ذل العبد لمولاه في الصلاة
بعد أن إنتهينــا من التكبير، هيا بنا نبدأ في الصلاة .. وعليك أن تكون مُطأطأ الرأس في صلاتك، لأن هذه هي الوقفة التي تليق بالعبد بين يدي سيده .. يقول ابن القيم "ينبغي للمصلي أن يقف ناكس الرأس مطرقا إلى الأرض"
وكان النبي صورة إذا صلى طأطأ رأسه ورمى ببصره نحو الأرض[صفة الصلاة (89)]
فعليك أن تنظر إلى موضع سجودك ..لأن هذه علامة الإجلال والخضوع للمحبوب، يقول ابن القيم في روضة المحبين "ومن علامات المحبة: إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه ورميه بطرفه نحو الأرض وذلك من مهابته له وحيائه منه وعظمته في صدره"
فإن الله تعالى ينظر إليك في الصلاة .. قال رسول الله صورة "فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت"[رواه الترمذي وصححه الألباني]، وقال صورة "لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عنه"[رواه أحمد وحسنه الألباني]
والانصراف يكون على نوعين: انصراف البصر وهو الالتفات، وانصراف القلب وهو السرحــــان .. يقول ابن القيم "ولهذا يستهجن الملوك من يخاطبهم وهو يحد النظر إليهم بل يكون خافض الطرف إلى الأرض، قال الله تعالى مخبرًا عن كمال أدب رسوله في ليلة الإسراء {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم: 17].. وهذا غاية الأدب، فإن البصر لم يزغ يمينا ولا شمالا ولا طمح متجاوزًا إلى ما هو رائيه ومقبل عليه"
والذل لله تعالى هو في الحقيقة عز وشرف للعبد .. قال رسول الله صورة "وما تواضع أحد لله إلا رفعه "[رواه مسلم]
أما رفع البصر إلى السمـــاء فهو أمرٌ مُحرَّم .. يقول رسول الله صورة "لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم" [رواه مسلم]
والالتفات هو اختلاس للشيطان من صلاتك .. عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صورة عن الالتفات في الصلاة، فقال "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" [متفق عليه]
فهل يُغمِّض العبد عينيه أم يفتحهما في الصلاة؟
يقول ابن القيم في (زاد المعاد) "لم يكن من هديه صورة تغميضُ عينيه في الصلاة" .. وقال "إن كان تفتيحُ العين لا يُخِلُ بالخشوع، فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يُشوش عليه قلبه، فهنالك لا يُكره التغميضُ قطعاً، والقولُ باستحبابه في هذا الحال أقربُ إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة، والله أعلم" .. ولكن الأصل أن يجاهد الإنسان نفسه ويحاول ألا يُغمض عينيه، كما قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله.
ثمَّ تضع يدك اليمنى على اليسرى على الصدر ..
وكان النبي صورة يضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، بحيث تُغطي اليمنى على ثلاث أماكن وهي:الكف والرسغ (أي: المفصل الذي بين الكف والذراع) والذراع .. وكان أحيانًا يقبض باليمنى على اليسرى .. وعليك أن تنوِّع بين الصفتين، حتى لا تسرَّح أو تمِّل من صلاتك.
ولكن ما هو السر في وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟
وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله هذا السؤال، فأجـــاب "هو ذلٌ بين يدي عزيز"
فأنت بين يدى الله عبد وهو الملك سبحانه،،
ثمَّ تشرَّع في دعـــاء الاستفتــــاح ..
ودعــاء الاستفتاح هو التحية التي تدخل بها على الملك سبحانه وتعالى، كما إن أهل الدنيا يدخلون على الملوك ويتفننون في تحيتهم .. والمحبون غالباً يقطعون كل ما يمنع لقاء بعضهم البعض قبل اللقــاء ..
وأنت .. كيف ستُحيّي الملك جلَّ جلاله؟ وكيف ستتفنن في تحيته؟
صورة
أسرار دعـــــــاء الاستفتـــــاح
إن التخلية لابد أن تكون قبل التحليَّة .. فمن كان بينه وبين محبوبه نقص، ينقبض حين رؤيته ولن يستطيع أن يقابله إلا عند ذهاب هذا النقص
وأنت لابد لك من لقاء الله تعالى، ولكن كم عليك من حقوق ما أديتها؟! وكم عليك من ذنوب ما كفرَّتها؟!
لهذا جعل الله تعالى لك في أول الصلاة ما يُذهب عنك ذلك الحرج، وهو أن تقول بين يديه دعــــاء الاستفتــــاح التالي ..
"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" [متفق عليه]
فتسأل الله عز وجلَّ أن يُباعد بينك وبين الخطايــــا التي لم تقع فيها بعد .. وأن يُنقيك من الخطايـــا التي قد وقعت فيها بالفعل، وإنما ذكر النبي صورة الثوب الأبيض لأن أي دنس يصيبه يظهر عليه سريعًا بخلاف غيره من الألوان ..
أما العبارة الثالثة: فهي زيادة على التنقية أكثر وهي التطهير .. فالماء مُنظف، والثلج والبَرَد للتبريد .. فجمع بين التنظيف والبرودة كما يقول أهل العلم: لأن الخطيئة تُسبب للمؤمن الندم، والندم يصيب المرء بحرارة في صدره .. فالماء يُذهب أثر المعصية، ثمَّ تُغسل الحرارة التي في الصدر بالثلج .. ثمَّ يأتي البَرَد زيادة على ذلك، ليُطفيء حرارة الأسى من الخطيئة فتُمحى كليًا ولا يبقى لها أثرًا.
ومن فوائد هذا الاستفتاح: أنه يعطيك معدل ثابت للتوبة وغسل الذنوب لا تهبط عنه يوميًا .. فهو يُذكِّرك بتجديد التوبة كل يوم خمس مرات .. ولا مكان أنسب لك لتجديد التوبة من المحــراب، ولا مقام أرجى لك للعفو من الصلاة إلى الله.
وهناك دعاء آخر للاستفتـــاح، وهو:
"سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"[رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني]
وهذا الدعــاء عظيم جدًا، لدرجة أن النبي صورة يقول "إن أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك"[السلسلة الصحيحة (2598)] .. وهو يُقال في صلاة النفل، بعكس الدعــاء الأول الذي يُقال في صلاة الفرض.
والتسبيــــح .. هو تنزيه الله عز وجلَّ عما لا يليق .. والتحميد .. إثبات كمال الأوصاف والأفعال لله الكبير المتعال.
يقول ابن القيم "وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك .. شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب سالمًا من كل نقص محمودًا بكل حمد، فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص .. تبارك اسمه، فلا يُذكَّر على قليل إلا كثرة ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئا داحرا"
وجَدُك .. أي عظمتُك .. ولا إله غيرك .. فإن وحدانية الربوبية تقتضي وحدانية الألوهية، ولا إله إلا الله تعني لا معبود حقٌ إلا الله.
ومن فوائد استفتاح العظمة .. أنه يجمع لك قلبك ويفتح لك أبواب التفكُّر بالآيات؛ لأن الاستفتاح به إثبات العظمة والكبرياء لله وحده مما ينزع الكبر من العبد .. فإذا نُزِع الكِبر، ذهبت الغشاوة التي كانت تمنع من فهم الآيات وتدبُرها.
يقول تعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..}[الأعراف: 146].. يقول ابن كثير فى تفسير الآية "أي كما استكبروا بغير الحق أذلَّهم الله بالجهل".
وهذا الاستفتاح هو تمجيد من العبد لله تعالى، أما الأول فكان مغفرة للعبد من الله سبحانه وتعالى .. وهكذا جعل الشارع الحكيم للعبد في صلاته تنويعًا شيء من العبد لله وشيء من الله للعبد، فهو يُنوع بينهما.