جواز الصلاة في المساجد التي بها قبور
الصلاة في المساجد التي يوجد بها أضرحة الأولياء والصالحين صحيحة ومشروعة ، بل إنها تصل إلى درجة الاستحباب ، وذلك ثابت بالكتاب والسنة وفعل الصحابة وإجماع الأمة الفعلي :
فمن القرآن الكريم :
قوله تعالى : ( فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً ) . ( الكهف :21 ) .
وسياق الآية يدل على أن القول الأول هو قول المشركين ، وأن القول الثاني هو قول الموحدين ، وقد حكى الله تعالى القولين دون إنكار ، فدل ذلك على إمضاء الشريعة لهما ، بل إن سياق قول الموحدين يفيد المدح ، بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك ، بينما جاء قول الموحدين قاطعاً وأن مرادهم ليس مجرد البناء بل المطلوب إنما هو المسجد . قال الإمام الرازي في تفسير ( لنتخذن عليهم مسجداً ) : ” نعبد الله فيه ، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد ” . اهـ . وقال الشهاب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي : ” في هذه دليل على اتخاذ المساجد على قبور الصالحين ” . اهـ .
ومن السنة :
حديث أبي بصير – رضي الله عنه – الذي رواه عبد الرزاق عن معمر ، وابن إسحاق في السيرة ، وموسى بن عقبة في – مغازيه – وهي أصح المغازي كما يقول الإمام مالك ثلاثتهم عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم – رضي الله عنهم – : ” أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو دفن أبا بصير – رضي الله عنه – لما مات وبنى على قبره مسجدا بسيف البحر ، وذلك بمحضر ثلاثمائة من الصحابة ” . وهذا إسناد صحيح ، كله أئمة ثقات ، ومثل هذا الفعل لا يخفى على رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ، ومع ذلك فلم يرد أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أمر بإخراج القبر من المسجد أو نبشه .
كما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال : (( في مسجد الخيف قبر سبعين نبياً )) . أخرجه البزار والطبراني في المعجم الكبير . وقال الحافظ بن حجر في مختصر زوائد البزار : ” هو إسناد صحيح ” . وقد ثبت في الآثار أن سيدنا إسماعيل – عليه السلام – وأمه هاجر – رضي الله عنها – قد دفنا في الحجر من البيت الحرام ، وهذا هو الذي ذكره ثقات المؤرخين واعتمده علماء السير : كابن إسحاق في السيرة ، وابن جرير الطبري في تاريخه ، والسهيلي في الروض الأنف ، وابن الجوزي في المنتظم ، وابن الأثير في الكامل ، والذهبي في تاريخ الإسلام ، وابن كثير في البداية والنهاية ، وغيرهم من مؤرخي الإسلام ، وأقر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ذلك ، ولم يأمر بنبش هذه القبور وإخراجها من مسجد الخيف أو من المسجد الحرام .
وأما فعل الصحابة :
فقد حكاه الإمام مالك في الموطأ بلاغا صحيحا عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن الحبيب –صلى الله عليه وآله وسلم – فقال : ” فقال ناس : يدفن عند المنبر ، وقال آخرون : يدفن بالبقيع ، فجاء أبو بكر الصديق ، – رضي الله عنه – فقال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يقول : (( ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه )) ، فحفر له فيه ” . اهـ ، والمنبر من المسجد قطعاً ولم ينكر أحد من الصحابة هذا الإقتراح ، وإنما عدل عنه أبو بكر – رضي الله عنه – تطبيقاً لأمر النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يدفن حيث قبضت روحه الشريفة – صلى الله عليه وآله وسلم – ، فدفن في حجرة السيدة عائشة – رضي الله عنها – المتصلة بمسجده الذي يصلي فيه المسلمون ، وهذا هو نفس وضع المساجد المتصلة بحجرات أضرحة الأولياء والصالحين في زماننا .
وأما دعوى الخصوصية في ذلك للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فهي غير صحيحة ، لأنها دعوى لا دليل عليها ، بل هي باطلة قطعاً بدفن سيدنا أبي وسيدنا عمر – رضي الله عنهما – في هذه الحجرة التي كانت السيدة عائشة – رضي الله عنها – تعيش فيها وتصلي فيها صلواتها المفروضة والمندوبة ، فكان ذلك إجماعاً من الصحابة – رضي الله عنهم – على جوازه .
ومن إجماع الأمة الفعلي وإقرار علمائها لذلك :
صلاة المسلمين سلفا وخلفا في مسجد سيدنا رسول الله – صلى الله عيه وآله وسلم – والمساجد التي بها أضرحة بغير نكير ، وإقرار العلماء من لدن الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة الذين وافقوا على إدخال الحجرة النبوية الشريفة إلى المسجد النبوي سنة ثمان وثمانين للهجرة ، وذلك بأمر الوليد بن عبد الملك لعامله على المدينة حينئذٍ عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – ولم يعترض منهم إلا سعيد بن المسيب لا لأنه يرى حرمة الصلاة في المساجد التي بها قبور ، بل لأنه كان يريد أن تبقى حجرات النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كما هي يطلع عليها المسلمون حتى يزهدوا في الدنيا ويعلموا كيف كان يعيش نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم وأما حديث عائشة – رضي الله عنها – في الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قال : (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) . فالمساجد : جمع مسجد ، والمسجد في اللغة : مصدر ميمي يصلح للدلالة على الزمان والمكان والحدث ، ومعنى اتخاذ القبور مساجد : السجود لها على وجه تعظيمها وعبادتها كما يسجد المشركون للأصنام والأوثان كما فسرته الرواية الصحيحة الأخرى للحديث عن ابن سعد في الطبقات الكبرى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعاً بلفظ : (( اللهم لا تجعل قبري وثنا ،لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ، فجملة (( لعن الله قوماً …. )) بيان لمعنى جعل القبر وثنا ، والمعنى : اللهم لا تجعل قبري وثنا يسجد له ويعبد كما سجد قوم لقبور أنبيائهم . قال الإمام البيضاوي : ” لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم ، تعظيماً لشأنهم ، ويجعلونها قبلة ويتوجهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثانا ، لعنهم الله ، ومنع المسلمون عن مثل ذلك ونهاهم عنه ، أما من اتخذ مسجد بجوار صالح أو صلى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه لا التعظيم له والتوجه فلا حرج عليه ، ألا ترى أن مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثم الحطيم ، ثم إن ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته ، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة ، لما فيها من النجاسة ” . اهـ .
ومن المقرر شرعاً أن مكان القبر إما أن يكون مملوكاً لصاحبه قبل موته ، أو موقوفاً عليه بعده ، وشرط الواقف كنص الشارع ، فلا يجوز أن يتخذ هذا المكان لأي غرض آخر ، وقد حرم الإسلام انتهاك حرمة الأموات ، فلا يجوز التعرض لقبورهم بالنبش ، لأن حرمة المسلم ميتا كحرمته حيا ، فإذا كان صاحب القبر من أولياء الله الصالحين فإن الاعتداء عليه بنبش قبره أو إزالته أشد حرمة وأعظم جرما ، فإنهم موضع نظر الله تعالى . ومن نالهم بسوء أو أذى فقد تعرض لحرب الله عز وجل كما جاء في الحديث القدسي : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )) . رواه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه