السؤال:
وَرَد في حديثٍ صحيحٍ: «الشُّؤْمُ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالفَرَسِ»(١)، وفي روايةٍ بأداة الحصر: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ...»(٢).
وورَدَتْ أحاديثُ أخرى مُطلَقةٌ تنفي الطِّيَرةَ والشؤمَ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ ...»(٣)، فهل يمكن أَنْ يُقال: إنَّ الأحاديث التي ورَدَتْ مُطلَقةً يجوز تقييدُها بهذه الثلاثِ حملًا للمُطْلَق على المقيَّد لاتِّحاد الحكم والسبب، وبالتالي فالشؤمُ والطِّيَرةُ مَنْفِيَّةٌ مُطلَقًا إلَّا فيما عَدَا الثلاثةَ المذكورة في الحديث، أم أنَّ المسألةَ غيرُ ذلك؟ فكيف نوفِّق بينهما؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقبل الإجابة على هذا السؤالِ فإنه ينبغي التنبيهُ إلى أمرين:
الأوَّل: أنَّ الإطلاق والتقييد تارةً يقع في الأمر وتارةً أخرى يقع في الخبر، لكنَّ مِنْ شرط حملِ المطلق على المقيَّد أَنْ لا يقع في النهي والنفي، فإِنْ حَصَل فإنه يندرج في باب العموم، كما أفاد ذلك ابنُ القيِّم(٤) والبعليُّ(٥) والشوكانيُّ(٦) وغيرُهم.
والثاني: أنه ينتفي التعارضُ الظاهريُّ بين النصوص الشرعية بطُرُقِ دفعِ التعارض مِنْ: جمعٍ أو نسخٍ أو ترجيحٍ.
والنصُّ الشرعيُّ الوارد في المسألة المذكورة منفيٌّ نفيًّا مُطلَقًا في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ»؛ فلا مجالَ لحملِه على التقييد؛ لأنه وَقَع في النفي ـ كما تقدَّم ـ ومِنْ جهةٍ أخرى فلا تعارُضَ بين الأحاديث المذكورةِ في السؤال إلَّا في ذهن الناظر؛ إذ يمكن الجمعُ بين نصوصها والتوفيقُ بين مَعانيها، ووجهُ الجمع: أنَّ أهل الجاهلية يرَوْنَ الطِّيَرةَ مِنْ هذه الثلاثةِ كما ثَبَتَ ذلك مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ»(٧)، ثمَّ بيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم نفيَه لهذا المُعتقَد في حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما بقوله: «إِنْ يَكُ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ فَفِي المَرْأَةِ وَالفَرَسِ وَالدَّارِ»(٨)، ومعنى الحديث: أنَّ الشؤم لو صحَّ في شيءٍ لَصحَّ في هذه الثلاثة، فأفاد ـ بمفهومه ـ أنه ليس بثابتٍ فيها ولا في غيرها أصلًا. ويُقوِّي هذا المفهومَ منطوقُ الأحاديث التي جاءَتْ تنفي الشؤمَ والطِّيَرةَ ـ وهما بمعنًى واحدٍ ـ كما تقدَّم في الحديث المرفوع: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ»، ويزيد هذا المعنى تأكيدًا حديثُ مِخْمَرِ بنِ معاويةَ النُّمَيْرِيِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا شُؤْمَ، وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي المَرْأَةِ وَالفَرَسِ وَالدَّارِ»(٩)، فنَفَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الشؤمَ مُطلَقًا، وجَعَل هذه الثلاثةَ: المرأةَ والفرسَ والدارَ مِنَ اليُمْنِ وهو البركةُ وضِدُّه الشؤمُ.
أمَّا الحصرُ الوارد في الحديث ﺑ: «إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ» فهو مِنْ تصرُّف الرُّواةِ واختصارِهم كما بيَّنه أهلُ الحديث(١٠).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(١) أخرجه البخاريُّ في «النكاح»بابُ ما يُتَّقى مِنْ شؤم المرأة (٥٠٩٣)، ومسلمٌ في «السلام» (٢٢٢٥)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه البخاريُّ في «الجهاد والسِّيَر» بابُ ما يُذْكَر مِنْ شؤم الفرس (٢٨٥٨)، ومسلمٌ في «السلام» (٢٢٢٥)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه البخاريُّ في «الطبِّ» باب الجُذام (٥٧٠٧)، ومسلمٌ في «السلام» (٢٢٢٠)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) انظر: «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٢٤٩).
(٥) انظر: «القواعد والفوائد الأصولية» للبعلي (٢٨٣).
(٦) انظر: «إرشاد الفحول» للشوكاني (١٦٦).
(٧) أخرجه أحمد في «مسنده» (٢٦٠٨٨)، والحاكم «المستدرك» (٣٧٨٨) وصحَّحه ووافقه الذهبيُّ، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٦٨٩).
(٨) أخرجه البخاريُّ في «النكاح» بابُ ما يُتَّقى مِنْ شؤم المرأة (٥٠٩٤)، ومسلمٌ في «السلام» (٢٢٢٥)، واللفظُ لأحمد (٥٥٧٥)، مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.
(٩) أخرجه ابنُ ماجه في «النكاح» بابُ ما يكون فيه اليُمنُ والشؤم (١٩٩٣) مِنْ حديثِ مِخْمَر بنِ معاوية رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٥٦٤) رقم: (١٩٣٠).
(١٠) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٦١)، و«عون المعبود» للعظيم آبادي (١٠/ ٤١٩)، و«السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٤/ ١٨٣).