بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم
يا مَن يقرأ حروفي هذهِ
ذرني أبدأ معك وأنا أتمثّلُ بقوله جلّ في عُلاه:
"تحيّتهُم يومَ يلقونَه سلامٌ وأعدّ لهم أجرًا كريما " (سورة الاحزاب، الآية 44 )
السّلام عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
هكذا هي الحياة، وهذا هو الذي يُقالُ عنه العُمر.
ولسانُ الحالِ يقولُ: حياةٌ كالعدمِ وجسدٌ كهيكلٍ وقد سكنتهُ روحًا من بقايا أشباحٍ.
مضيتُ ولستُ أدري إلى أيّ وجهةٍ أو غاية.
سوى أنّ رتابةَ الحياةِ مع نمطية العيش قد ألقتْ عليّ ذلك، بظلال من الكآبة، وقد دوت في سماء شبابي تلك الاوركسترا الصاخبة على أيقاع ذلك المرض اللعين هدّ جسدي.
أنْ صارت معاني وجودي تصير ثم تستحيل إلى علقَمٍ وصابٍ، تجرّعته وتلمظته وما كدتُ استِساغته.
ومع ذلك وأنا فتًى غريرٌ ــــــ ورغم ذلك المرض ـــــــ كنتُ لا أستطيب من الدنيا إلاّ مقام الأنس ولحظات التنادر مع الصحب وأصدقاء الطفولة وأخلّاء الشباب، فكانت الضحكات تخرج من صدرٍ كظيم، ثم ترجعُ صداها إلى جوفٍ مزقه وخالطه من الأسى والأوجاع ما خالطه، حتى توشحت حياتي برداءٍ من التعاسة
ومع ذلك فإنّ الدراسةَ والنهلَ من مشاربِ العلمِ، كنتُ فيها من المحظوظين، بل يُشار إليّ بالبنان من فتيات الغربِ والبنين.
أيها الأخلاّء
إنّها حياةُ حلمٍ في ساعةٍ من اليقظة، وغفوةِ كرى في وقتٍ من الهبّةِ.
بل حياتي فيما مضى ككائنِ حيِّ ميّتِ في آنٍ واحدٍ.
وما أنا سوى ذلك الكائن الذي يولدُ وينمو ويعيشُ ليموتَ ويهلِكَ، ترى ثمَّ ماذا؟!
لا شيءَ
أيها يا من لكم ما بين الترقوة والجبين
لا تظنوها مُعاياةً وأُحجيةً ، لم أقفْ لها على مُنقّبٍ، ولم أعرفْ لها صفةً كاشفةً تأمنُ معها من اللبسِ والخلط
لعمري فهي حياتي كما هي بلا تنميق ولا تزويق
إلاّ ما خطّته الأنامل، لتعبر عما حاك في الصدر
ثم إيّاكم أن تخالوها طلاسمِ وسفسطةِ، منازعة منها إلى المحدودِ المفهومِ، فتجعلوا منها وكأنّها من بقايا مُنازعاتِ بروتاجوراس، أو فلسفاتِ أنطيفون، أو قواعد جورجياس، فتحكموا عليها أنها من تخاريفِ بروديقوس، وغيرهم من أعلام ورجالات ِ السفسطائيينَ الإغريق.
أنتم من تقرؤون حروفي
على رسلكم!
ثم حسبكم!
ما دريتُ
ولا أخال أنني أدري كيفَ أصفُ لكم فقرَ وعجز كلماتي من ذلك المُعينِ والمُرشدِ، في جسمٍ غشيَهُ ما غشيهُ من الهمّةِ والفورةِ، ومع ذلك اجدني على غيرِ رشَدٍ أو هُدىً، حتى صرت كذلك الذي يخبطُ خبطَ عشواءَ، ممتطيًّا الصعاب والذّلول، دونَ أن يعرفَ صوىً يهتدي بها، أو أثراً يقتفيها، أو منارةً يسترشدُ إليها، بعدَ أن أجهدتهُ المفاوز، وأضلّتهُ المتاهاتُ
بل ذروني
أن أقول لكم:
أنني تألّمتُ حتّى هانَ الألمُ، وصبرتُ حتّى ملَّ الصبرُ، ولم يكنْ لي من حيلةٍ غيرَ الرجاءِ في نشرِ رحمةٍ تُغيثُ القلبَ الصادي، والجسد الذي أنهكه المرض، والعقلَ النّهمَ، والرّوحَ الحالمةَ.
ومع ذلك بان لي
ألاّ أقفَ بكم طويلاً على ذلكَ الطللِ البالي، فقد صارَ أثراً بعدَ عينٍ، وفارقتهُ فِراقَ غيرِ وامقٍ، وصارَ من مخلّفات وبقايا الذكريات التي لا ينبغي لها إلاّ لتُطوى ولا تُروى، ومتى ما ذكرتها إلاّ والنفس ترسلُ تنهيدةً أو زفرةً، ومع ذلك لا ألبثُ إلا هنيهة يسيرةً حتّى أستعيدَ العافيةَ، وينسابَ فيَّ ماءُ الحياةِ كرّة أخرى.
ومع ذلك
فكم هوَ جميلٌ، بل ما أجمله من ماضٍ، ولكنَّ الأجملَ منهُ وقتٌ لحاضرٍ فتيٍّ ، ومجدٌ تتراقصُ آمالهُ في مهجةٍ آليتُ على نفسي إلا أن أبلغَ المعاليَ ما دامتْ تسري الروحُ في جسدِي.
... يتبع