وأما قوله (ص20): «وقال ابن عيينة: لم نأخذ منه إلا ما لا نجد عند غيره؛ قلت: وفي هذا تضعيف له، إذ لو كان من الثقات ما توانى عنه ابن عيينة، وإنما تعامل معه معاملة الضعفاء الذين يروي لهم عند الحاجة، وهذا أسلوب معروف عند المتقدمين... إلخ».
أقول: هذا القول ينقضه كلامه -نفسه- (ص21): «ولم يعتمده البخاري في «صحيحه»، وإنما أخرج له حديثاً واحداً متابعةً...ولم يعتمده -أيضاً- مسلم في «صحيحه»، وإنما أخرج له... في المتابعات... والشواهد».
هذا وحده يهدم ما زعمه وتأوَّله من كلام ابن عيينة- والذي ليس هو بصريح في التضعيف- فهذا (الهدام) يشهد: أن البخاري ومسلماً أخرجا له في الشواهد والمتابعات -زعم- ، فهل من يخرج له في «الصحيحين» في المتابعات والشواهد وُجِدَ عند غيره ما وُجِدَ عنده أم لا ؟ فالبخاري ومسلم رويا له في «صحيحيهما» من طريق سفيان بن عيينة عنه، فأنت تقول: أخرجا له متابعة، فلماذا لم يأخذ سفيان بن عيينة عن الذي تابع هشاماً وهو موجود عند المتابع؟ لِمَ روى عنه مباشرة مع وجود من تابعه من الثقات؟! فهل من حاجة لأن يروي -مع زعمك ضعفه- سفيان عن هشام مع وجود من تابعه ومن هو أوثق منه؟! هذا يبطل ويهدم ما حمّلت به كلام الإمام سفيان بن عيينة ما لم يحتمله.
ثم؛ مَن وضع هذه القاعدة التي ذكرتها؟ وأين هي؟ فالأخذ عن بعض الرواة لعدم وجود الحديث عند غيره ليس بلازم منه ضعف هذا الراوي؛ فتنبه!
لكن هذا الرجل في سبيل تأييد كلامه؛ يهرف بما لا يعرف، ولا يعرف ما به يهرف، فالمهم أن يؤذي بما به يهذي!
وأمّا نقله عن أبي داود: أنه ضُرب الحدّ بمكة ،فهذا ليس بتضعيف، ولا جرح قط -إن صحَّ هذا عن أبي داود-.
هذا ما وقفت عليه من تضعيف هذا (الهدّام) لهشام بن حجير.
أما جوابه عن توثيق من وثقه؛ فكلام مضحك مبكٍ؛ يدل على عِظَمِ جهله وتجاهله و مكابرته وخوضه في علم لا يحسنه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»([21]).
قال (ص21):« وأمّا ما ذكر من توثيق العجلي، وابن سعد ، وابن حبان فواحدهم قريب من الآخر ، وليسوا بالمعتمدين ككبار المتقدمين عند التفرد، فكيف عند المخالفة لهم ؟!! وكذا الساجي وابن شاهين».
قال شيخنا الإمام الألباني -رحمه الله- رداً على صنيع له -مثله-:
«إن هذا التعليل المذكور ليس على إطلاقه ، فكثيراً ما رأينا الحفاظ النقاد من المتأخرين يوثِّقون من تفرَّد بتوثيقه ابن حبان؛ كالإمام الذهبي، والحافظ العسقلاني، وما أظن أن الغرور وصل بك إلى أنّ تدعي: أنك أعلم منهم! أو أن تحشرهم في زمرة المتساهلين»([22]).
فكيف إذا ضُمّ إليه العجلي وابن سعد وابن شاهين والساجي؟!
وأيضاً؛ توثيق ابن حبان والعجلي وابن شاهين مقبول إذا وافقهم أحد من الحفاظ النقاد الموثوق بتوثيقهم؛ كالذهبي، والعسقلاني وأمثالهم، وهذا قد وثقه الذهبي في «الكاشف» ؛ فقال: «هشام بن حجير ثقة»، وهو مما كتمه (الهدّام) ولم يذكر لقرائه تعمية لهم عن كلام الذهبي فيه، وأيضاً؛ لم يذكر كلام الحافظ فيه في «التقريب»:«صدوق له أوهام».
وانظروا -الآن- كيف تَنَصَّلَ -بل مَلَصَ!- من مخالفة الحفاظ الذين وثَّقوا الرجل: أما ابن حبان وابن سعد وابن شاهين والعجلي؛ فدفع توثيقهم بدعوى تساهلهم، وأما الساجي ؛ فألحقه بهم! وأما توثيق الذهبي وابن حجر، فكتمهما عن القراء؛ لأنه لا جواب لديه؛ إلا أن يقول فيهما: إنهما مقلدان! والله المستعان([23]).
وأما جهله وتجاهله ومكابرته وخوضه في علم لا يحسنه؛ فليس موضع نظر وتأمل!!
فلينظر القراء الكرام كيف لا يستقر على حكم توصلاً منه إلى تضعيف الحديث من أصله، و عليه استقر رأي الحفاظ المتأخرين -كافة- الذين هم أعلم بالخلاف الذي حكاه؛ ولذلك تتابعوا على تصحيح حديثه؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والحافظ ابن حجر والذهبي وغيرهم
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها
فلم يَضِرْها وأوهى قَرنَه الوعِلُ
وبالجملة ؛ لقد تيقنّت من متابعتي لتضعيفاته الظالمة للأحاديث الصحيحة الثابتة عند حفاظ الأمة؛ أن الرجل مغرم بالمخالفة والمشاكسة ، وعدم الاعتداد بقواعدهم وأحكامهم ، متشبثاً بأوهى العلل ، لو كانت كخيوط القمر!([24])
بقي أن أقول: لقد حشر (الهدّام) الساجيَّ في زمرة المتساهلين الذين لا يعتمد توثيقهم، وهذا ظلم وجنف للحافظ الساجيّ!
قال ابن أبي حاتم«في الجرح والتعديل» (3/601) عن الساجيّ:« وكان ثقة يعرف الحديث والفقه، وله مؤلفات حسان في الرجال واختلاف العلماء وأحكام القرآن».
وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (14/199) و«تذكرة الحفاظ» (2/709-710) :« وللساجيّ مصنَّف جليل في علل الحديث يدلُّ على تبحُّره وحفظه».
فالساجيّ إمام نقّاد له نظره ورأيه واجتهاده ، فكيف يصحّ حشرُه في زمرة المتساهلين؟!
وأما قوله (ص21): «ولم يعتمده البخاري في «صحيحه»، وإنما أخرج له حديثاً واحداً متابعة، ولم يعتمده - أيضاً- مسلم في «صحيحه» وإنما أخرج له في المتابعات والشواهد».
أقول : هذا مما لم يقله أحد قبله، وهو خلاف ما عليه الحفاظ الذين ترجموا للرجل؛ كالمزي والذهبي والعسقلاني وغيرهم؛ حيث أطلقوا العزو للبخاري ومسلم ولم يقولوا:« في المتابعات ولا الشواهد» ، وهذا من دقَّتهم -رحمهم الله- التي يغفل عنها المذكور أو يتغافل عنها؛ لأنه لم يثق بعلمهم! بل صرَّح بذلك المزي؛ فقال في آخر ترجمته من «تهذيب الكمال» (30/181): «روى له البخاري ومسلم والنسائي» ، وكذا قال الذهبي والحافظ ابن حجر .
وارجع إلى الأرقام التي أشار إليها (الهدّام) ودقِّق النظر في ألفاظها ؛ فستجد الفرق بين هذه الروايات ، وتعرف أنه يوجد زيادات في رواية هشام بن حجير ليست عند من تابعه، ومع ذلك احتجَّ بها الشيخان؛ فتأمل!
وجملة القول: إن الحديث حسن لذاته -رغم أنف هذا (الهدّام)- كما تقدم تفصيله وتأصيله على الوجه التمام-.
ومما ينبغي التنبيه له: أن هذا (الهدّام) كتم تصحيح الحاكم والذهبي للحديث، وكذا الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ، واحتجاج ابن عبد البر بهذا الأثر؛ لتنكشف لنا فضيحة من فضائح هذا (الغمر المتطاول) الكثيرة، وأنه لا يقيم وزناً لتصحيح أهل العلم الكبار للأحاديث والآثار.
كما أنبه أن شيخ هذا الغمر- شعيب الأرنؤوط([25])- سكت عن تصحيح الحاكم والذهبي لهذا الأثر السلفي في تحقيقه لـ«مشكل الآثار» (2/318) ؛فهو على أقل أحواله مقرّ لهما في ذلك.
فشعيب شيخه عند الموافقة! وأما عند المخالفة؛ فلا هو ولا أحد من الأئمة والحفاظ المعروفين!!! ولسان حاله يقول عن شخصه وعلمه: (لا هو إلا هو) ! نعوذ بالله من العجب والغرور([26])
قلت: ولم يتفردَّ هشام بن حجير به، بل تابعه عبد الله بن طاووس- وهو ثقة فاضل عابد- عن أبيه به بلفظ:« هي كفره، وليس كمن كفر بالله واليوم الأخر».
أخرجه الثوري في «تفسيره» (101/241) ومن طريقه الطحاوي في «مشكل الآثار» (2/317).
قلت: وهذا سند صحيح؛ رجاله ثقات رجال الشيخين وهو على شرطهما.
وأعلَّه محقق كتاب «سنن سعيد بن منصور» سعد بن عبد الله آل حميد في (4/1484) بالانقطاع بين الثوري وابن طاووس .
وهو وهم محض ؛ فإن الثوري سمع من عبد الله بن طاووس، وروايته عنه في «صحيح مسلم»؛ فكيف نقول : إنه لم يسمع منه؟!
وإنما وقع في هذا الوهم؛ لأن الثوري رواه مَرّةً عن معمر عن ابن طاووس به، فهل هذا إشكال؟!
فأقول: رواه عن ابن طاووس مرة مباشرة؛ ومرة بواسطة معمر، فتكون هذه الرواية من المزيد في متصل الأسانيد؛ كما لا يخفى على المشتغلين في هذا العلم.
وهذه الرواية مما لم يوردها (الهدّام) -ألبتة-، ولكنه أخفاها وكتمها عن قرائه، أهكذا تكون الأمانة العلمية أيها (الغمر المتعالم)؟!
ولو تأملت أيها القارىء في سرِّ حذف (الهدّام) لهذه الرواية؛ فإنك ستندهش جداً؛ فإن هذه الرواية هدمت رسالته، ونقضت غزله؛ فهو لم -ولن- يجد جواباً للردّ على صحتها؛ فأخفاها عن قرائه ، من باب الهرب نصف الشجاعة.
وأخرجه الإمام أحمد في «الإيمان» (4/158-159/1414)، ومحمد بن نصر المروزي في«تعظيم قدر الصلاة» (2/521/571و522/572)، والفريابي في «تفسيره» ؛ كما في «الدر المنثور» (3/87)، ومن طريقه الطحاوي (2/317-318) ، والطبري في «جامع البيان» (6/166) ، وابن بطة في «الإبانة» (2/734/1005) عن وكيع وأبي أسامة كلاهما عن الثوري عن معمر بن راشد عن عبد الله بن طاووس به بلفظ :«هي به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله».
قلت : وهذا سند صحيح.
وصححه شيخنا العلامة الإمام أسد السنة الهمام أبو عبد الرحمن الألباني - رحمه الله- في تعليقه على كتاب «الإيمان» لشيخ الإسلام ابن تيمية(ص307).
وأخرجه أحمد في «الإيمان » (4/160/1420)، وابن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/521/570)، والطبري في «جامع البيان» (6/166)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» ( 4 /1143 /6435 )، و القاضي وكيع في «أخبار القضاة» (1/41) وابن بطة في «الإبانة» (2/736/1009) جميعهم عن عبد الرزاق وهذا في «تفسيره» (1/1/191): أنا معمر عن عبد الله بن طاووس به بلفظ: «هي كفر» ، قال ابن طاووس : «وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله».
ونقل الإمام الهمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله- في « حكم تارك الصلاة» (ص74) أن لفظ أثر ابن عباس هذا من رواية عبد الرزاق هو: « هو بهم كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله »، وفي رواية: «كفر لا ينقل عن الملة».
أما ذاك (الهدّام) ؛ فلم يرق لهواه أن يصحح طريق الثوري؛ فقد ضعفها بعلل أوهى من بيت العنكبوت، تدل على افترائه وكذبه على الرواة الذين هم أنبل وأطهر من أن يتكلم فيهم واحد مثل هذا(الفسل)!!
قال- عامله الله بما يستحق-(ص22): «وظاهر إسناد حديث الثوري جيد!!؛ فإنهم كلُّهم ثقات!! لكن ظهرت فيه علّة معمر بن راشد الصنعاني!! فقد أخطأ في الرواية!! ومعلوم أنه يخطىء ويهم ويضطرب في حديثه إذا حدَّث به خارج اليمن ؛ لأنه ما كان يصطحب كتبه! فيقع في حديثه الوهم والخطأ... إلخ».
قلت: هذا الكلام مع ركاكته وضعف إنشائه وصياغته؛ فإن حكايته تغني عن ردّه؛ فهو كلام يدل على أن قائله لا يفهم الحديث إطلاقاً، ولا يعرف علله أبداً، وحق له ذلك؛ فهو المتخصص لهدم السنة، فالغريق يتشبث ولو بِقَشّة؛ كما يقال.
وقبل الردِّ عليه لا بدَّ من إشارة؛ وهي: أنه لا يُعرف لهذا الرجل نظير في تضعيف الأحاديث النبوية والآثار السلفية، وهو وحيد دهره في اختلاق العلل والأوهام- زعم- لرواة الحديث، مما يدّل أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن وراء رسالته فتنة يسعى لنشرها ، فاللهم اطفىء نارها.
فإنه من المعروف عند أهل العلم بعامة، وأهل الحديث بخاصة: أن وهم راو ما، في حديث ما، لا يستلزم وهمه في جميع ما يرويه، ولو اتبعنا هذا الأسلوب- الخبيث- فإننا نكون بصنيعنا هذا قد حملنا معاول الهدم، ورفعناها في وجه السنة النبوية ، ونكون قد هدمنا أكثرها- عياذاً بالله من ذلك- فهذا الهدام (الجاهل) لما ضاق ذرعاً في تصحيح هذه الطريق؛ لسلامتها من جميع العلل، وثقة رجالها، وتصحيح أهل العلم لها؛ اختلق علَّة غريبة عجيبة؛ يشم منها أن هذا الرجل على أقلّ أحواله إن لم يكن دخيلاً على الإسلام والمسلمين؛ فهو عدو من أعداء السنة، خبيث يريد أن يبطل الأثر ؛ لينشر فكره وفكر شيخه المفتون به الذي قدَّم له- وهو الفكر التكفيري- وهو أخبث الأفكار التي دخلت على هذا الدين، ولعل هذا من علامات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أن الخوارج سيستمرون، وأن فكرهم سيبقى موجوداً حتى يخرج في أعراضهم الدجال.
ماذا صنع هذا (الهدام) ؟ ضعف هذه الطريق بمعمر بن راشد الإمام الحافظ الثقة؛ فإنه لما علم أن معمراً إمام ثقة ثبت، لم يجد مناصاً منها؛ فاختلق علَّة -والله- هي -والله- من عند نفسه ، أو ممن يموِّله ويعطيه دراهم لأجل كتابة مثل هذا الكلام؛ فقال: «فيه علّة؛ معمر بن راشد الصنعاني؛ فقد أخطأ في الرواية، ومعلوم أنه يخطىء ويهم ويضطرب في حديثه إذا حدّث به خارج اليمن...إلخ».
أقول: أين الدليل أن معمراً أخطأ في هذه الرواية؟ وأين الدليل أن الإمام الثوري- وهو من أوثق أهل الدنيا- سمع منه هذا الحديث في غير اليمن- على حدّ زعمه الكاذب- أو أنه سمع منه في بلد آخر؟ وأين الدليل أن ما يرويه معمر في غير اليمن ليس بمقبول وهو مردود بإطلاقه؟
كلّها أسئلة علمية مطروحة ، تُلزمه أن يجيب عليها... هذا شيء، وشيء آخر، فرواية سفيان الثوري عن معمر مشهورة في كتب السنة، وإليك بعض مواطنها:
«صحيح البخاري» (4749و5944و7083).
«صحيح مسلم» (977و979و1628).
«سنن الترمذي» (140و858و1346و1444).
«سنن النسائي» (5381).
«سنن أبي داود» (1576).
«سنن ابن ماجه» (3797).
«المسند» للإمام أحمد (1/220و3/185و6/38و40و387).