عنوان المحاضرة : ما هي عوامل الخروج عن الغفلة
- من المسائل المهمة المشغلة لبال علمائنا ومحققينا ، هي مسألة الخروج من عالم الغفلة إلى عالم الذكر المتواصل أو الغالب على أقل التقادير، وإن من أهم أهداف المربي الصالح ، هو الأخذ بيد العباد إلى هذه الدرجة.
- من المعلوم أن كل ما في هذا الوجود من مخلوقات يسبح بحمد الله عزوجل ، كما يشير إليه قوله تعالى : {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ، بما فيها ذرات بدن الإنسان ، قال تعالى : {وهو معكم أينما كنتم} ، إلا أن هذه المعية لا يؤجر عليها الإنسان ، لأنها ارتباط قهري تكويني بين الخالق والمخلوق ، إذ أن الكمال والفخر إنما يكون في المعية الاختيارية التي كانت مع الأنبياء والأوصياء والمتقين.
- إن من بواعث اليقظة والانتباه هي الجلسات التأملية مع النفس ، وإثارة حالة من الغيرة ، فالروح هي أشرف أنواع الوجود ، لطيفة ربانية ، بها استحق آدم سجود الملائكة ، فلماذا هذا البدن الفاني في كل آن من آنات الحياة يسبح وهي لا ؟!.. إنه من المؤسف فعلاً أن يترك الإنسان الظلوم الجهول السباق ، فبينما جسمه مسبحاً ، هو يعيش حالة من الغفلة المطبقة !.. ومن الطريف في هذا المجال أنه رأى أحد أئمتنا (ع) رجلاً يغني على دابته ، فأبدى انزجاره وآذاه قائلاً : (أما يستحي أحدكم، أن يغني على دابته وهي تسبح) !.. أي أن الدابة تسبح ، وأنت الإنسان العاقل تغني على ظهرها !.. وهذا معنى أن يتحول الإنسان إلى موجود أضل من الدابة : {أولئك كالأنعام بل هم أضل}.
- إن من موجبات رفع الغفلة : زيارة القبور.. لا لأخذ الأجر والترحم على الموتى فحسب ، بل لتفقد البيت الذي سيصير إليه ، تاركاً وراءه كل أنواع المتاع الزائل.
- من المعلوم أن طبيعة الأكثرية هي غير عاقلة ، لذا ترى كثيراً ما يصرح القرآن الكريم بذمهم : {وإن تُطعْ أكثر مَن في الأرض يُضلّوكَ عن سبيل الله} ، {أكثَرُهُم لا يعلمون} ، {أكثَرُهُم لا يعقلون}.. ولكن مع الأسف الشديد ما يرى هذه الأيام أن العقل الجماعي يسوق الأفراد والأمم ، والحال أنه ينبغي للمرء عدم تجميد الفكر والإتباع الأعمى ، غافلاً عن القيم والمبادئ الذي جاء بها الشرع.. وقد ورد عن إمام الهدى علي (ع) قوله : (لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه).. وها هو أبو عبد الله (ع) يقول لرجل من أصحابه : (لا تكون إمّعة ، تقول : أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس).. وخير شاهد على ذلك هو ما حدث في يوم الجمعة للرسول الأعظم (ص) ، وهو الشفيق بهم الحريص عليهم ، ومع ما له من الشأن الرفيع والفضل الكبير على الأمة ، وإذا بالقوم يتركونه قائماً ويلهثون وراء ملح وما شابه ذلك ، فنزلت هذه الآية تستنكر عليهم هذا الفعل القبيح : {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما...} إذن، ينبغي تحكيم العقل والشرع ، إذ أن القبح قبحٌ ولو فعله كثيرون ، وإن الحسن حسنٌ وإن قل فاعلوه.
- إن من الضروري أن نلفت أنه ينبغي الموازنة في معاشرة الآخرين ، فلا مقاطعة محضة ولا اختلاط اندماجي تأثري ، وهذا ما تدعو إليه هذه الآية الكريمة : {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} : فمع أن الوالدين كافرين ، ويحاولان إجبار الولد على الكفر ، إلا أنه الأمر الإلهي هو : {وصاحبهما في الدنيا معروفا}.. فيا له من موقف !.. ويا لها كلمة جامعة تحمل كل معاني البر والمعروف !.
- إن العيش في أجواء الغافلين أو الفاسقين ، لمن موجبات التسافل والتشبه بهم ، قال تعالى : {ولا تقعد بعد الذكرى مع القوم الغافلين} ، ولكن الإنسان بطبيعته مدنياً ، إلف مألوف ، فلا خير فيمن لا يأنس ولا يؤنس.. إذن، ما هو الحل ؟..
* أن يختار البطانة الصالحة : فإن أعز ما يكون في آخر الزمان : درهم حلال ، وأخ يوثق به.. ينبغي أن يختار من يذكره بالله عزوجل رؤيته ، ويزيده في العلم منطقه.
* أن يحاول أن يكون موجوداً مؤثراً لا متأثراً : المؤمن ينبغي عليه أن يكون على مستوى إدارة المجالس ، وعلى استيعاب هذه الأجواء الغافلة.. فبدلاً أن تكون منفعلاً تعطيهم أذنك ، خذ آذانهم وغير مجرى الحديث بإلقاء الموعظة والحكمة الحسنة.
* أن يعيش في الناس ولا يعيش معهم : فالمؤمن له عالمه الذهني الخاص ، له ما يشغله ، إن كانت حكمة أو راوية أو تدبراً.. فإن الصمت من صفات المؤمن.. وهناك عالم التحليق الباطني، فالمؤمن إذا جلس وحده يعيش عالماً منشرحاً لذيذاً ، يظن القوم أنه من الغافلين ، والحال في أنه يعيش حالة من الحديث مع الرب.. وقد ورد عن علي (ع) : ( وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة ...).