سورية آخر قلاع المقاومة ورفض الهيمنة الأمريكية .
يفترض أن الخلاصة الإستراتيجية التي توصّل إليها هنري كيسنجر خلال انشغاله الاستثنائي بـ(أزمة الشرق الوسط)، وخصوصاً في سبعينيات القرن العشرين، التي يحددها كما يلي: (يعلّمنا التاريخ أن أي حرب في الشرق الأوسط ستؤدي إلى أزمة عالمية)، يفترض أن تحافظ هذه الخلاصة على مكانتها الكلاسيكية في المدرجات الأكاديمية والمراكز البحثية فضلاً عن أروقة السياسة وعالمها الواقعي وتطبيقاتها الميدانية.
وإذا كان الجنرال الإسرائيلي ايال ايزنبرغ المسؤول عن الدفاع المدني يحذّر من إمكانية نشوب حرب إقليمية نتيجة الأزمات التي تعصف بالشرق الأوسط، والتي في جانب منها ناتجة مما يسمى (الربيع العربي) فضلاً عن الملف الإيراني والطموحات التركية، فإن هذا التحذير يندرج في سياق الفرضية المبنية على أن الأزمات الإقليمية ستقود إلى حروب إقليمية حتماً!
نظرياً، لا يعتبر هذا الاستنتاج خروجاً كبيراً أو مخالفة صريحة لخلاصة كيسنجر، بل عودة إلى إحدى التبسيطات التاريخية الراسخة في أن أزمة لا تجد لها حلاً في عالم السياسة لا بدّ ستفضي إلى حرب. وفي الحالات كلّها لا يزال هذا التبسيط مسيطراً على منطق وفلسفة أي أزمة تكون إسرائيل طرفاً فيها.
منذ نشوء الأزمة السوريّة الراهنة، منذ أقل من ستة أشهر بقليل، بدا (العامل الخارجي) واضحاً ومن عيار ثقيل في حضوره في خريطة هذه الأزمة، وفي الظنّ من أن دوره سيكون حاسماً في تحديد مصيرها. وفي الوقت الذي استطاع فيه هذا (العامل الخارجي) الحضور في أقصى أداء له (التدخل العسكري - ليبيا مثالاً)، فإن الأزمة السورية أعادت صياغة أداء هذا (العامل) على نحوٍ آخر منتجة مناخاً عالمياً أقرب في مواصفاته إلى مناخ الحرب الباردة والعالم الثنائي القطبية.
يجب الانتباه، هنا، أن كيسنجر وضع خلاصته عندما كان التاريخ محكوماً بالنظام الثنائي، وكانت الحرب الباردة مناخه الأكثر تمييزاً له، ما يستدعي استطراداً التساؤل إذا ما كانت الأزمة السورية الراهنة ستكون العامل المباشر في إعادة ترتيب النظام العالمي وفق أسس مختلفة عن تلك التي استند إليها في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وذلك على النحو الذي يقرّبه من فلسفة وآليات النظام الثنائي القطبي ويبعده عن، أو على الأقلّ، يخفف من طغيان النظام الأحادي القطب.
إلى هذه اللحظة، تبدو الأزمة السورية، المسألة الأكثر وضوحاً، والمناسبة السياسية التي شهدت مواقف تذكّر بالنظام العالمي الثنائي القطب، فلم يسبق خلال العقدين الماضيين أن قررت الولايات المتحدة، مع أوروبا إصدار قرار من مجلس الأمن، وإن كان مبنياً على حيثيات ملفّقة وزائفة ومعروف أنها كاذبة (العراق مثالاً) وأحد من أعضاء المجلس منعها أو وقفت ضدها؟
إلى الآن، روسيا والصين تفعلان ذلك إزاء المسألة السورية، التي فتحت الباب نحو إمكانية ترتيب النظام العالمي مجدداً، والتي تكاد تفضي إلى ما يشبه الحرب الباردة.. وربما حرب أكثر دفئاً، ما يعني أن الخلاصة الإستراتيجية لكيسنجر ستصبح مقلوبة رأساً على عقب حيث (الأزمة) هي ما ستؤدي إلى حرب.. وإن بدأت باردة!