ثانيا :
- إحباط العمل الصالح : هو أن يزول ثوابه وتذهب منفعته .
قال العراقي رحمه الله تعالى :
" معنى إحباط الطاعة محو أثرها المترتب عليها ، وهو الثواب "
انتهى من " طرح التثريب " (3 / 238 – 239) .
- أما فساد العمل ؛ فالمقصود به في غالب استعمال أهل العلم ؛ هو أن يؤدي الشخص العبادة على وجه غير مشروع حيث يبقى مطالبا بإعادتها إن كانت واجبة .
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (32/ 117) :
" عرف جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة الفساد بأنه : مخالفة الفعل الشرع بحيث لا تترتب عليه الآثار ، ولا يسقط القضاء في العبادات .
وعرف الحنفية الفاسد بأنه ما شرع بأصله دون وصفه " انتهى .
والفساد بهذا المفهوم لا علاقة لسوء الخلق به ؛ لأن حسن الخلق ليس شرطا لصحة العبادات .
وقد يستعمل الفساد كما في الأثر الضعيف السابق ، ويقصد به إحباط العمل وذهاب نفعه .
قال المناوي رحمه الله تعالى :
" ( سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) أي أنه يعود عليه بالإحباط ؛ كالمتصدق إذا أتبع صدقته بالمن والأذى "
انتهى من " التيسير بشرح الجامع الصغير " (2 / 61) .
فالفساد بهذا المفهوم هو نفسه إحباط العمل .
ثالثا :
سوء الخلق هو ذنب من الذنوب ؛ ومن أصول أهل السنة أنه لا يحبط العمل كله إلا الكفر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ولا تحبط الأعمال بغير الكفر ؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لابد من أن يدخل الجنة ويخرج من النار إن دخلها ، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها ، ولا ينافي الأعمال مطلقا إلا الكفر ، وهذا معروف من أصول أهل السنة "
انتهى من " الصارم المسلول " (2 / 114) .
وسوء الخلق وإن كان ليس كالكفر في إحباط الأعمال الصالحة ، إلا أن له تأثيرًا عليها ؛ ومن صور ذلك :
الصورة الأولى : سوء الخلق يؤثر على العمل الصالح الذي يقترن به .
فالمتصدق إذا تصدق على وجه الكبر والفخر أو يمنّ بصدقته ويؤذي بها الفقير ، فإنه بهذا الخلق السيئ يذهب أجر صدقته .
قال الله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ) البقرة /264 .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى "
انتهى من " تفسير ابن كثير " (1 / 694) .
ومثل الصائم الذي يقرن صومه بأخلاق سيئة ، فإنه يفوت على نفسه الأجر.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )
رواه البخاري (1903)
وابن ماجه (1689) بلفظ : ( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ ، وَالْجَهْلَ ، وَالْعَمَلَ بِهِ ، فَلَا حَاجَةَ لِلَّهِ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )
..
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" والمراد بقول الزور الكذب ، والجهل السفه ، والعمل به أي بمقتضاه ...
قال ابن المنير في الحاشية : بل هو كناية عن عدم القبول
كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به : لا حاجة لي بكذا ، فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول الصوم السالم منه ...
وقال ابن العربي : مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر : لا يثاب على صيامه
ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه "
انتهى من " فتح الباري " (4 / 117).
وهكذا القول في جميع الطاعات إذا اقترن بها سوء الخلق ، لأن سوء الخلق مناقض لتقوى الله تعالى ، والتقوى هي المطلب الأول في الطاعات .
قال الله تعالى – عن الأضاحي و الهدي - :
( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) الحج /37 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" ( وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ) ففي هذا حث وترغيب على الإخلاص في النحر ، وأن يكون القصد وجه الله وحده ، لا فخرا ولا رياء ، ولا سمعة ، ولا مجرد عادة ، وهكذا سائر العبادات
إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله ، كانت كالقشور الذي لا لب فيه ، والجسد الذي لا روح فيه "
انتهى من " تفسير السعدي " (ص 539) .
الصورة الثانية :
من المعلوم أن شطرا كبيرا من سوء الخلق متعلق بمعاملة الناس ، كالغيبة والنميمة والبهتان والاحتقار وجميع أنواع الظلم .
ومظالم العباد سيكون فيها القصاص يوم القيامة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ )
قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ، يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا
فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) رواه مسلم (2581) .
فهذه الأخلاق السيئة أذهبت طاعات هذا الإنسان عند حاجته إليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تقرير هذا الأصل :
" الذي ينفي من الإحباط على أصول أهل السنة : هو حبوط جميع الأعمال ؛ فإنه لا يحبط جميعها إلا بالكفر .
وأما الفسق : فلا يحبط جميعها؛ سواء فسر بالكبيرة، أو برجحان السيئات؛ لأنه لا بد أن يثاب على إيمانه فلم يحبط.
وأما حبوط بعضها وبطلانه ، إما بما يفسده بعد فراغه ، وإما لسيئات يقوم عقابها بثوابه :
فهذا حق ، دل عليه الكتاب والسنة . كقوله : (لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) البقرة/264 ؛ فأخبر أن المن والأذى يبطل الصدقة، كما أن الرياء المقترن بها يبطلها .
وإن كان كل منهما : لا يبطل الإيمان؛ بل يبطله ورود الكفر عليه ، أو اقتران النفاق به.
وقوله في الحديث الصحيح: «إن الذي تفوته صلاة العصر فقط حبط عمله» وقول.. : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال فليأته فليستحل منه ، قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار، وإنما فيه الحسنات والسيئات» .
وقوله: «ما تعدون المفلس فيكم» ؟ قالوا: المفلس من ليس له درهم ولا دينار، قال: «ليس ذلك بالمفلس ، وإنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال
فيأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا . فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ؛ فإذا لم يبق له حسنة : أخذ من سيئاتهم ، فطرحت عليه ثم طرح في النار» "
انتهى من "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/127) .
فالحاصل
أن الأثر ( سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ) لا يصح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن سوء الخلق قد يفسد ويحبط ثواب الأعمال الصالحة ؛ كما لو اقترن بها
أو كان على شكل مظالم تجاه الخلق تسبب له خفة كفة حسناته وثقل كفة سيئاته .
والله أعلم .