الانتساب لأهل السنة وتقليل النزاع
مسألة الانتساب لأهل السنة والجماعة كسائر المسائل التي تجاذبها إفراط وتفريط، فهناك من حجّر واسعاً، وحصر أهل السنة في اتباعه، وقصرهم على أصحابه، كما قال ابن تيمية: "كثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين؛ فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى".
ومما يقلل الاختلاف الجاثم بين طوائف من المتسنّنة: التذكير بضرورة الاجتماع والائتلاف، والنهي عن الفرقة والاختلاف، وأن ذلك لا يتحقق إلا بلزوم السنة ظاهراً وباطناً، والاعتصام بنصوص الوحيين، فسبب الاجتماع والألفة: العمل بالدين كله، وسبب الفرقة: ترك حظّ مما أُمر العبدُ به، ومتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، كما قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}. كل من كان عن السنة أبعد، كان التنازع والاختلاف في مقولاتهم أعظم.
فلن تجد اتفاقاً واجتماعاً إلا بأخذ الدين كله، والدخول في السلم كافة، عكس ما يتوهمه بعضهم من أن الاجتماع لا يحصل إلا بالتخلّي عما يجب التمسّك به، والتنازل عما يتعيّن الاعتصام به من أصول وقواعد لأجل مجاملات وتراجعات، أو مصالح موهومة.
«إن الاختلاف من لوازم النشأة الإنسانية، فالشهوات والشبهات لازمة للنوع الإنساني، كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً}
فلا بد من مدافعة الشبهات بالعلم واليقين، ولا بد من معالجة الشهوات بالصبر والترويض، فغالب الاختلاف الواقع بين الأمة هو جحد للحق الذي مع المخالف.. وهذا أقرب للشهوات والغي منه إلى الشبهات والجهل.
يقول ابن تيمية في هذا الشأن: "واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجد من هذا الضرب، و هو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيباً فيما يثبته أو في بعضه، مخطئاً في نفي ما عليه الآخر.. فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب..".
ومما يحقق الاجتماع، ويقلّص دائرة الفرقة والنزاع؛ أن يحرر ويظهر ضابط المفارقة لأهل السنة والجماعة، سواء في المسائل أو الدلائل، ومتى يحكم على الفرقة أو الطائفة بأنها خارج أهل السنة.
لقد سام المعتصمُ الإمامَ أحمدَ أصناف العذاب من جلد وسجن، لكن الإمام أحمد كان يقول: "كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - المعتصم - في حلّ.. - إلى أن قال - ما ينفعك أن يعذّب الله أخاك المسلم في سبيلك".
وأمر مهمّ يسهم في تقليص الخلاف، وهو مراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأوّل ونحوهما، فليس كل من زلّ فقارف بدعةً يكون مبتدعاً، وكذا مراعاة اختلاف الأحوال والبلدان، كما حرره ابن تيمية بقوله: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم".
وقال - في مراعاة أحوال الأماكن والبلدان -: "فإنهم [الكلابية والأشاعرة] أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة، والحديث عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة".