها الذي أجبرت على الزواج منه) تماهت تلك الصورة بصورة البلاد المغتصبة على أيدي حراس جهلة، يفتشون صدور مجتمعهم، ويحاسبون على النوايا، فهل للبلدان أيضاً انتحارات شبيهة بنهايات اليائسين؟!
يلقي الكاتب - الراوي - باللائمة على طبيعة النظم الاستبدادية الحاكمة، التي هيأت بتهاونها قدوم الجماعات الأصولية، فيقول:
· بنو كلبون” سحقوا العقول، وقالوا: رجُلٌ يفكرّ معناه مشكلة إضافية، ولكنهم كانوا يعبّدون الطريق لحراس النوايا الذين يقولون: رجلٌ جاهل، رجلٌ مضمون··”·
· يصوّر الكاتب سيطرة الجماعات الدينية على واقع المجتمع المدني، حيث يجوب “حراس النوايا” شوارع المدينة، فارضين أوامرهم بغير المعروف، وناهين عما يرونه منكراً، وأمام تلك التصرفات يصور قلة حيلة بلدية المدينة (كإحدى مؤسسات السلطة الرسمية)، وعجزها عن التدخل، لرفع الظلم الواقع، أو تغليب كفة القوانين، التي يرونها تنتهك أمام أعينهم·· وعلى حواجز التفتيش، وفي تنفيذ الحدود الشرعية (وغير الشرعية!) على أيدي الشبان الأصوليين، وإغلاق المحلات، والتدقيق في الهويات الحزبية، وبطاقات العائلة··!
· يصل الكاتب - بتحليل نفسي - إلى أسباب الغلو في التدين، عند إحدى شخصيات الرواية (عم مريم وزوج أمها) إلى مشاكل شخصية، لاعلاقة لها بالإيمان، مثل العجز الذي يعاني منه العم، مما دفعه إلى إطالة اللحية والانضمام إلى إحدى الجماعات الدينية، التي شكلت له ملجأ نفسياً آمناً·· ثم ظهور علامات المرض النفسي في الانطواء، والانسحاب من الحياة العامة، والوصول إلى أقصى حالات النكوص والهلوسة!·
رواية “سيدة المقام” - مرثيات اليوم الحزين للروائي الجزائري واسيني الأعرج تحتاج إلى أكثر من قراءة، وأكثر من مساحة للتأمل