رسالة إلى كل مسلم
الشيخ : بكر بن عبد الله أبو زيد
( من كتاب " التصنيف " للشيخ بكر )
إلى كُل مسلم : إلى كُل من احترف التصنيف فتاب . إلى من رُمي بالتصنيف فصبر . إلى كُل عبد مسلم شحيـح بدينه ، يخشى الله ، والدار الآخرة . إلى هؤلاء جميعاً مسلمين ، قانتين، باحثين عن الحق على منهاج النبوة ، وأنوار الرسالة - أسوق التذكير والنصيـحة - علماً وعملاً - بالأصول الآتية:
1) الأصل الشرعي : تـحريم النيل من عرض المسلم .
وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة في إطار الضروريات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع ، ومنها : ( حفظُ العرض ) .
فيـجب على كل مسلم قدر الله حق قدره ، وعظم دينه وشرعه ، أن تعظم في نفسه حرمة المسلم : في دينه . ودمه . وماله . ونسبه . وعرضه .
2) والأصل بناء حال المسلم على السلامة والستر لأن اليقين لا يزيله الشك وإنما يُزالُ بيقين مثله.
فاحذر - رحمك الله - ظاهرة التصنيف هذه ، واحـــذر الاتهامات الباطلة ، واستسهال الرمي بها هنا وهناك ، وانفض يدك منها ، يخْلُ لك وجه الحق ، وأنت به قرير العين ، رضيّ النفس .
3) لا يُخرجُ عن هذين الأصلين إلا بدليل مثل الشمس في رائعة النهار على مثلها فاشهد أو دع . فالتزم واجب (( التبين )) للأخبار ، والتثبت منها ، إذ الأصل البراءة .
وكم من خبر لا يصح أصلاً .
وكم من خبر صحيـح لكن حصل عليه من الإضافات مالا يصح أصلاً ، أو حُرِّف ، وغُيِّر ، وبُدِّل، وهكذا
وبالجملة فلا تُقرِّر المؤاخذة إلا بعد أن تأذن لك الحُجة ، ويقوم عندك قائم البرهان كقائم الظهيرة.
وقد أمرنا الله تعالى بالتبيُن فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على مافعلتم نادمين ) [ الحجرات :6] .
وقال تعالى : ( وإذا جاءهُم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمهُ الذين يستنبطونه منهم ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتهُ لأتبعتُمُ الشيطــان إلا قليلاً ) [ النساء: 83 ]
قال السيوطي - رحمه الله تعالى - :
( نزلت الآية في جماعة من المنافقين ، أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك فتضعف قلوب المؤمنين، ويتأذى النبيُ صلى الله عليه وسلم ) .
4) من تجاوزهما بغير حق مُتيقَّن فهو خارقٌ حُرمة الشرع بالنيل ظلماً من ( عرض أخيه المسلم) وهذا ( مفتون ).
5) يـجب أن يكون المسلم على جانب كريم من سُمُو الخلق وعلو الهمة ، وأن لا يكون معبراً تُمَرَّرُ عليه الواردات والمُختـلقات .
6) يوجد أفراد شُغلهم الشاغل : " تطيير الأخبار كُل مطار " يتلقى لسان عن لسان بلا تثبت ولا روية ، ثم ينشره بفمه ولسانه بلا وعي ولا تعقُّل ، فتراه يقذف بالكلام ، ويطير به هنا وهناك ، فاحذر طريقتهم ، وادفع في وجهها ، واعمل على استصلاح حالهم . ومن وقع في حبالهم فعليه سَلُّ يده من رابطتهم هذه .
7) التزم " الإنصاف الأدبي " بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل ، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه ، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص ، واتخاذها رصيداً يُنفق منه الجراح في الثلب ، والطعن . وأن تدعو له بالهداية ، أما التزيد عليه ، وأما البحث عن هفواته ، وتصيدها ، فذنوب مضافة أخرى . والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ، ودين متين .
وعليه فاحذر قلة الإنصاف :
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة *** بين الرجال وإن كانوا ذوي رحمِ
8) احذر " الفتانين " دعاة " الفتنة " الذين يتصيدون العثرات وسيماهُم :
جعل الدعاة تـحت مطارق النقد ، وقوارع التصنيف ، موظفين لذلك : الحرص على تصيد الخطأ ، وحمل المحتملات على المؤاخذات ، والفرح بالزلات والعثرات ؛ ليُمْسِكوا بها بالحسد والثلب ، واتخاذها ديدناً .
وهذا من أعظم التجني على أعراض المسلمين عامة ، وعلى الدعاة منهم خاصة .
وسيماهم أيضاً : توظيف النصوص في غير مجالها ، وإخراجها في غير براقعها ، لتكثير الجمع ، والبحث عن الأنصار ، وتغرير الناس بذلك .
فإذا رأيت هذا القطيع فكبر عليهم ، وولهم ظهرك ، وإن استطعت صد هجومهم وصيالهم فهو من دفع الصائل
9) اعلم أن " تصنيف العالم الداعية " - وهو من أهل السنة - ورميهُ بالنقائص : ناقض من نواقض الدعوة وإسهام في تقويض الدعوة ، ونكث الثقة ، وصرف الناس عن الخير ، وبقدر هذا الصد ينفتـح السبيل للزائغين . فاحذر الوقوع في ذلك .
وقد عقدتُ في هذا مبحثاً من كتاب " التعالم " أسوقه هنا للحاجة إليه :
( أسند البخاري في : كتاب الشروط من صحيـحه: قصة الحديبية ومسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها وفيها :
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل، فألحت فقالوا : خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ماخلأت القصواء وماذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل )) الحديث .
قال الحافظ ابن حجر في فقه هذا الحديث ( ) :
( جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته ، وإن جاز أن يطرأ غيره ، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها ، لا ينسب إليها ، ويُرد على من نسبه إليها ، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله ، لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة : صحيـحاً ، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم ) اهـ .
فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل ، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً ، ثم وقعت منه هنة أو هفوة ، فهو أولى بالإعذار ، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها؛ استصحاباً للأصل ، وغمر مابدر منه في بحر علمه وفضله ، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ، ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه وقد نُهينا أن يكون أحدنا عوناً للشيطان على أخيه . فما ألطف هذا الاستدلال وأدق هذا المنزع ، ورحم الله الحافظ الكناني ابن حجر العسقلاني ، على شفوف نظره ، وفقه نفسه ، وتعليقه الحكم بمدركه .
قال الصنعاني - رحمه الله تعالى - ( ) :
( وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب ) اهـ .
وقال أبو هلال العسكري ( ) :
( ولا يضع من العالم الذي برع في علمه : زلة ٌ ، إن كانت على سبيل السهو والإغفال ، فإنه لم يعر من الخطأ إلا من عصم الله جل ذكره . وقد قالت الحكماء : الفاضل من عُدت سقطاته ، وليتنا أدركنا بعض صوابهم أو كنا ممن يميز خطأهم ) اهـ .
وقد تتابعت كلمة العلماء في الاعتذار عن الأئمة فيما بدر منهم ، وأن ما يبدو من العالم من هنات لا تكون مانعـة للاستفادة من علمه وفضله .
فهذا الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - يقول في ترجمة كبير المفسرين قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة 117 هـ رحمه الله تعالى بعد أن اعتذر عنه ( ) :
( ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه ، وعلم تـحريه للحق ، واتسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللة ، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم : لانقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك ) اهـ .
وقال أيضاً في دفع العتاب عن الإمام محمد بن نصر المروزي - رحمه الله تعالى - ( ) :
( ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له ، قمنا عليه ، وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ، ولا من هو أكبر منهما ، والله هو هادي الخلق إلى الحق ، وهو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ) اهـ .
وقال في ترجمة إمام الأئمة ابن خزيمة المتوفى سنة 311 هـ - رحمه الله تعالى - ( ) :
( وكتابه : في التوحيد . مجلد كبير . وقد تأول في ذلك حديث الصورة .
فليعذر من تأول بعض الصفات ، وأما السلف فما خاضوا في التأويل ، بل آمنوا وكفوا ، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله ، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه وبدعناه ، لقل من يسلم من الأئمة معنا . رحم الله الجميع بمنه وكرمه ) اهـ .
وقال في ترجمة باني مدينة الزهراء بالأندلس : الملك الملقب بأمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس المتوفى سنة 350هـ ( ) :
( وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد ، احتملت له هنات ، وحسابه على الله ، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد ، وللخزائن أباد ، فإن ربك لبالمرصاد ) اهـ .
وقال في ترجمة : القفال الشاشي الشافعي المتوفى سنــــة 365 هـ - رحمه الله تعالى - ( ) :
( قال أبو الحسن الصفار : سمعت أبا سهل الصعلوكي ، وسُئل عن تفسير أبي بكر القفال ، فقال : قدسه من وجه ودنسه من وجه ، أي : دنسه من جهة نصره للاعتزال .
قلت : قد مر موته ، والكمال عزيز ، وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل ، فلا تدفن المحاسن لورطةٍ، ولعله رجع عنها . وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق ولاحول ولا قوة إلا بالله ) اهـ .
وبعد أن ذكر بعض الهفوات لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ - رحمه الله تعالى- قال ( ):
( قلت : الغزالي إمام كبير ، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ ) اهـ .
وقال أيضاً ( ) :
( قلت:مازال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً، ويرد هذا على هذا ، ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل ) اهـ
وقال أيضاً ( ) :
( فرحم الله الإمام أبا حامد ، فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ . ولا تقليد في الأصول ) اهـ .
ونبه على حال مجاهد فقال ( ) :
( قلت : ولمجاهد أ قوال وغرائب في العلم والتفسير تُستنكر ) اهـ .
وقال في ترجمة ابن عبد الحكم ( ) :
( قلت : له تصانيف كثيرة ، منها : كتاب في الرد على الشافعي . وكتاب أحكام القرآن . وكتاب الرد على فقهاء العراق . ومازال العلماء قديماً وحديثاً يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف ، وبمثل ذلك يتفقه العالم ، وتتبرهن له المشكلات ، ولكن في زمننا قد يعاقب الفقيه إذا اعتنى بذلك لسوء نيته ولطلبه للظهور والتكثر فيقوم عليه قضاة وأضداد ، نسأل الله حسن الخاتمة وإخلاص العمل ) اهـ .
وفي ترجمة إسماعيل التيمي المتوفى سنة 535 هـ أنه قال ( ) : ( أخطأ ابن خزيمة في حديث الصورة ، ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب .
قال أبو موسى - المديني - : أشار بهذا إلى أنه قل إمام إلا وله زلة ، فإذا ترك لأجل زلته ، ترك كثير من الأئمة ، وهذا لا ينبغي أن يفعل ) اهـ .
فهذا الذهبي نفسه ( ) قد تكلم رحمه الله تعالى - في أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة ولا يبقى لهم شعور بشئ منها . وقد تعقبه العلامة الشوكاني في فتاواه المسماة : الفتـح الرباني . وذكر إجماع أهل الإسلام على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاءً وإدراكاً - لذهاب ماكان يعتريهم في الدنيا . وساق النصوص في ذلك . منها قوله تعالى (( ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المُكرمين )) .
وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية النميري – رحــمه الله تعالى – في جواب له بإبطال فتوى قضاة مصر بحبسه وعقوبته من أجل فتواه بشأن شد الرحل إلى القبور ( ) :
( إنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى ، أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ، وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون : لم يـجز منعه من الفتيا مطلقاً ، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه ، فمازال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك ... ) اهـ .
وهذا الإمام الحافظ ابن حبان المتوفى سنة 354 هـ رحمه الله تعالى فاه بقوله : ( النبوة العلم والعمل ) . فهُجر وحُكم عليه بالزندقة وكتب فيه إلى الخليفة فكتب بقتله .
لكن أنصفه المحققون من أهل العلم فوجهوا قوله واستفادوا من علمه وفضله منهم : ابن القيم ( ) ،
والذهبي ( ) ، وابن حجر ( ) في سواهم من المحققين .
ومما قاله الذهبي :
( قلت : وهذا أيضاً له محمل حسن ، ولم يرد حصر المبتدأ في الخبر . ومثله : الحج عرفة ، فمعلوم أن الرجل لا يصير حاجاً بمجرد الوقوف بعرفة ، إنما ذكر مهم الحج ، ومهم النبوة ، إذ أكمل صفات النبي : العلم والعمل ، ولا يكون أحد نبياً إلا أن يكون عالماً عاملاً . نعم النبوة موهبة من الله تعالى لمن اصطفاه من أولي العلم والعمل لا حيلة للبشر في اكتسابها أبداً ، وبها يتولد العلم النافع والعمل الصالح .
ولا ريب أن إطلاق ما نقل عن ابي حاتم : لا يسوغ ، وذلك نفسٌ فلسفي ) اهـ .
وهذا العلامة أبو الوليد الباجي المالكي المتوفى سنة 474 هـ رحمه الله تعالى افترع القول بارتفاع أمية النبي صلى الله عليه وسلم لقصة الحديبية فقام عليه أهل عصره حتى حكموا بكفره .
وقال بعضهم فيه :
عجبت ممن شرى دنياً بآخرة
وقال إن رسـول الله قد كتبا
ثم تطامنت الفتنة وأوضح المحققون بأن واقعة الحديبيـــة لا سبيل إلى إنكارها لثبوتها لكنها لا تنفي الأمية ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث في العرب وهم أمة أمية لا تكتب ولا تـحسب ومع هذا يوجد فيهم من يكتب مثل كتاب الوحي - لكنهم على ندرة ولم ينف هذا أمية أمته صلى الله عليه وسلم من العرب حقق ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الباجي من السير ( ) .
ولعصرينا ابن حجر القاضي القطري كتاب حافل باسم : ( الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر ) .
وهذا عبد الملك بن حبيب رحمه الله تعالى من أعلام الفقه المالكي . عيب عليه أشياء ولم يُهجر رحمه الله تعالى ( ) .
والجياني : أحمد بن محمد بن فرج اللغوي الشاعر ، لحقته محنة لكلمة عامية نطق بها ، نقلوها عنه
وكان سجنه بسببها في زمن : الحكم بن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة 336 هـ ( ) .
وهؤلاء الأئمة : ابن الأثير ، وابن خلدون ، والمقريزي قد صححوا النسب الفاطمي للعبيديين . وقد صاح المحققون على القائلين بهذا منهم : ابن تيمية ، وابن القيم ، والذهبي ، وابن حجر وغيرهم في القديم والحديث .
والمؤرخ ابن خلدون أيضاً عقب عليه الهيتمي بأنه لما ذكر الحسين بن علي - رضي الله عنه - في تاريخه قال ( ) : ( قتل بسيف جده ) .
لكن دافع الحافظ ابن حجر عن ابن خلدون بأن هذه الكلمة لم توجد في التاريخ الموجود الآن ولعله ذكرها في النسخة التي رجع عنها .
وقد تتابع الغلط على ابن خلدون أيضاً في أنه يـحط على العرب من أنهم أهل ضعن ووبر لا يصلحون لـملك ولا سياسة ... وابن خلدون كلامه هذا في " الأعراب " لا في " العرب " فليعلم .
فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سبباً في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة بل مازالت منارات يهتدي بها في أيدي أهل الإسلام . وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطأ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم ، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان ، ولتقلص ظل العلم في الإسلام ، وأصبح الاختلال واضحاً للعيان . والله المستعان .
وكان الشيخ طاهر الجزائري المتوفى سنة 1338 هـ رحمه الله تعالى يقول وهو على فراش الموت ) ( عدوا رجالكم ، واغفروا لهم بعض زلاتهم ، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم ، ولا تُنفروهم ، لئلا يزهدوا في خدمتكم ) اهـ .
وينتظم ما سلف تـحقيق بالغ للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى ذكره في مباحث الحيل من " إعلام الموقعين " ( 3/ 294-298 ) فانظره .
وإنما أتيت على النقول المتقدمة مع كثرتها، لعموم البلوى على أهل العلم من بعض الجهال، إذا حصل له رأي عن قناعة ودراية في مسألة فقهية فروعية - يكادون يُزهقونه ويـجهزون عليه لتبقى الريادة الوهمية لهم ، والله المستعان على ما يفعلون .
أما المبتدعة فلا والله ، فإنا نخافهم ونـحذرهم ، ولواجب البيان نـحذرُهُم من بدعهم ، فاحذر مخالطهم ، والتلقي عنهم ، فإن ذلك سم ناقع ) انتهى من كتاب : " التعالم " .
10) قد ترى الرجل العظيم يشار إليه بالعلم والدين، وقفز القنطرة في أبواب التوحيد على أصول الإسلام والسنة وجادة سلف الأمة ، ثم يـحصل منه هفوة ، أو هفوات، أو زلة، أو زلات .
فلتعلم هنا : أنه ما كل عالم ولا داعية كذلك يؤخذ بهفوته ، ولا يُتبع بزلته ، فلو عُمل ذلك لما بقي معنا داعية قط ، وكُلٌ رادٌ ومردُودٌ عليه ، والعصمة لأنبياء الله ورسله .
نعم : يُنبه على خطئه ، ولا يـجرم به ، فيـحرمُ الناسُ من علمه ودعوته ، وما يـحصل على يديه من الخير . ومن جرم المخطئ في خطئه الصادر عن اجتهاد له فيه مسرحٌ شرعاً ، فهو صاحب هوى يـحمل التبعة مرتين:
تبعة التجريم ، وتبعة حرمان الناس من علمه ، بل عليه عدة تبعات معلومة لمن تأملها .
11) قد ترى الرجل العظيم ، يشار إليه بالعلم والدين ، وقد ينضاف إلى ذلك نزاله في ساحات
الجهاد ، وشُهود سنابك الجياد ، وبارقة السيوف ، ويكون له بجانب ذلك هنات وهنات في توحيد العبادة ، أو توحيد الأسماء والصفات ، ومع هذا فترى نظراءه من أهل العلم والإيمان ممن سلم من هذه الهنات ، يشهدون بفضله ويقرون بعلمه، ويدينون لفقهه ، وعلو كعبه، فيعتمدون كتبه وأقواله، ولا يصرفهم هذا عن هذا : " وإذا بلغ الماء قُلتين لم يـحمل الخبث " .
ولا تمنعه الاستفادة منه من البيان بلطف عما حصل له من عثرات ، بل يبينونها ويسألون الله أن يُقيل عثرته ، وأن يغفرها بجانب فضله وفضيلته . وخذ شاهداً في حال المعاصرة : إن شداة اعتقاد السلف - كثر الله جمعهم - يكُدُون ليلهم ، ونهارهم ، ويبذلون وُكدهم في تـحضير الرسائل الجامعية لعدد من وجوه أهل العلم في دراسة حياتهم ، وسيرهم ، وجمع شمائلهم ، وتـحقيق كتبهم ، ونشرها بين الناس، ويرون هذا قربة بعلمٍ يُنتـفع به. وتتسابق كلمة علماء العصر بالمدح والثناء .
وبهذا تعلم أن تلك البادرة " الملعونة " من تكفير الأئمة : النووي ، وابن دقيق العيد ، وابن حجر العسقلاني - رحمهم الله تعالى - أو الحط من أقدارهم ، أو أنهم مبتدعة ضلال . كل هذا من عمل الشيطان ، وباب ضلالة وإضلال ، وفساد وإفساد ، وإذا جُرح شهود الشرع جُرح المشهود به ، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون ، فهل من مُنفذٍ في الواقعين نصيـحة زياد فيما ساقه ابن عبد البر - رحمه الله تعالى - بسنده أن زياداً خطب على منبر الكوفة فقال :
( أيها الناس إني بُتُ ليلتي هذه مُهتماً بخلال ثلاث رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيـحة :
رأيت إعظام ذوي الشرف ، وإجلال ذوي العلم ، وتوقير ذوي الأسنان .
والله لا أوتى برجل رد على ذي علم ليضع بذلك منــه إلا عاقبته ... إلى أن قال :
إنما الناس بأعلامهم ، وعلمائهم ، وذوي أسنانهم ) ( ) .
12) وإن سألت عن الموقف الشرعي من انشقاق هؤلاء بظاهرة التجريـح ، فأقول :
أ - احذر هذا الانشقاق لا تقع في مثله مع " المنشقين الجراحين " المبذرين للوقت والجهد والنشاط في قيل وقال ، وكثرة السؤال عن " تصنيف العباد " وذلك فيما انشقوا فيه، فهو ذنب تلبسوا به ، وبلوى وقعوا فيها ، وادع لهم بالعافية.
ب - إذا بُليت بالذين يأتون في مجالسهم هذا المنكر " تصنيف الناس بغير حق " واللهث وراءه ، فبادر بإنفاذ أمر الله في مثل من قال الله فيهم :
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ﴾ [ الأنعام : 68 ] .
وفي هذا القدر كفاية – إن شاء الله تعالى - وفيما كتبت في : " حلية طالب العلم " ، و " التعالم " ، و " هجر المبتدع " و " حكم الانتماء " ، و " الرد على المخالف " أصول نافعة .
والله تعالى أعلم .