عندما ظهر الرئيس حسني مبارك في غرفة عمليات القوات المسلحة المصرية امس، لم يكن يشبه مومياء فرعونية قديمة، ولا كان يتمثل بأي من رموز مصر على امتداد تاريخها الطويل. بدا غريبا بعض الشيء على الشخصية المصرية، الحاكمة او المحكومة. كان اقرب الى رجل لا ينتمي الى وادي النيل ولا الى اي من سكانه. اعاد ظهوره الى الاذهان صورة نيرون وهو يحرق روما ويراقب ألسنة اللهب. كان طاغية بكل ما للكلمة من معنى، لم تعرفه مصر يوما ، بل عرفته ولا تزال تعرفه دول متعددة في العالمين العربي والاسلامي، وفي العالم الثالث كله. #
وعندما أصر الشعب المصري بعد مشاهدة مبارك على التلفزيون، على المضي قدما في التظاهر والاحتجاج، والمطالبة بعزله من منصبه، فإنه كان ايضا يخالف تاريخه: هي المرة الاولى في خلال اكثر من اربعة آلاف سنة من عمر الدولة المصرية المركزية، التي يخرج فيها المصريون في ثورة شعبية حقيقية للاطاحة بالحاكم الذي لم يسقط يوما الا بالاغتيال الفردي او الموت الطبيعي الذي يدركه قبل ان يدركه حراسه الشخصيون او ضباط جيشه الغاضبون. هو افتراق عن التراث السياسي المصري، قد يجد تفسيره في الاحساس العام بانحطاط السلطة الى مستوى لم يسبق له مثيل.
لم يكن مبارك الذي ظهر في غرفة العمليات العسكرية الرجل نفسه الذي كان يمكن حتى الامس ان يكتب عنه التاريخ انه الاقل عنفا من بين جميع حكام وادي النيل. كان سجله نظيفا نسبيا، حتى مع اشد معارضيه، الذين كان يرميهم في السجن او في المنفى، بأعداد ادنى بكثير من سلفيه الجمهوريين ومن اسلافه الملوك والامراء والخلفاء، ثم يعفو عنهم بعد انتهاء المواسم الانتخابية او السياسية الحرجة. كان ينأى بنفسه عن الدم والنار، وكان ينسبها الى الضرورة القصوى والاجهزة الامنية الاقصى. كان ابسط واكثر سذاجة من ان يفكر في الثأر او الرد ، حتى على اعداء الوطن المصري وخصومه الخارجيين، الذين اخترقوه او تطاولوا عليه او مسوا كرامته في السنوات الثلاثين الماضية.
هي سابقة استثنائية في التاريخ المصري، ان يساهم الحاكم في صنع سلطة فارغة وفاسدة الى هذا الحد، واجتماع متوتر ومضطرب الى هذا الحد، وعشوائيات غاضبة وحاقدة الى هذا الحد... وان يقرر ببرودة اعصاب مخيفة ان يدعو الجميع الى الصدام في ما بينهم، كي يتفرج من قصره او من غرفة عملياته، على حريق القاهرة وخراب مصر بشكل لا يمكن ان يقبل به الا رجل خرف او مشبوه، لا يتمتع بأي حس من المسؤولية، ولا يقدّر عواقب مثل هذه الكارثة الكبرى على نفسه وعائلته وحرسه وجميع افراد حاشيته، الذين لن يجدوا بلدا يؤويهم او دولة يفرون اليها.
مثل هذا الخراب الرهيب الذي يسببه مبارك ويستمتع بمراقبته مع ضباطه المخلصين، كان متوقعا في جميع الدول التي يحكمها طغاة، الا مصر... التي لا تستدرج اليوم سوى الدموع.
*نقلاً عن "السفير" اللبنانية