من الصفات التي ذم الوحي الغفلة: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولـئك هم الغافلون}، وقد نهى المولى سبحانه عنها فقال: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}، وقد تكون الغفلة عقوبة من الله للعبد على معاصيه: “لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين”.
وللغفلة مجالات متعددة، فقد تكون عن الطاعة، وقد تكون عن التوبة، وقد تكون عن ذكر الله، وقد تكون عن رد المظالم، وقد تكون عن الدار الآخرة، فهي مرض خطير، وداء مخيف، والإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح له نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، فإذا تيقن من الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته، فندم على تفريطه ندامة لا تنفع، وحينها يطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحا فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه مع سكرات الموت حسرات الفوت. ولما علم الربيع بن خيثم هذه الحقيقة حفر في داره قبرا، فكان إذا وجد في قلبه قسوة دخل فيه فاضطجع ومكث ساعة، ثم قال: {رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت}، ثم يقول: يا ربيع، قد أُرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع.
وحقيقة الغفلة الانغماس في الدنيا وشهواتها ونسيان الآخرة؛ حيث يتحوّل الإنسان إلى كائن له قلب ولكن لا يفقه به، وله عين ولكن لا يرى بها، وله أذن ولكن لا يسمع بها: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}، فترى الغافل يجدّ ويجتهد في تعمير دنياه الفانية، ويعرض عن أخراه الباقية، فيكره لقاء الله، لأنه يعلم أنه لم يقدم لنفسه شيئا، فيخاف أن ينتقل من العمران إلى الخراب.
وأهل الغفلة لهم علامات، فمن ذلك التكاسل عن الطاعة: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى}، ومن علاماتهم استصغار المحرمات: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا”. ومن علامات الغفلة الجهر بالمعصية: “كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح يكشف ستر الله عنه”.
ومن العلامات كذلك حب الدنيا، فحب الدنيا رأس كل خطيئة، كما ورد في الحكمة، ويقول الحق سبحانه: {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “إن أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وشؤونها، فهم فيها حذاق، أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عن أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة”، فالكثير مجالسهم ليس فيها من حديث ذي شأن إلا عن الدنيا، وعن المال، وعن النساء، وعن الشهوات، وهم عن آخرتهم غافلون.
فالذي سكر بحب الدنيا لا ينتبه ولا يفيق إلا وهو في عسكر الموتى، وهؤلاء الصنف يقول عنهم المعصوم: “إن الله يبغض كل جعظري (المتكبر، الفظ الغليظ)، جواظ (المختال في مشيه)، سخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار”.
ومن علامات الغافلين ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضا في قلوب الخلق”. ومن علامات الغافلين مصاحبة أهل السوء، فالطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء: “مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة”.
* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1