بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أفضل الأعمال معرفة منهج الله عز وجل :
أيها الأخوة الأكارم... نحن في رمضان، والشيء البارز في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في رمضان كثرة تلاوة القرآن، نوهت إلى ذلك في خطبة الجمعة، ولا بدّ من بعض الأحاديث الأخرى التي تدعم هذا الموضوع، يقول عليه الصلاة والسلام:
((من قرأ القرآن ....))
أتيح له أن يفهمه، أتيح له أن يعمل به، رآه كلام الله عز وجل.
((من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي ...))
[الطبراني عن عبد الله بن عمر]
أي هو لا يملك مركبة، هو يقرأ القرآن، ويفهم القرآن، ويجود القرآن، ويطبق القرآن، ويحب القرآن، والقرآن ربيع قلبه، لكن داره صغيرة، ودخله محدود.
((من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله))
[الطبراني عن عبد الله بن عمر]
أي إذا قدمت لإنسان قطعة ألماس ثمنها ثلاثة ملايين فظنها ألماساً صناعياً، قال: هذه ثمنها حوالي ثلاثين ليرة، هذا الموقف أليس موقفاً مخزياً أمام هذا المهدي؟ إذا قدم لك شيئاً ثميناً جداً وأنت استصغرته أي رأيته صغيراً، ورأيت عطاءً آخر أكبر منه، هذا الذي قاله عليه الصلاة والسلام.
إذاً قارئ القرآن الذي يتلو القرآن، الذي يفهم القرآن، الذي هداه الله إلى حضور مجالس العلم التي فيها تفسير للقرآن ينبغي أن يرفع رأسه، ينبغي أن يغتبط بهذه النعمة، ينبغي أن يشكر الله عليها.
الحديث الآخر القدسي: يقول الله تبارك وتعالى:
(( من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل جزاء الشاكرين))
[العلل لابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري ]
الحياة الآن صعبة، الوقت ضيق، ليس هناك واحد منا إلا مثقل بالعمل، النفقات كبيرة والدخول قليلة، إذاً على حساب أوقات الفراغ، على حساب مضاعفة ساعات العمل، على حساب اختيار عمل شاق، كلما ضاق الوقت صار الوقت الذي تنفقه في تلاوة القرآن وفهمه أغلى عند الله، لأن الله عز وجل كما يقول في آية أخرى:
﴿وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾
[سورة المزمل:20]
الوقت مقدر عند الله عز وجل، ضيق وقتك، شدة انشغالك، تزاحم الأعمال في حياتك، إذا قطفت أو اقتطعت من هذا الوقت الثمين وقتاً تتلو فيه كلام الله عز وجل وتفهمه
الذي أقوله لكم: ما من عمل على وجه الأرض يفوق أن تعرف المنهج، أي إذا كنت في طريق إلى بلد، إذا ضيعت ربع ساعة في معرفة الطريق والمداخل والمخارج وأماكن الوقوف وأفضل مكان للنوم والطعام، هل يعدّ هذا الوقت الذي تنفقه في التعرف لهذه الرحلة الخطيرة وقتاً مستهلكاً أم مستثمراً ؟ مستثمر، لأن الحركة من غير علم طائشة، الحركة قد تكون مهلكة، قد تكون ماحقة، فالإنسان لا بدّ له من التحرك، يستيقظ يبحث عن عمل، في بيعه، في شرائه، يبحث عن قضاء بعض الحاجات النفسية والجسمية والاجتماعية، فالإنسان في حركة دائمة، فإذا سبق هذه الحركة علماً وقعت حركته وفق المنهج الإلهي فسعد وأسعد، فإذا جاءت هذه الحركة بعيدة عن العلم كانت مهلكة، إذاً أي وقت تنفقه في معرفة الطريق، في معرف المنهج، هذا وقت مستثمر وليس مستهلكاً.
من عرف معاني القرآن و مراميه فقلبه لن يعذب أبداً :
إذاً من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي، أي ممكن ألا تقرأ القرآن، وأن تكون بعيداً عن معانيه الدقيقة، وعن توجيهات ربنا سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تتاجر ودخلت في علاقة محرمة، أو في بضاعة محرمة، أو في طريق أو أسلوب محرم عند الله عز وجل، وكان العقاب محق هذا المال كله، فيا ترى كل هذه الجهود وكل هذه الطاقات التي بذلتها والتي خرجت بها عن منهج الله عز وجل جهود ضائعة؟ نعم، لأنك لو وفرت وقتك وعرفت المنهج ثم تحركت، الآن حركة باتجاه الزواج من دون منهج أغلب الظن أن هذا الزواج زواج مخفق ينتهي بالطلاق، أما تعلم العلم، قلب الزواج، فأغلب الظن أن هذا الزواج ناجح، إذاً:
(( من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل جزاء الشاكرين))
[العلل لابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري]
(( إن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن ))
[أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة]
هناك عذاب في القلب، معنى ذلك أن هناك عذاباً جسدياً وعذاباً قلبياً، قد تجد إنساناً سليماً معافى في بحبوحة، وأموره كلها كما يشتهي، لكنه معذب القلب، قد يشعر بالقهر، قد يشعر بالحقد، قد يشعر بالهوان، قد يشعر بحبه للانتقام، قد يشعر بالضياع، قد يحس بالتشاؤم، قد يحس بالسوداوية شيء جميل، هذه كلها عذابات القلب، إذا وعيت معاني القرآن.. عرفت سننه.. عرفت مراميه، قلبك لا يعذب، توحد، قال تعالى:
﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
[سورة الشعراء: 213]
وقال:
((من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه ))
[الزهد والرقائق لابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]
أي مقام كبير أن ترتقي إلى مستوى قراءة القرآن قراءة متقنة، وفهمه، وتدبره ،
طبعاً الحديث الذي سأتلوه عليكم ذكرته في الخطبة :
((إِنَّ الْبَيْتَ لَيَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ وَيَقِلُّ خَيْرُهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ))
[أخرجه الدرامي عن أبي هريرة ]
أتحب بيتاً كالجنة؟ اجعل القرآن فيه متلواً، أي اتلُ القرآن وائمر أهلك أن يقرؤوا القرآن.
أقوال بعض العلماء في فضل القرآن :
الآن أقوال بعض العلماء في فضل القرآن، يقول الفضيل بن عياض: "ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له إلى أحد حاجة "، أي إنسان قارئ أو حافظ للقرآن هذا من أهل الله، فإذا وقف أمام إنسان لئيم وتضعضع أمامه وتذلل، أو أحياناً والذي يؤلمني أشدّ الألم عند مكتب دفن الموتى إذا كان الإنسان يجري معاملة يلحقه عشرات قراء القرآن بوضع مزر ومخز في بذل ماء الوجه، أهكذا قارئ القرآن! يقول الفضيل بن عياض:" ينبغي لحامل القرآن ألا يكون له إلى أحد حاجة، بل ينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه "، لعظم شأنه، لأنه من أهل الله عز وجل.
قال : "حامل القرآن حامل راية الإسلام، فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا أن يسهو مع من يسهو، ولا أن يلغو مع من يلغو، تعظيماً لحق القرآن".
أي هناك أماكن، و حركات، و نزهات لا تليق بحامل القرآن، هناك أماكن فيها اختلاط وغناء، هناك أسواق وصخب الأسواق، حامل القرآن لا ينبغي أن يكون مع هؤلاء تعظيماً لشأن القرآن.
ذم تلاوة الغافلين :
الآن نحن يهمنا بحثاً في كتاب إحياء علوم الدين هو: ذم تلاوة الغافلين، طبعاً الخطبة السابقة كلها عن فضل القرآن الكريم، أما الموضوع الجديد فذم تلاوة الغافلين.
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه))
[ إحياء علوم الدين عن أنس بن مالك]
و:
((الغريب هو القرآن في جوف الفاجر))
[ إحياء علوم الدين عن ميسرة]
قال: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نيام، وبنهاره إذا الناس يفرطون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً، ولا ينبغي أن يكون جافياً، ولا ممارياً، ولا صياحاً، ولا صخاباً، ولا حديداً، نظر قاس، هذه صفات حافظ القرآن الكريم. يقول عليه الصلاة والسلام:
(( اقرأ القرآن ما نهاك، فأن لم ينهك عن معصية الله فلست تقرأه ))
[ كنز العمال عن ابن عمرو]
أنت في حكم الذي لا يقرؤه ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ))
[ أخرجه الترمذي عن صهيب ]
من استحل محارم القرآن فهو في حكم غير المؤمن به، وقال بعض السلف: " إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها، وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: إذا أحلّ حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته".
وقال بعض العلماء: " إن العبد ليتلو القرآن يلعن نفسه وهو لا يعلم، يقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم لنفسه، ألا لعنة على الكاذبين وهو منهم. "
ويقول الإمام الحسن :" إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل جملاً لا أنتم تركبونه فتقطعون به مراحلهم، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربكم، فكانوا يتدبرونها في الليل وينفذونها في النهار".
ولابن مسعود كلمة بليغة جداً أنه رأى رجلاً يقرأ القرآن في النهار ولا يعمل، فقال:" إنما أنزل هذا القرآن لتعمل به، أفاتخذت قراءته عملاً" أي هذا يقرأ في الليل تعبداً وفي النهار يجب أن تعمل لتكون عضواً نافعاً في المجتمع وليس عالة على غيرك.
من أوتي الإيمان قبل القرآن تدبر القرآن وصدقه :
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن".
أي شيء دقيق عندما يفكر الإنسان في الكون يستعظم خالق الكون، فإذا قرأ القرآن وقال: إن الله عليّ كبير يقول: صدق الله العظيم، هذا الوصف لذات الله عز وجل جاء مطابقاً لما رأى هذا المؤمن، فكلما كانت رؤية العبد لمولاه من خلال التفكر في الكون رؤية صحيحة ثم تلا كتاب الله عز و جل تأتي آيات الله عز وجل مطابقة لإيمان العبد، وهذا معنى قول أصحاب النبي.
مثلاً أنت سافرت إلى بلدة وكانت هذه البلدة جميلة، فإذا قال لك أحدهم: والله ما رأيت أروع من هذه البلدة، تقول: نعم والله، تقول: نعم لأنك رأيت هذا الجمال، فهذا الكلام ما الذي أكده ؟ رؤيتك لهذه البلدة. قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها و حرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عندها، ثم إني رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين الفاتحة إلى الخاتمة لا يدري ما آمره ولا زاجره، وما يجب أن يقف عنده منه."
إذاً إذا أوتيت الإيمان قبل القرآن تدبرت القرآن وصدقته، فإذا لم تؤت الإيمان قبل القرآن تقرأه ولا تدري من أمره شيئاً، ورد:
((يا عبدي أما تستحي مني؟ يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك منه شيئاً، وهذا كتابي أنزلته إليك فصلت فيه القول، وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه، أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك؟))
[ ورد في الأثر]
فعلاً تأتيك رسالة قد تفتحها وأنت في الطريق، قد تفتحها وأنت عند الطبيب، قد تفتحها وتقرأها وأنت في أشد الأوقات حرجاً، تريد أن تعرف ماذا في هذه الرسالة، إذاً وهذا الكتاب الذي بين أيدينا رسالة من الله عز وجل، خطاب الله لهذا الإنسان، ألا ينبغي أن نقرأه بعناية ونفهم ماذا أراد الله به؟؟
الإنسان بفكره يستطيع أن يتعرف إلى الله عز وجل :
هناك نقطة مهمة ذكرها العلماء أن الإنسان بفكره يستطيع أن يتعرف إلى الله عز وجل والدليل هو الكون، وبفكره يستطيع أن يتعرف إلى فكر النبي من خلال الإعجاز، وبفكره يستطيع أن يتعرف إلى أن هذا الكلام كلام الله، لكن أنت بفكرك تقول: لا بدّ لهذا الكون من خالق ولكن من هو هذا الخالق ؟ ولماذا خلق الخلق ؟ وماذا يريد مني ؟ هذا لا تعرفه إلا في كتاب الله.
مثلاً دخلنا إلى جامعة، إنسان ذكي تأمل وجد فيها قاعات واسعة، معنى ذلك أن هذه القاعات لطلاب الآداب، طلاب الآداب عددهم كبير، ورأى قاعات صغيرة، ورأى مخابر ورأى ملاعب، ورأى قاعات مطالعة، ورأى مكتبة ضخمة، ورأى حديقة غناء، ورأى داراً للطلبة، ورأى مدرجات، ورأى مكاتب للمدرسين، فهو بفكره فقط يستطيع أن يقول: هذه الجامعة عظيمة وفيها كليات متنوعة، وإنفاق كبير، ويبدو أن أقساطها عالية جداً لأن فيها خدمات كبيرة جداً، فممكن أن تعرف أشياء كثيرة بفكرك، لكن مهما تأملت في أقواس الأروقة وفي ساحات الجامعة وفي ملاعبها وفي أبنيتها وفي حجرها وفي مدرجاتها أفبإمكانك أن تتعرف إلى نظامها الداخلي ؟ أفبإمكانك أن تعرف من هم مدرسوها ؟ أفبإمكانك أن تعرف ما هي مناهجها ؟ ما طريقة النجاح فيها ؟ لا تعرف ذلك، لا بدّ من كتيب.
إذاً نحن الآن عندنا مشكلة: هناك أشياء يمكن أن تعرفها بعقلك، وجود الله عز وجل، كماله، وحدانيته، رسله، كتبه، لكن لماذا خلق الكون ؟ لا بدّ أن تسأل خالق الكون، ما هي مهمتك في الكون ؟ لا بدّ أن تسأل خالق الكون. ماذا كان قبل الوجود ؟ ماذا سيكون بعد الوجود ؟ أين كنت ؟ إلى أين المصير ؟ هذه الأسئلة الكبرى لا بدّ من أن تقرأها في كتاب الله، إذاً هذا الذي يكتفي بالكون من دون أن يتعب نفسه في فهم القرآن فقد عرف شطر العلم، أما إذا أردت أن تحوط الدين من كل جوانبه فلا بدّ من استعمال العقل تارة واستعمال النقل تارة، وهل الإنسان إلا عقل يفكر، وأذن تسمع، وإن في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
آداب تلاوة القرآن :
عندنا آداب لتلاوة القرآن آداب ظاهرة وآداب باطنة، فمن هذه الآداب الباطنة، طبعاً بحث طويل لكن سنأخذ منه بعض الفقرات، من هذه الآداب الباطنة قال: التخلي عن موانع الفهم، هناك أشياء تمنعك من فهم القرآن، فإن أكثر الناس منعوا من فهم معاني القرآن لأسباب، وحجب أسبلها الشيطان على قلوبهم فعميتم عنهم عجائب أسرار القرآن، قال صلى الله عليه وسلم:
(( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت ))
[أحمد عن أبي هريرة]
* * *
الأحنف بن قيس :
اخترت لكم قصة قصيرة جرت مع بعض التابعين وهي تتعلق بهذا الموضوع، ذكر الحافظ محمد بن نصر المروزي في جزء قيام الليل عن الأحنف بن قيس - والأحنف من التابعين - أنه كان يوماً جالساً فعرضت له هذه الآية:
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
[سورة الأنبياء: 10]
قال: فانتبه، فقال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم، هكذا قال الله عز وجل، أي أنتم أيها العباد قد ذكرتم في هذا القرآن، هذا هو التدبر أيها الأخوة، فانتبه، قال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم، حتى أعلم من أنا ومن أشبه.
أن تعرف من أنت؟ هذا سؤال خطير جداً، أحياناً الإنسان يعيش كل حياته لا يعرف من هو، يظن نفسه مؤمناً وهو غارق في المخالفات، يظن نفسه محباً لرسول الله يجلس في عقد قران فيبكي ثم يأتي للسنة فيخالفها، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾
[ سورة آل عمران: 31 ]
فحتى الإنسان لا يغش نفسه والوقت خطير فهذا السؤال: يجب أن تعرف من أنت؟ إذا إنسان ظن بنفسه أنه قوي بالرياضيات فلم يدرس جاء الفحص فخرج ضعيفاً فرسب ألا يكون أحمق؟ لو فرضنا أنه فعل فحصاً لنفسه أو كلف صديقاً له متفوقاً في الرياضيات أن يمتحنه فقال له: والله بصراحة أنت ضعيف في الرياضيات، هو يظهر أنه جلس مع طالب أضعف منه فصار عليه أستاذ فتوهم أنه قوي بالرياضيات، فلو سألت إنساناً متفوقاً في الرياضيات يعطيك وصفاً دقيقاً.
هناك كثير من الأمراض الخطيرة الإنسان يظن نفسه معافى منها ليس لها أعراض ظاهرة، أي هذا سؤال مهم جداً ويريد جرأة، الإنسان يتملق نفسه أحياناً، أريح له أن يتوهم نفسه مؤمناً، أريح له أن يتوهم نفسه ذكياً يفهم كل شيء، لكن إذا كان فعلاً جريئاً يحاول أن يكشف من هو، أين أنا من الإيمان؟ إذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك، إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر فيما أقامك، اعرف من أنت هل أنا مؤمن؟ يا ترى أنا مستقيم؟ يا ترى أنا محسن؟ يا ترى أنا مسلم؟ يا ترى أنا منحرف؟ فاسق فاجر؟ مسلم مؤمن تقي؟ فهذا سؤال مهم، طبعاً منهج السؤال إذا قرأت في القرآن أوصاف المؤمنين يجب أن تقف عند هذه الأوصاف، وأن تسأل نفسك هل هذه الأوصاف تنطبق عليّ؟ فهذا الأحنف بن قيس انتبه فقال: عليّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم حتى أعلم من أنا ومن أشبه، أي لما علم أن القرآن قد ذكر جميع صفات البشر وبيّن صفاتهم أراد أن يبحث عن نفسه في أي الطبقات هو، أي:
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
[سورة الأنبياء: 10]
البشر كلهم في هذه الآيات، قال: فتح المصحف، فمر بقوم كانوا قيلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم، فسأل نفسه: هل أنت من هؤلاء؟ هذا سؤال لنا أيضاً، وقال: مرّ بقوم آخرين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون.
هناك شخص إذا جاءته الدنيا وهي طائعة يرتاح ويسترخي، يقعد، تفتر همته، يقول: الحمد لله! لقد فضل الله عليّ، ضعفت همته في طلب الحق، في طلب العلم، ضعفت همته في العمل الصالح، مال إلى الراحة، مال إلى الاستمتاع بالحياة، هذا معنى:
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾
[سورة السجدة:16]
العبرة أن القرآن بليغ جداً، معنى المضجع هنا ليس السرير فقط، أي ارتاح في حياته، بعد أن تزوج، وتاجر، وربح أرباحاً طائلة، ورتب أموره، ونظم حياته، وأمضى وقته في التمتع بمباهج الحياة فصار يألف الراحة، يألف القعود، يألف إلقاء الأوامر، يألف أن يعيش في راحة كبيرة جداً، قال: من صفات المؤمنين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، تماماً مثل طالب عنده بعد أسبوعين فحص مصيري تخته وثير، وفراشه ناعم، الملاءة نظيفة جداً، أي غرفته دافئة هادئة معزولة الصوت، لكن كلما نام ساعة انتبه مذعوراً ضاع الوقت. فعلامة المؤمن مادام في حياة، وبعد الحياة موت وجنة ونار وحساب لا يركن إلى الدنيا.
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
[سورة السجدة:16]
سأل نفسه هل أنت من هؤلاء ؟ وجد جواباً بالنفي، قال: ومرّ بقوم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، ومرّ بقوم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، هذا التدبر، أنت تقرأ صفات المؤمنين، قف هل أنا منهم ؟ هل هذه الصفات تنطبق عليّ ؟ لا تنطبق ماذا أفعل؟ ماذا أنتظر ؟ لا بدّ أن أسعى لكي أكون من هؤلاء.
قال: فوقف الأحنف وقال: لا، اللهم لست أعرف نفسي ها هنا، طبعاً يمكن أن يكون قد قالها تواضعاً هكذا النص، أي لم يجد هذه الصفات في نفسه، حتى يعدّ نفسه من هذه الطبقة، ثم أخذ الأحنف السبيل الآخر، فمرّ بقوم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون، ومرّ بقوم يقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون، ومرّ بقوم قال الله تعالى فيهم:
﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾
[سورة الزمر: 45]
ومرّ بقوم يقال لهم:
﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾
[سورة المدثر: 42-47]
قال الأحنف: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء، ولا أنا من هؤلاء، لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فما زال يقلب ورق المصحف يقرأ ويلتمس في أي الطبقات هو حتى وقع على هذه الآية:
﴿وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾
[سورة التوبة: 102]
فقال: أنا منهم، هذه الآية وصفته، قد يكون بتواضع قال هذا الكلام، قد يكون هو من أول قوم.
موانع فهم القرآن :
لكن على كلٍّ مغزى القصة أنت حين تقرأ القرآن:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾
[سورة الحجرات:15]
أنت عندك ريب ؟ سؤال دقيق جداً :
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
[سورة الأنفال: 2]
هكذا أنت ؟ هل يجلّ قلبك إذا قرأت القرآن؟ هل يقشعر جلدك؟ فإذا تلوت القرآن في رمضان فعليك أن تعرف نفسك أين أنت من هؤلاء، فالذي يمنع فهمك لكتاب الله يجب أن تبتعد عنه، من هذه الأشياء: أحياناً ينصرف الإنسان بكليته وبفهمه كله إلى تحقيق الحروف وإخراجها من مخارجها عندئذ غاب عن المعنى كلية، هذا تطرف في تلاوة القرآن حق تلاوته، تلاوته حق تلاوته أن تقرأه مجوداً، وتلاوته حق تلاوته أن تفهمه، وتلاوته حق تلاوته أن تطبقه، فإذا اكتفيت بواحدة تلوته حق تلاوته ولم تفهم مضمونه، ولا أمره، ولا حلاله، ولا حرامه، ولم تفكر في تطبيقه، إذاً أنت ما تلوته حق تلاوته، فأن يكون إخراج الحرف من مخرجه هو كل شيء في القرآن هذا هو ما يمنعك من فهمه، أن تخرج الحروف من مخارجها هذا شيء مهم، أما التطرف فأن تجعله كل شيء. هذا الكلام لا يعني أن نقلل من قيمة التجويد لا والله، لكن حينما ترى إنساناً لا يعبأ أبداّ بمعاني القرآن، ولا بأوامره، ولا بمضمونه، ولا بحلاله ولا بحرامه، ولا يعنيه منه إلا إتقان لفظه هنا التطرف، هنا يعدّ هذا العلم الثمين القيم الذي وسعه حتى غطى عليه كل شيء وغطى عليه معاني القرآن يعدّ هذا حاجباً أو مانعاً من موانع فهم القرآن، هكذا ورد في الإحياء.
مما يمنع فهم القرآن الكريم أن يكون مصراً على ذنب، أو متصفاً بكبر، إما أن تظنه فقط حسن تلاوة، أي كلما قرأته تبركت به، هذا مما يمنع فهم القرآن، المانع الثاني أن تكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر، هذا يمنعك من فهم كتاب الله، هذا مانع آخر.
قال: إذا عظمت أمتي الدرهم والدينار نزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي، أي حرموا قراءة القرآن، وحرموا فهم القرآن.
أحياناً الإنسان يقرأ القرآن، التخصيص في القرآن الكريم يمنع الفهم، مثلاً:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
[سورة الأحزاب:31]
قال: نزلت هذه الآية في زينب بنت جحش، هو ليس له علاقة، كل آية يفرغها في حادث تاريخي وانتهى الأمر، كأنه عطل كلام الله عز وجل، فأن يكون الإنسان مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر هذا يمنعه من فهم كلام الله، أن يفرغ كل آية في أسباب نزولها ويجعلها آية تعبر عن حدث وقع وانتهى قضية تاريخية، أي إذا جعلت القرآن كتاب تاريخ انتهى الأمر.
يا أيها الذين آمنوا - مؤمنو مكة- لا تكونوا كالذين كفروا - أي كفار مكة - وليس له هو دخل، قضية تاريخ، يقرأ الآيات كلما قرأ آية فرغها لجهة معينة، هذا التخصيص أيضاً يمنع فهمك لكلام الله وأن تنتفع به.
أحياناً الإنسان تزل قدمه يقرأ القرآن ويبتعد عن القصد الإلهي من أمرنا بتلاوته، فكلما عاد وصحح سيره في الطريق الصحيح كلما نجح وربح.
إذاً أخطر شيء في موضوع الدرس اليوم موضوع أن تأخذ شيئاً من القرآن جزئياً وتضخمه إلى درجة تجعله يغطي كل شيء، فأنت بهذا تمتنع عن فهم كلام الله، الحالة الثانية أن تكون مصراً على ذنب أو معصية أو متصفاً بالكبر، هذه الآية هكذا تفسيرها فقط، أي عندك شيء من التعصب، قارئ كتاباً عنها أو شخص قال لك تفسيرها أصبح عقلك مغلقاً، لم يعد عندك إمكان أن تفهم فهماً آخراً، هذا أيضاً يمنع الفهم، أو أنت جعلت هذه الآية لحادثة معينة نزلت في فلان انتهى الأمر، أما إذا فهمت الكلام أنه لكل المؤمنين في كل الأزمان والأعصار فيتفتح عقلك.
وسيدنا الأحنف بن قيس هذا التابعي الجليل كيف قرأ القرآن وقال: أين أنا من هؤلاء ومن هؤلاء؟ هذه المناقشة الفكرية، لذلك بعض الصحابة لهم ختمة يقرؤونها في ثلاثين عاماً، آية آية، حكم حكم، آية كونية، حلال، حرام، وأنصح أن يكون للإنسان ختمتان ختمة يقرأ فيها قراءة سريعة باليوم يقرأ جزءاً، وختمة يتدبر فيها القرآن على مهل، لعل درس الجمعة يكون التفسير فيه متأنياً كل درس آية واحدة، لكن نفرض أن إنساناً لم يقرأ إلا درس الجمعة معنى ذلك ما قرأ ولا بعشر سنين مرة، فيجب أن يكون هناك قراءة للتعبد، وقراءة للتدبر.
والحمد لله رب العالمين