كيف اخترع الاستعمار الفرنسي التقسيمات العرقية في شمال أفريقيا؟ - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الأنساب ، القبائل و البطون > منتدى القبائل العربية و البربرية

منتدى القبائل العربية و البربرية دردشة حول أنساب، فروع، و مشجرات قبائل المغرب الأقصى، تونس، ليبيا، مصر، موريتانيا و كذا باقي الدول العربية

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

كيف اخترع الاستعمار الفرنسي التقسيمات العرقية في شمال أفريقيا؟

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2023-05-21, 09:30   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
سندباد علي بابا
محظور
 
إحصائية العضو










B11 كيف اخترع الاستعمار الفرنسي التقسيمات العرقية في شمال أفريقيا؟

كيف اخترع الاستعمار الفرنسي التقسيمات العرقية في شمال أفريقيا؟

مقدمة

كتب النص الأصلي رمزي الرويغي، الأستاذ المشارك في دراسات الشرق الأوسط بجامعة جنوب كاليفورنيا ومؤلف كتاب "اختراع البربر: التاريخ والأيديولوجيا في المغرب". يناقش الرويغي مسألة العِرق في المغرب العربي كمنتج ثانوي للاستعمار الفرنسي أفرزت حقائق حديثة تشكّلت على إثرها نظرة المجتمعات المغاربية لذاتها القومية والمحليّة ونجمت عنها تقسيمات عرقية واجتماعية مُخترعة بالكامل.
نص الترجمة

بعد ثلاثة قرون على وصول كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا، كان الأوروبيّون قد أبحروا إلى أقصى بقاع الأرض للتجارة في أسواقها وأسواق أفريقيا وآسيا. وكانت بلاد المغرب، التي لا يفصلها عن أوروبا سوى البحر الأبيض المتوسط، أراض معروفة لهم. فقد خاض الأوروبيّون ضد أهلها العديد من الحروب على مدار قرون، وشيدوا الفنادق(1) والكنائس وحتى المقابر على مدنها الساحليّة الكبرى. لكن المدهش أن ذلك لم يمنع جهل الأوروبيين بهوية السكان، وبطبيعة العلاقة بين الألقاب التي أطلقوها عليهم والألقاب التي كانوا هم يطلقونها على أنفسهم. حيث ظلّ لقب "المور" يلازم سكان هذه المنطقة لقرون، حتى بعد أن اتضح للأوروبيين أن الوصف لا ينطبق على المجموعات التي اعتقدوا أنها في الأصل تنتمي لمجموعة واحدة.

"المور" هو اللقب الذي اعتاد الأوروبيون استخدامه منذ العهد الروماني لوصف مجموعات سكّانية متنوعة اتخذت من بلاد المغرب موطنا لها، ما يعني أن اللقب ضارب في القدم. ومع أنه قد لا يكون من بين الأسماء التي أطلقها السكان على أنفسهم، غير أن استخدامه أدى إلى تجاهل مسألة أكثر تعقيدا، هي طريقة تعريف هؤلاء الناس لأنفسهم لأن ما نعرفه عن المور القدامى هو ما وصلنا من الرومان. عندما فتح العرب المسلمون المغرب في القرن السابع الميلادي أطلقوا لقب "البربر" على أولئك الذين اعتاد الرومان تسميتهم بالمور، بالإضافة إلى من أسماهم الرومان بالبرابرة أو غيرها من المسميات.

لكن بعد أكثر من 1000 سنة على الفتح الإسلامي، أي بحلول القرن الثامن عشر، لم يعد سكّان بلاد المغرب يعرّفون أنفسهم بالمور ولكن على إنّهم إمّا عرب أو بربر. وكانت البلاد التي يناديها الأوروبيون "أرض البربر" أو بربرية، جزءا مما يسمى بـ "المغرب"، وهي ذات التسمية التي أطلقها العثمانيون على "دول بارباري" أو "بربرية"، ألا وهي ممالك الجزائر وتونس وطرابلس.

كان من المربك للأوروبيين مواصلة تسمية السكان بـ "المور" بينما البلاد تسمى "بارباري" أو " بربرية" بمعنى "أرض البربر"، فقد خيل لهم أن مفردة "مور" لا تمت بصلة للبربر. لحل هذا اللبس، بدأ الفرنسيون خلال القرن التاسع عشر، في محاولة التوصل إلى حل للأمر وابتكار طريقة جديدة في الإشارة إلى الأهالي، وهي طريقة عمدت إلى تكييف التسميات التي يطلقها السكان المحليون على أنفسهم في مشروع الكولونيالية الفرنسية في الجزائر. في خضم هذه العملية، تحولت "أرض البربر" إلى "شمال أفريقيا"، وتحول العرب إلى "ساميين مشرقيين"، وأصبح البربر عرقا أبيض – أو أنّهم على الأقل لم يكونوا عرقا أسود، وباتوا يعرّفون على أنهم السكّان الأصليّون لشمال أفريقيا.

اليوم يُتفق على تسمية البربر من شرق مصر إلى ضفاف الأطلسي بالأمازيغ، وهو اسم معهود من قديم الزمان سميت به قبائل ومداشر عدة كالتي تسكن اليوم وسط المغرب الأقصى. وعلى عكس لفظة "بربر" التي عادة ما تحيل إلى معنى "البربرية"، تأتي لفظة الأمازيغ مصحوبة بتفسير أسطوري وباعث على التفكير في آن واحد معا، ومعناها هو "الرجال الأحرار".

كان وليام شالر، القنصل الأميركي العام في مدينة الجزائر، قد حل بالمدينة عام 1815 ممثلا عن الولايات المتحدة الأمريكية في مفاوضات السلام التي أعقبت ما يسمى بحرب ساحل البربر. في إقامة امتدت لعشرة أعوام، خالط شالر التجار والدبلوماسيين الأجانب، الذين كانوا في أغلبهم من الفرنسيين والطليان، في حفلات كانت تقام "للمتحضرين"، حيث عم الحديث باللغة الفرنسية وغلب شرب النبيذ الفرنسي المشهور. من خلال هؤلاء وبالإضافة إلى شيء من أدب الرحلات تمكن شالر من جمع بعض المعلومات حول السكان المحليين والتي أصبحت الأساس الذي توسع منه لاحقا إلى كتابه الصادر عام 1826 "مذكّرات وليام شالر" (ترجمة: إسماعيل العربي – الحركة الوطنية للنشر والتوزيع)، وهو عمل يمثل المعرفة الأوروبية عن "الساحل البربري" على أفضل وجه.

تزودنا مذكرات شالر بمعلومات دقيقة حول الشئون التجارية والعسكرية في الجزائر. لكنها أيضا محشوة بالمغالطات، والحقائق الناقصة والالتباسات حول البلاد وساكنيها المحليين. كغيره من الأجانب المقيمين في العاصمة، لم يكن شالر يتكلم أو يفهم تركيّة المسؤولين الحكوميين، أو لغة العرب "الموريين" الذين شكّلوا غالبية السكان أو العبرية التي استخدمها اليهود في معابدهم. ينطبق الأمر ذاته على ما كان يعرفه عن لهجات البربر حيث اختزل كل اللهجات إلى لهجة واحدة هي الشاوية بالقول: "لغة الشاوية هي لغة جميع القبائل التي تسكن جبال أطلس ومختلف سلاسله التي تمتد في الجزائر وتونس، وهي أيضا لغة سكان الصحراء التي تمتد من الغرب الأقصى حتى واحة سيوة، وذلك باستثناء المناطق التي فتحها العرب ودخلوا إليها".

لكن شالر كان مصيبا في حديثه عنهم: "وهذا الشعب يسمى أيضا "البربر"، ومن هذه الكلمة اشتقت "بارباري" التي تُطلَقُ باللغة الإنجليزية على هذه المنطقة من العالم، ولكن هذه التسمية ليست سوى مصطلحا تاريخيا قديما". وجاء المؤلفون الذين أجادوا اللغة العربية من أمثال ليون الإفريقي (الوزان) (1485-1554) ولويس ديل مارمول كارفخال (1520-1600)، على ذكر وجود البربر، لكن الأوروبيين عانوا في معرفة صلتهم بالمور. بحلول القرن التاسع عشر، أصبح "مور" مصطلحا جامعا، يشمل، كما يذكر شالر: "الأفارقة والبربر والعرب والمهاجرين القادمين من إسبانيا وتركيا وبلدان أخرى".

رغم كل الغموض، وشيء من الارتباك، كان الأوروبيون واثقين من أن المور لم يكونوا من البربر. وكان شالر قد تناول هذه الفكرة التقليدية التي لا تزال سائدة حتى يومنا هذا: "والبربر شعب ينحدر من العرق الأبيض، يعيش في البقعة الممتدة من سلسلة جبال أطلس حتى حدود الصحراء الكبرى"، وأضاف شالر أن البربر ربما عاشوا تحت سلطة المور لكن "الحكومات الموريّة" لم تنجح في إخضاعهم لأن البربر، سياسيا "كهنود المسيسيبي، يعيشون في دولة ذات استقلال همجي".

كان جمهور شالر المستهدف هو الجمهور الأميركي، ولا عجب أن مقارناته أخذت صبغة أميركية في بعض الأحيان. حيث قام بتصوير الأمازيغ والقبائليين والطوارق والسيوييّن، وهي الأمم الأربع المفترضة للبربر، على أنها تنحدر جميعا من العرق الأبيض، والأمر ذاته ينطبق على المور وحتى العرب الآسيويين. مع أنّه لم يفصّل في المعيار الذي وضعه لتعيينهم بياضهم، فكل ما كان يعنيه شالر هو أنهم لم يكونوا من السود.

وعبر ألكسيس دو توكفيل عن تلك الفكرة المتداولة في أوساط الأنتلجنسيا الباريسية في كتابته عن مدينة الجزائر عام 1837، أي بعد سبع سنوات على الاحتلال الفرنسي لها بالقول "لم تكن لدينا فكرة واضحة عن الأعراق المختلفة التي سكنت البلاد، أو عن عاداتهم، كذلك لم نكن على دراية بأي كلمة من اللغات المنطوقة هناك". لكن هذا لم يمنعه من الاعتراف بأن "جهلنا الكامل تقريبا بكل هذه الأمور، لم يمثل عقبة أمام انتصارنا، لأن النصر في المعركة حليف الأقوى والأكثر جسارة، لا الأكثر اطلاعا". بعد الاستيلاء على مدينة الجزائر، لجأ الجنرالات الفرنسيون إلى استخدام مستويات خارقة للعادة من العنف في إخضاع السكان. وقضى الآلاف نحبهم، بعدما قاد الجيش الفرنسي المدنيين إلى الكهوف وأضرم النيران مما أدى إلى موتهم اختناقا بالدخان. بعد إعدام قادة المقاومة الجزائرية، قام الجنود الفرنسيون بجمع جماجم الضحايا وإرسالها إلى فرنسا كتذكار للنصر ولكي تستخدم أيضا كعينات في الدراسة العلمية. ولا يزال بعضها محفوظا في "متحف الإنسان"(Musée de l’Homme) في باريس.

رفع حكام الجزائر الرايات البيضاء أمام فرنسا شريطة حرية الممارسة الدينية والاحتكام إلى مرجعياتهم في حل النزاعات الدائرة بينهم. فبما أنّ الحكم العثماني قام على شرط توفير الحماية لمسلمي المغرب من المسيحيين الإسبان، كان التمسك بهويتهم الإسلامية أساسيا بالنسبة لهم. إلا أن مقاومة الاحتلال لم تكن دينية فقط، حيث حشدت إلى جانبها مقاومة بطابع قبلي. وكان على الفرنسيين إيجاد وسائل تمكّنهم من تجريد كلا المقاومتين من فعاليتها. فقاموا بتأسيس "المكاتب العربية" (bureaux arabes) في عام 1844، وهي الواجهة الادارية لجهود جيش الاحتلال في تهدئة السكان.

ونجحت المكاتب العربية، باستخدام القوة المفرطة، وتشريد آلاف من السكان، والتحكم في سبل العيش، في إخضاع الجزائريين ضمن "نظام ثابت من العنف المكثف والمفرط الذي استمر طيلة قرن كامل"، كما يورد جيمس ماكدوغل في كتاب "تاريخ الجزائر" الصادر عام 2017. ضمن جهود تقديم العون في إدارة المستعمرة الجديدة، قام المستشرقون والإثنواغرافيون وضباط المخابرات الفرنسيّون بجمع معلومات موسعة عن البلاد. لكن البيانات ظلت مجزأة تفتقد إلى ناظم لها حتى عام 1856، عندما نشر مستشرق إيرلندي ترجمته لكتاب عربي في التاريخ يعود للقرن الرابع عشر، حيث مكنت ترجمته الفرنسيين من صهر كل تلك البيانات المتفرقة إلى نظرة شاملة (وجديدة كليا) للجزائريين وسكان المغرب.

ولد عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) في تونس لعائلة أندلسية راقية، وبحكم تعليمه وتنشئته، فقد عمل في بلاط الحكّام طيلة حياته. في عام 1377، قام بتأليف مقدمة لما بات يعرف بالمؤلف التاريخي الضخم لبلاد المغرب، "كتاب العبر". ويتمحور تاريخ ابن خلدون حول مؤسسي السلالات الحاكمة من العرب والبربر، بالإضافة إلى الأتراك والفرس والرومان من معاصريهم. حيث زعم بأن التاريخ – الذي كان بحسب فهمه، تداول السلالات الحاكمة – يتحرك من البداوة إلى الحضارة وبالعكس. وكانت العصبية القبلية عنده هي القوة المؤثرة، على أن الحماسة الدّينية قد تزيدها شدة. ومع أن الحضارة الحضرية اتسمت بتعدد المكاسب، غير أن البدو في رأيه، أسسوا حياة أكثر بساطة وحازوا من السمات ما لم يكن عند الحضر، كالكرم والشجاعة والشرف.

قام ابن خلدون بتنظيم التاريخ ضمن تعاقب أجيال وطبقات للعرب والبربر وغيرهم. مستعيضًا عن المعلومات التاريخية المفقودة حول السلالات الحاكمة في أزمنة معينة، لا سيما تلك الأزمنة البعيدة غير الموثقة، بالقصص الأسطورية وعلم الأنساب. وهو ما جعل تاريخ بلاد المغرب عند ابن خلدون رديفا للسجلات التاريخية لتلك الأجيال العربية والبربرية التي أسست لنفسها دولا. بالنسبة له، مثلما يعود تاريخ العرب إلى شبه الجزيرة العربية ممتدا إلى زمن أسطوري (ذي طابع نَسَبِيّ)، يبدأ تاريخ البربر الحقيقي في المغرب العربي. حيث شيّد العالم في نظر ابن خلدون، مما تبقى من ذرية نوح وبالتالي فقد استوطن البربر المغرب العربي منذ أمد بعيد، بحيث يكاد يكون موطنهم الأصل.

في عام 1844، كان وليام ماك كوكن دوسلان (1801-1878)، ذي الأصل الإيرلندي من بلفاست، والذي تتلمذ في باريس، قد بدأ عمله في تحرير وترجمة ابن خلدون، وفي تلك الفترة تعرف عليه المستشرقون الفرنسيون. بدأ دوسلان في تحرير "الرحلة"، وهو كتاب السيرة الذاتية لابن خلدون. ثم أصبح بعدها بعامين، المترجم الأول للجيش الفرنسي لأفريقيا في الجزائر، وشرع في تحرير مختارات تاريخية حول شمال أفريقيا (المغرب العربي) من كتاب العبر.

نشرت ترجمة دوسلان في أربعة أجزاء تحت عنوان "تاريخ البربر والأسر الإسلامية الحاكمة في شمال أفريقيا" بين عامي 1852 و1856. بات الجميع يعرف ابن خلدون كما ظهر في تلك الترجمة؛ وبدأ حتى أولئك الذين قرؤوا الأصل العربي بقراءة المؤلَّف من منظور ترجمة سلان. خلال عدة أشهر فحسب، انتشرت الإشارات لـ "تاريخ البربر"، كما بات يعرفُ في تلك الترجمة، كالنار في الهشيم.

لم يكن "تاريخ البربر" كما ترجمه دوسلان، على طريقة كل الترجمات الأخرى، بل، كما دل عليه الباحث عبد المجيد حنوم، نصا جديدا فيه شيء من الشبه بالكتاب الأصل؛ نسخة مزيدة، محشوة بالتصورات الحديثة، كالعِرق والأمة والسبط، وهي مفاهيم لا بد أنها أجنبية على ابن خلدون. كما أنّ ترجمة دوسلان شوهت مصطلحات أساسية. على سبيل المثال، قام ابن خلدون باستخدام مفهوم "الجيل" للإشارة إلى الأعضاء البارزين في جماعة تربط بين أفرادها صلة قربى.

تشير لفظة "جيل" إلى أعضاء جماعة عاشوا في حقبة زمنية معينة، وبالتبعية، فإن اللفظة تحيل على الجماعة نفسها. أما دوسلان، فلم يعتقد أن هذا هو المعنى المُراد بالكلمة، فقام بترجمة "جيل" إلى "عرق". ولأن الأجيال عند ابن خلدون ترتبط بالحضارة أو بنوع من التنظيم الاجتماعي، وجد دوسلان نفسه يشير إلى "أعراق" بدوية وأخرى حضرية. بالإضافة إلى "جيل"، قام دوسلان بترجمة مصطلحات مثل "أمّة" – الذي يصف "أمما" أو "شعوبا" كالعرب والبربر والمجموعات التي تفرعت عنهم أيضا – إلى "عرق". وبالتالي فقد تحول البربر في ترجمة دوسلان إلى عرق، لكن الأمر ذاته انطبق على كتامة وصنهاجة، وهي مجموعات فرعية من البربر وأضحت أعراقا بذاتها في ترجمة دوسلان. بالإضافة، إلى بنو هلال وبنو سُليم وهي قبائل تعود إلى "العرق" الرابع (أو "الطبقة" كما وردت في أصل ابن خلدون) من العرب.

كان العرق يشغل حيزا كبيرا من تفكير دوسلان، إلى درجة أنه أقحم لفظة "العرق" حتى في الأماكن التي لم يوجد فيها ذكر لمقابل عربي في المؤلَّف الأصل. فأضحى ملوك زناتة عند ابن خلدون "ملوك العرقِ الزناتي" عند دوسلان. بينما ورد في فقرة أخرى، أن نهر السنغال يفصل العرق البربري عن العرق الأسود بينما ورد في أصل ابن خلدون أنه يفصل بين بلاد البربر والسودان. لقد أدت ترجمة دوسلان إلى تشويه كامل لأفكار ابن خلدون، إلى درجة أن تصحيحها ضرب من ضروب المستحيل. وفي حين لجأ ابن خلدون إلى الأنساب في سد الثغرات المعرفية بشأن سلالات حاكمة معينة، لجأ دوسلان مرة أخرى إلى الأعراق.

في عام 1839، بدأت الحكومة الفرنسية باستخدام لفظة "الجزائر" في الإشارة إلى دول البربرية السابقة التي وقعت تحت سيطرتها. في عام 1848، وبعد هزيمة المقاومة بقيادة عبد القادر الجزائري (1808-1883)، قامت فرنسا بضم تلك الجزائر، وإنشاء ثلاثة أقاليم فرنسية جديدة تتألف من وهران في الغرب، مدينة الجزائر في الوسط وقسنطينة في الشرق. واستمرت الجزائر الفرنسية في التوسع، مع أنها لم تتمكن من ضم الصحراء الكبرى حتى عام 1905. إلى جانب السيطرة العسكرية، أشرف الجنرالات على عمليات نقل ملكية بوتيرة هائلة. حيث أدت عمليات مصادرة العقارات الحضرية والأراضي الزراعية والموارد طبيعية، إلى إعادة توزيع تامة للثروة، وأرست دعائم مجتمع كولونيالي جديد.

كما أن تعميم استخدام دوسلان لمفهوم العرق ساعد الجنرالات، والإثنوغرافيين والأطباء في تفادي التفكير بالتفاصيل الأكثر تركيبا وجوهرية للجزائر وتاريخها. ومن أجل هذه الغاية، تم اعتبار ابن خلدون المصدر الأكثر موثوقية في التعامل مع السكان؛ لقد أصبح ابن خلدون المحرّف في ترجمة دوسلان، هو القديس الراعي الذي يتقاطر إليه الخبراء طلبا للإرشاد والمشورة. في عام 1870، لجأت فرنسا إلى كنيسة ابن خلدون وحقائقها عن "السكان الأصليين"، كما أسمتهم القوانين الكولونيالية الجديدة، في إرساء نظام جديد من الحكم الكولونيالي.

هدفت الكولونيالية الفرنسية في الجزائر إلى تفادي تكرار الأخطاء السابقة التي أدت إلى هزائمها في أمريكا، حيث تشكلت لديها رؤية أوضح وتنظيم أفضل هذه المرة. احتدم الجدل بين الفرنسيين بشأن النهج الأمثل، لكن خيار الاستيطان فاز في النهاية. في عام 1870، قدم وزير العدل الفرنسي إسحاق كريميه (1796-1880) قانون تخطيط النظام الكولونيالي في الجزائر. بصفته رئيسا للاتحاد الاسرائيلي العالمي، قام كريميه بإقناع الطبقة السياسية الفرنسية بمنح المواطنة الفرنسية ليهود الجزائر البالغ عددهم قرابة 35000 فردا. أما فيما يتعلق بالمسلمين، كان ما يسمى "قانون كريميه" يشترط على كل مسلم أن يتقدم بطلب مواطنة رسمي فردي وأن يتخلى عن الإسلام والعمل بقوانينه بشكل رسمي. ما يعني أن المسلمين شكلوا طبقة أدنى من سكان الجزائر الفرنسية، أفراد بلا حقوق سياسية كاملة.

إذن فقد كان الإسلام، لا العرق، هو الأساس الذي قام عليه التجريد الرسمي لحقوق السكان الأصليين. لكن نسخة دوسلان عن ابن خلدون قدمت، مرة أخرى، خدمة بالغة الأهمية. فمن خلال تقديم العديد من الأمور كمسائل عرقية، وإدراج العرق مرارا وتكرارا كمكوّن رئيسي في نسيج الجزائر وتاريخها، ساعدت ترجمة دوسلان الفرنسيين على تحويل مسلمي الجزائر إلى عرقين لشعبين مختلفين: العرب والبربر. وأدى هذا التقسيم إلى خفض منسوب التهديد الذي شكلته الوحدة في مواجهة المستوطنين. ومع أنهم ربما لم يفهموا النقاط الدقيقة في الفقه واللاهوت الإسلاميْين، إلا أنّ المستعمرين كانوا يعرفون حق المعرفة كم سيكون من المفيد عرقنة الإسلام.

فقد تمكن المستوطنون الفرنسيون من الحصول على الأراضي المصادرة بتسهيلات اقتصادية. وحصنوا أنفسهم بنظام قانوني وفر لهم الحماية من الجزائريين. لكن الكولونيالية الفرنسية لم تتوقف عند إفقار الأهالي، فقد أدت أيضا إلى ظهور عدد قليل جدا من الممتلكات الشاسعة وعدد هائل جدا من المزارعين الاوروبيين الفقراء الذين اعتمدوا على الدولة الاستعمارية اقتصاديا.

وأدى التحويل التدريجي للجزائر إلى بلد صناعي لتحويل العديد من هؤلاء المزارعين الأوروبيين الفقراء إلى طبقة عاملة حضرية تحصل على وظائف أفضل وتنال أجورا أعلى من جموع المسلمين. وبينما تحوّل الفقر الشامل للأهالي إلى حقيقة اجتماعية لا تقبل الشك، إلا أن الاستعمار استخدمها كدليل على صحة تحميل السكان وحدهم مسؤولية وضعهم الحالي. مجددا، لجأ الفرنسيون إلى ابن خلدون كمصدر لتعاليلهم: إنّ العرب (وهي لفظة أراد بها ابن خلدون البدو والجيل) لا يعرفون إلا تخريب الحضارة؛ العرب عرق؛ والبربر عرق آخر؛ دخول البربر في الإسلام كان سطحيا؛ لقد ذاق البربر تحت الحكم الإسلامي اضطهاد العرب؛ البربر ينحدرون في الأصل من العرق الأبيض، أما العرب (الساميّون) فلم يكونوا كذلك.

وذهب التبشيريون الفرنسيون إلى حد استخدام ابن خلدون كوسيلة لتذكير البربر بمسيحيتّهم الأولى قبل مجيء العرب: ففي نهاية المطاف، كان القديس أغسطينوس بربريا. حيث سمح تركيز ابن خلدون على الحضارة للمفكرين الكولونيالييّن في تعيين مهمة الدولة الكولونيالية ضمن إطار تقوم فيه فرنسا بمساعدة الأهالي على التخلص من تلك الصفات (الإسلام) التي أعاقت تحررهم – مع أن تعليم هؤلاء السكان المحليين لم يظهر كأولوية في الميزانية على الإطلاق. بالنسبة إلى الفرنسيين، كان البربر الفقراء المجردين من أراضيهم مسؤولين عن صعوباتهم لأنهم لا يزالون يتشبثّون بإسلام العرب الذين خدعوهم (قبل أكثر من 1000 سنة).

لم تكن الترجمات التحريفية لابن خلدون حكرا على الفرنسيين؛ حيث صدرت في عام 1958، الترجمة الإنجليزية لابن خلدون بعنوان "المقدّمة"، للمترجم فرانز روزنثال، باحث اللغة العربية بجامعة ييل، حيث سلك في الترجمة نهج دوسلان، ليقدم إلى القراء الناطقين بالإنجليزية ابن خلدونا يتكلّم عن العرق وعن أشياء لم تجل بباله قط. وبما أن حيازة اللغة العربية لم تكن مطلوبة من الخبراء الغربيين الذين يزعمون خبرتهم بالمغرب، وهو أمر يبعث على الدهشة، فقد شكلت ترجمات كل من دوسلان وروزنثال آراء أعداد لا تحصى من الدبلوماسيين الفرنسيين والأميركيين، وخبراء السياسة، والصحفيين بل وحتى الأكاديميين.


الهوامش

[1] الفنادق هنا هي الكلمة التي استخدمها العرب في الإشارة إلى المصانع في العصور الوسطى


المصدر: الجزيرة















على عكس لفظة "بربر" التي عادة ما تحيل إلى معنى "البربرية"، تأتي لفظة الأمازيغ مصحوبة بتفسير أسطوري وباعث على التفكير في آن واحد معا، ومعناها هو "الرجال الأحرار"
















بعد الاستيلاء على مدينة الجزائر، استخدام الفرنسيون مستويات خارقة للعادة من العنف، حيث قضى الآلاف نحبهم





أحد "المكاتب العربية" (bureaux arabes) التي أقامتها فرنسا (مواقع التواصل)








عبد الرحمن ابن خلدون (مواقع التواصل)









وليام ماك جوكان دوسلان (مواقع التواصل)







عبد القادر الجزائري (مواقع التواصل)





الترجمة الإنجليزية لابن خلدون بعنوان "المقدّمة" للمترجم فرانز روزنثال (مواقع التواصل)








 


رد مع اقتباس
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 19:36

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc