شهوات علمية
لكاتبه عبد الله الخليفي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
فليس هذا المقال علمياً ، وإنما هو مصارحةٌ أخويةٌ وهموم ٌ أبثها أرجو أن تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية
فأقول وبالله التوفيق
إن مما تقر به عين السني الغيور وجود هذه الثلة الطيبة من طلبة العلم السلفيين في كافة أنحاء البلدان الإسلامية وغير الإسلامية !
غير أن الناظر المدقق يرى سحاباً مفزعاً قد تلبد في الأفق ، نرجو ألا يكون نذير عذابٍ قد اقترب !
ولعلك ستقول : ما الداعي لهذه النظرة المتشائمة ؟
فأقول : أعاذنا الله عز وجل من الطيرة والتطير فإنه شرك ! ، غير أننا لا نعيش في الجبال بل نعيش بين إخواننا الذين نحب ونرجو لهم الخير ، وقلب المحب يخشى على محبوبه وربما كان أبصر بما يؤذيه منه
وقد علمتنا الفتن _ أعاذنا الله من شرها _ ألا نتهاون في ردع أي شرٍ رأينا بوادره هنا أو هناك وإن استصغرناه فإن معظم النار من مستصغر الشرر
فلا بد من الحزم في مواجهة هذه الأخطار التي تهدد دعوتنا من الداخل
فإن قلت : وما هي ؟
قلت لك : الشهوات العلمية المذهبة لبركة العلم ، وأعني بها المداخل الشيطانية التي لا يدخل بها إلا على طلبة العلم فيفسدهم ، وفي إفسادهم شرٌ عظيم
وكيف لا ؟! ، وهم ملح البلد ومن يصلح الملحَ إذا الملحُ فسد
فإن قلت : أعطنا أمثلةً على ما تزعم
قلت لك : هي كثيرة هي أنني سأكتفي بذكر أمثلةٍ يتضح بها المقال ونرتجي من الحاذق أن يجعلها أصلاً مقيساً عليه ولا يكون ظاهرياً جلداً !!
الشهوة الأولى : شهوة التكثر
ولهذه الشهوة صورٌ كثير
فمن ذلك التكثر بالكتب
ومنه التكثر بالمقالات
ومنه التكثر بالتلاميذ
وهذه الشهوة لما تمكنت من قلوب بعضهم أصابتهم بحالٍ من الثمالة ، جعلتهم يسلكون مسالك لم يفكر بها بعض أكابر فسقة الكتاب
فهذا يضع عنده فريقاً يعد له الأبحاث ويحقق له المخطوطات وهو يراجع مراجعةً يسيرةً ثم يضع اسمه على الكتاب
فتتفاجأ بنتاجٍ علمي ضخم في وقتٍ قصيرٍ ، قد لا أكون مبالغاً لو قلت أن شيخ الإسلام ابن تيمية لو بعث من قبره لما استطاع أن ينتج مثل هذا النتاج
وقد بلغت العجلة في بعضهم أن يشترط على من جاء عنده أن يقرأ مجلداً يومياً ويستخرج فوائده ثم يزوده بها ليستعين بها على أبحاثه التي لا يعد كثيراً منها ! ، بل البركة في الشباب
ويا ليت شعري أين هذا مما يتعلمه صغار الطلبة من قول أهل العلم :" من رام العلم جملة ذهب عنه " ؟
وقول القائل
اليوم علمٌ وغداً مثله *** من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمةً *** إنما السيل اجتماع النقط
بل أين هو _ من البداية _ من قول النبي صلى الله عليه وسلم :" المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " ؟
وإعانة مثل هذا الصنف بإعداد الأبحاث له لا تجوز وهي جرحةٌ في العدالة فقد قال الله عز وجل :" ولا تعانوا على الإثم والعدوان "
ولن ينفعك _ أخي _ ذلك السحت الذي يملأ ذلك المزور به فيك فإنك بذلك تشتري الدنيا بالآخرة ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه وقد قال الله عز وجل :" ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب "
ولا تخف من كيد الكائدين فقد قال الله عز وجل :" وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً "
وقد نقل الإمام عبد الجليل القصري في آخر كتابه شعب الإيمان عن سحنون قوله :" لئن آكل بالدف والمزمار أحب إلي من أن آكل بالعلم "
وأما التكثر بالمقالات فهذا مصيبته مصيبة ، وقد كثر على الشابكة ، ومن أمكر ما قد رأيت من هذه السرقات ما يفعله بعضهم حيث يعمد إلى بعض رسائل الدكتوراة المحررة غير المنتشرة على الشبكة ويسرق منها ما طاب له ثم يوهم الناس أن الباحث المحقق !!
فقد رأيت مرةً مقالاً لأحد الإخوة في بيان تأثير أحد الفرق الهالكة على بعض علوم الآلة ، وقد تعجبت ابتداءً من تنبهه لمثل هذا الموضوع وازداد عجبي لما قرأت المقال كاملاً إذ أنه كان من المتانة بمكان حتى أنني لم أفهم بعض ما كتب !! ، وأنا أعرف الأخ ومستواه العلمي ولكني قلت في نفسي :" لعله يجيد هذا العلم أكثر من غيره " ، ثم تذكرت أنني اطلعت قبل سنوات على رسالة ( دكتوراتية ) في نفس الموضوع وأن صاحبنا قد أخذ من تلك الرسالة أو ممن أخذ منها !!
وبعض الإخوة يلبس عليه الشيطان بهذه الحيلة فيقول له :" هذا البحث لشخصٍ لا تعرف منهجه أو هو منحرف لا ينبغي أن تذكر اسمه وينبغي عليك نشر العلم !! "
فأقول جواباً على هذا التلبيس : إذا كنت لا تريد ذكر اسمه فلا أقل من أن تشير إلى أنك استفدت هذا البحث من غيرك _ ولو لم تذكر اسمه _ لكي لا توهم الناس أنه من كد يمينك !!
الشهوة الثانية : شهوة الجدل
قد قال الله عز وجل :" وجادلهم بالتي هي أحسن " فأصل الجدل مشروعٌ في الإسلام بشروطه واعلم أن الجدل الذي نذمه هو ما احتف به ما أوجب الذم
ومن هذه الأمور التي إذا احتفت بالجدل أوجبت ذمه
حب الظهور على الخصم بأية وسيلة ومحاولة تكريس كل ما عندك من العلم لتبرير قولك سواءً كان ذلك متسقاً مع القواعد العلمية أو غير متسق
ومثل هذا الأمر ينشأ من ضعف الديانة وقلة فهم حقيقة الأمر ، فالكلام في الشرع توقيعٌ عن رب العالمين وحكاية لمراد الله عز وجل فاتقوا الله واستعيذوا به من غضبه فإنني لا آمن أن تجلب هذه الأمور الغضب والسخط
وقد قال الله عز وجل :" ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً "
وقال تعالى :" قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون "
وقد نقل الذهبي في تاريخ الإسلام عن الشافعي قوله :" ما ناظرت أحداً وتمنيت أن يخطيء "
ومن الأمور التي إذا احتفت بالمناظرات العلمية أفسدتها :" قفز المتعالم " ، وهو ما يفعله بعض الشباب من مناظرة من هو أكثر منهم علماً ، والواقع أنه يجب عليهم الإستفتاء لا المناظرة ولو كان هذا الأعلم سنه قريبٌ من سنك ، بل الذي يجب عليك أن تتعلم منه فلربما كانت هذه المسألة التي قرأت فيها قليلاً وجئت ( تقفز ) عليه بها قد بحثها هو قبل أن تسمع بها بسنوات طوال
غير أن لهذا استثناءات ففي بعض الأحايين يغلب على ظنك وهم الذي أمامك أو أنك تعرف من حاله أنه ليس محققاً في بابٍ من أبواب العلم ، فهنا لا بأس من المعارضة والمناظرة العلمية المؤدبة التي يكون فيها حفظ المقامات والإبتعاد عن شحن الصدور واختبار صبر الإخوة
وإن مما يدلك على أن هذا النوع من المناظرات لا خير فيه وليس من الإسلام في شيء أنه ينافي مقاصد الشريعة في التأليف بين قلوب المسلمين
قال تعالى : " إنما المؤمنون إخوة "
وقال تعالى :" وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم "
فجعلها نعمةً امتن بها سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد جاءت تشريعات عديدة في توكيد هذا المقصد من تحريمٍ للغيبة والنميمة والتجسس وغيرها من التشريعات
ولا يتخلف هذا الأمر إلا في حال كون المسلم مبتدعاً ففي هذه الحال تقدم مصلحة الحفاظ على الدين على المصلحة الخاصة
علماً بأن الرد على أهل البدع من النصح والنصح من أسمى معاني الإخوة الإسلامية
وهنا تنبيه يسير وهو أن المسلم أخو المسلم كما جاء في الحديث فلا اختصاص للشاب السلفي بلفظ الإخوة فتجد بعض السلفيين يقولون :" فلان من الإخوة " أي أنه سلفي ولا يطلقون هذا اللفظ على العوام المسلمين
وهذا من آثار الجماعات التكفيرية الغالية التي تعتبر نفسها جماعة المسلمين فمن كان معهم فهو ( أخ ) ومن لم يكن معهم فليس ب ( أخ )
والذي ينبغبي عدم تخصيص المتنسكين أو السلفيين بلفظ ( الأخ ) بل هي تقال في كل مسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( المسلم أخو المسلم )
وعوداً على موضوعنا الأصل أقول : أن هذا النوع من ( الجدل ) يحقق مقصد الشيطان في إحداث العداوة والبغضاء بين الإخوة
قال الله تعالى :" إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر "
فأخبر أن مقاصده إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ويأخذ حكم الخمر والميسر كل ما أوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين
وهذا النوع من الجدل يذهب هيبة العلم إذ أن الله عز وجل أنزل وحيه هدى ونوراً لا سبيلاً للمغالبة وإظهار النفس على الإخوة
ومن أسوأ الظواهر نشاهدها اليوم ، ظاهرة مناظرات غرف البالتوك حيث نجد بعض إخواننا الذي أشرب قلوبهم حب الجدل يخاطرون بدينهم ويناظرون هذا ويطارحون ذاك
فتارة يناظر خارجياً
وأخرى ينظر رافضياً
وأخرى يناظر نصرانياً
وربما ناظر بعض أصحاب المذاهب المندثرة التي لا يعرفها العوام الذين يدخلون تلك الغرف
قال اللالكائي في السنة (1/15) :" ثم أنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام وظهرت هذه البدع من قديم الأيام وفشت في خاصة الناس والعوام واشربت قلوبهم حبها حتى خاصموا فيها بزعمهم تدينا او تحرجا من الآثام لم تر دعوتهم انتشرت في عشرة من منابر الإسلام متوالية ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة بل كانت داحضة وضيعة مهجورة وكلمة أهل السنة ظاهرة ومذاهبهم كالشمس نايرة ونصب الحق زاهرة وأعلامها بالنصر مشهورة وأعداؤها بالقمع مقهورة ينطق بمفاخرها على أعواد المنابر وتدون مناقبها في الكتب والدفاتر وتستفتح بها الخطب وتختم ويفصل بها بين الحق والباطل ويحكم وتعقد عليها المجالس وتبرم وتظهر على الكراسي وتدرس وتعلم ومقالة أهل البدع لم تظهر إلا بسلطان قاهر أو بشيطان معاند فاجر يضل الناس خفيا ببدعته أو يقهر ذاك بسيفه وسوطه أو يستميل قلبه بماله ليضله عن سبيل الله حمية لبدعته وذبا عن ضلالته ليرد المسلمين على أعقابهم ويفنهم عن أديانهم بعد أن استجابوا لله وللرسول طوعا وكرها "
قلت : تأمل ما تحته خط وكيف أن هذا الإمام ينصص على أنه من أسباب ظهور أهل البدع بروز من برز لمناظرتهم وقد كانت مذاهبهم داحضة لا يعرفها العوام فعرفها من عرفها بسبب تهور المتهورين وفتن منهم من فتن والله المستعان
وبعضهم ترك العلم ولم يعز عليه من العلم إلا هذا الجدل!! والله المستعان
والخلاصة أننا ينبغي أن نتعلم للعمل لا للجدل ، ونصح أهل الأهواء ممكنٌ بطرقٍ شتى وأما مناظرة المجاهيل المستترين تحت الأسماء المضحكة فلا يخفى ضررها على من أنار الله بصيرته
وقد كنت أرجو أن أكتب المزيد في هذا الموضوع غير أنني لا أجد الحماس الكافي فأخشى أن ينعقد لساني ولا أحسن التعبير فأترك المجال للإخوة لعلهم يفيدوننا بالمزيد حول هذا الموضوع ولعلي أعود فأكتب شيئاً فيكون موضوعاً متجدداً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم