المؤلف:
خالد حمودة
بسم الله الرَّحمن الرحيم
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه أمَّا بعد:
فإن ممَّا ينتشر جدًّا في هذه الأيَّام ـ وهو من المبشِّرات والأمور الحسنة ـ الأحاديث النَّبوية المرغِّبة في الصَّوم والخيرِ المتعلِّق به وبعضِ أعمال البرِّ المشروعة في رمضان، والمطلوبُ في ذلك كلِّه أمران:
الأوَّل: التثبُّت من صحَّة تلك الأحاديث، حتَّى لا يُنسب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يقُلْهُ.
والثَّاني: فهم تلك الأحاديث على وجهها، حتَّى لا يُنسب إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ما لم يرده، وليس نسبةُ معنى إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يقصده بكلامه بأخفَّ من نسبة لفظٍ لم يقُلْهُ إليه، ولهذا شدَّد العلماءُ في شرح الحديث والكلام على غريبه ومعانيه كتشديدهم في نقل الأخبار عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وممَّا ينتشر ويُفهم على غير وجهه ثلاثة أحاديث متعلِّقة بالصِّيام، يفهمها النَّاس على فهمٍ غير صحيح، وإن كان قال بذلك الفهم بعض أهل العلم، لكنَّ الرَّاجح أو الصَّحيح خلاف الفهم الشَّائع المنتشر، وسأجعل التَّنبيه على هذه الأحاديث في فصول ثلاثة:
الفصل الأوَّل
معنى تفطير الصائم
صحَّ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنَّه لا ينقص من أجر الصَّائم شيئا».
أخرجه أحمد (17033) والتِّرمذي (807) والنَّسائي (3316) وابن ماجه (1746) وابن حبَّان (3429) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، وقال التِّرمذي: «هذا حديث حسن صحيح»، وصحَّحه الشَّيخ الألباني رحمه الله.
وأكثر النَّاس يظنُّون أنَّ معناه: من فطر الصَّائم، أي: أعطاه ما يبتدئ به فيه الفطر، ولو حبَّة تمر أو شربة ماء، أو جرعةً من لبن، وقال بذلك طائفة من أهل العلم، قال ابن مفلحٍ في «الفروع» (5/37): «وظاهر كلامهم: من أيِّ شيء كان، كما هو ظاهر الخبر، وكذا رواه ابن خزيمة من حديث سلمان الفارسي، وذكر فيه ثوابًا عظيمًا إن أشبعه».
والحديث الَّذي أشار إليه ابن مفلح هو ما أخرجه ابن خزيمة (1887) من حديث سلمان رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ ذكر فضائل شهر رمضان ومنها: «من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النَّار، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء»، قالوا: «ليس كلُّنا نجد ما يفطِّر الصَّائم» فقال: «يُعطي الله هذا الثَّواب من فطَّر صائمًا على تمرة، أو شربة ماء»، وفي إسناده عليُّ بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وأشار إلى تضعيف الحديث ابن خزيمة بقوله مبوِّبًا عليه: «باب فضائل شهر رمضان إن صحَّ الخبر»، بل أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/554)، وانظر «الضَّعيفة» (1333).
والصَّحيح في تفسير الحديث أن التَّفطير معناه الإطعام، أن يتعشى الصَّائم عنده فيأكل كفايته، لا أن يأكل تمراتٍ أو شربة لبن فقط، وممَّن نصَّ على هذا شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله فإنَّه قال كما في «الفتاوى الكبرى» (5/377) بعد أن أورد الحديث: «والمراد بتفطيره أن يشبعه»، ونقله عنه أيضًا ابن مفلح في «الفروع» (5/37).
والَّذي يدلُّ على صحَّة هذا التَّفسير الَّذي ذكره الشَّيخ دون التَّفسير الأوَّل وجوه:
الأوَّل: أنَّه جاء تفسيره بذلك في الحديث نفسه في بعض طرقه، فقد أخرجه عبد الرَّزَّاق من طريقين (7905، 79.6) بلفظ: «من فطَّر صائمًا، أطعمه وسقاه كان له مثل أجره»، ففسَّر التَّفطير بالإطعام مع السُّقيا مجموعين، وهذا إنَّما يكون لو تعشَّى الصَّائم عنده.
الثَّاني: أنَّه ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يفيده، فقد أخرج عبد الرَّزَّاق أيضًا (7908) عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة أنَّه دعته امرأة ليفطر عندها ففعل، وقال: «إنِّي أخبرك أنَّه ليس من رجل يفطِرُ عند أهل بيتٍ إلَّا كان لهم مثل أجره»، فقالت: وددت أنك تتحيَّن ـ أو نحو ذلك لتفطر عندي ـ قال: «إنِّي أريد أن أجعله لأهل بيتي»، فقوله: «يفطر عند أهل بيتٍ» صريحٌ في أنَّ المراد أن يتعشَّى عندهم.
الثَّالث: أنَّه جاء اقترانه في الحديث مع تجهيز الغازي، جاء ذلك في رواية أحمد وابن خزيمة وابن حبَّان والنَّسائي في «الكبرى» بألفاظٍ متقاربة: «من جهَّز غازيًا في سبيل الله، أو خلفه في أهله كتب له مثل أجره، غير أنَّه لا ينقص من أجره شيء، ومن فطَّر صائمًا كتب له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء»، ومعلومٌ أن تجهيز الغازي لا يكون بإعطائه الرُّمح أو الدِّرع أو المركوب فقط، بل يكون جهازًا تامًّا بكلِّ ما يحتاجه مثلُه في الوجه الَّذي يقصده للجهاد في سبيل الله، فكذلك تفطير الصَّائم: يعينه على صومه بأن يشبعه فيقدِرَ على الصِّيام من غدٍ، ويتقوَّى من صوم يومه ذاك.
وفي اقتران الغازي والصَّائم لطيفةٌ ذكرها الصَّنعانيُّ رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» (10/330) وهي أنَّ كلًّا منها يجاهد جيشًا: الغازي يحارب جيش العدوِّ، والصَّائم يحارب جيش الشَّهوات.
الرَّابع: وهو وجهٌ لطيفٌ أشار إليه ابن بطَّال في «شرح البخاريِّ» (4/16) وهو أنَّ الله تعالى جعل للعاجز عن الصَّوم الفدية إطعام مسكين، قال سبحانه: «وعلى الَّذين يطيقونه فدية طعام مسكين»، فجعل إطعام مسكين بدلًا عن صومٍ يوم، فيكون من أطعم رجلًا يأخذ أجر صيام يوم.
فهذه الوجوه ـ وقد يوجد غيرها عند التَّأمُّل ـ تدلُّ على أنَّ المراد من تفطير الصَّائم إشباعه كما قال الشَّيخ تقيُّ الدين رحمه الله، لكن لا يعني هذا التَّزهيد في تفطير الصَّائم بالمعنى الآخر، فإنَّما كان ثواب التَّفطير كما ورد في الحديث لأنَّه إعانة على الخير، وإعطاءُ الصَّائم التَّمرة أو الشَّربَة الَّتي يبتدئ بها فطره إعانةٌ على الخير، فيُرجى له من الأجر بحسب إعانته، والمقصود من البحث في معنى التَّفطير أنَّه لا يُجزم لهذا الَّذي فطَّر صائمًا بالتَّمرة والتَّمرتين بذلك الثَّواب المخصوص الوارد في الحديث، والله أعلم.
الفصل الثَّاني
ثواب صيام يوم في سبيل الله
صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النَّار سبعين خريفًا».
وهو حديثٌ متَّفقٌ أخرجه البخاري ومسلم.
والخطأ في فهمه أنَّه يُظنُّ أنَّ معنى سبيل الله أي خالصًا لوجه الله تعالى، فيكون الحديث في صوم النَّفل مطلقًا، فمن صام يومًا واحدًا ابتغاء وجه الله كان له هذا الثَّواب.
والصَّواب أنَّ المقصود في سبيل الله أي في الجهاد، فالمجاهد في سبيل الله إذا جمع إلى الجهاد كونه صائمًا كان له هذا الثواب، فهو في اجتماع عبادتين في وقت واحد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يجمع العمل الصَّالح مع الصَّومِ، ويحبُّ أن يرفع عمله وهو صائم، فيكون صلَّى الله عليه وسلَّم صائمًا عند العمل وأثناء رفعِ العمل وهذا غاية ما يكون من تحرِّي أسباب القبول.
والَّذي يصحِّح أنَّ المراد الجهاد دون الإخلاص أنَّه قد اطَّرد استعمالُ هذا اللَّفظ: «في سبيل الله» مرادًا به الجهاد، كما في قوله تعالى في الصَّدقات: «والغارمين وفي سبيل الله وابن السَّبيل»، قال ابن الجوزي رحمه الله في «مشكل الصَّحيحين» (3/153): «إذا أُطلق ذكر سبيل الله كان المشار به إلى الجهاد».
ولذلك فإنَّ أئمَّة الحديث الَّذين رتَّبوا كتبهم على الأبواب يوردون الحديث في أثناء أبواب الجهاد والغزو وفضل الرِّباط، فعل ذلك:
1ـ البخاريُّ في «صحيحه».
2ـ والتِّرمذي في «سننه».
3ـ وابن خزيمة كذلك في الجهاد من «صحيحه»، كما أخبر في كتاب «التَّوحيد» (1/29) قال: «قد أمليت أخبار النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «من صام يوما في سبيل الله ابتغاء وجه الله باعد الله وجهه عن النَّار سبعين خريفًا،» بعضُه في كتاب الصِّيام، وبعضُه في كتاب الجهاد».
4ـ وأبو عوانة أيضًا في «صحيحه»، واستدلَّ به صحَّة الصوم في السَّفر وإثبات الثَّواب فيه قال: «باب بيان إبطال فضل الصَّوم في السَّفر، والدَّليل على أنَّ الفطر في السَّفر أفضل من الصَّوم، وبيان الخبر المعارض لإبطال فضل الصَّوم والمبيِّن ثوابه في سبيل الله».
5ـ وابن أبي عاصم، رواه في كتاب «الجهاد» من طرق عديدة.
وممَّا يدلُّ على ذلك أيضًا أنَّه ورد في بعض طرق الحديث عطف ابتغاءِ وجه الله على سبيل الله، فأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2113) وابن أبي عاصم في الجهاد (171) من حديث سهيل بن أبي صالح عن النُّعمان بن أبي عيَّاش عن أبي سعيد الخدريِّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَا مِن عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله ابتغاءَ وجه الله إلَّا باعد الله بينه وبين النَّار سبعين خريفًا»، وقال الشَّيخ الألبانيُّ في تعليقه على ابن خزيمة: «إسناده صحيح، رجاله رجال الصَّحيح».
والعطف يقتضي المغايرة كما هو معلوم فثبت المراد والحمد لله.
الفصل الثَّالث
ثواب العمرة في رمضان
قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «عمرة في رمضان تقضي حجَّة معي»، متَّفق عليه.
وهذا قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ سنان الأنصارية وكانت تخلفت عن الحجِّ معه، فقوله صلَّى الله عليه وسلم لها: «تقضي حجَّة معي» يحتمل أربعة معانٍ:
الأوَّل: أن يكون هذا لها خاصَّة دون سائر النَّاس، وهذا خلافُ الأصل، فإنَّ خطاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للواحد من أمَّته خطابٌ للأمَّة جميعًا ملم يمنع من ذلك مانعٌ يقتضِي تخصيصَه به.
الثَّاني: أن يكون هذا الخطاب عامًّا لها وللأمَّة جميعًا، فكلُّ من اعتمر في رمضان كان له أجر حجَّة مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا هو الَّذي يفهمه أكثر النَّاس اليوم، ولا يكاد يتبادر إلى أذهانهم سواه.
الثَّالث: أن يكون المعنى أنَّ العمرة في رمضان تعدل حجَّةً مطلقًا لا حجة مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بخصوصها، فالعمرة في رمضان من كلِّ أحد تعدل الحجَّة الممكنة في حقِّه.
الرَّابع: أن يكون المعنى أنَّ من عزم على الحجِّ وعجز عنه فإذا اعتمر في رمضان كان مجموع العزم على الحجِّ مع العمرة في رمضان يعدل أجر حجَّة.
والثَّالث والرَّابع أقرب الاحتمالين، والثَّالث أقربُهما، أمَّا الأوَّل والثَّاني فظاهرٌ بعدهما، لا سيَّما الثَّاني الَّذي يفهمه النَّاس فإنَّه بعيدٌ جدًّا، لأنَّ رؤية النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع الإيمان به فضيلةٌ عظيمةٌ لا تُلحَق، فكيف بالحجِّ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله كما في «فتاويه» (26/293-294):«ومعلومٌ أنَّ مراده أنَّ عمرتكِ في رمضان تعدل حجَّة معي، فإنَّها كانت قد أرادت الحجَّ معه فتعذَّر ذلك عليها، فأخبرها بما يقوم مقام ذلك، وهكذا من كان بمنزلتها من الصَّحابة، ولا يقول عاقلٌ ما يظنُّه بعض الجهال: أنَّ عمرة الواحد منَّا من الميقات أو من مكَّة تعدل حجَّة معه، فإنَّه من المعلوم بالاضطرار أنَّ الحجَّ التَّامَّ أفضل من عمرة رمضان، والواحد منَّا لو حجَّ الحجَّ المفروض لم يكن كالحجِّ معه، فكيف بعمرة! وغايةُ ما يحصِّلُه الحديث أن تكون عمرة أحدنا في رمضان من الميقات بمنزلة حجَّة، وقد يُقال: هذا لمن كان أراد الحجَّ فعجز عنه فيصير بنيَّة الحجِّ مع عمرة رمضان كلاهما تعدل حجَّة، لا أحدهما مجرَّدًا، وكذلك الإنسان إذا فعل ما يقدر عليه من العمل الكامل مع أنَّه لو قدر لفَعَلَه كلَّه فإنَّه يكون بمنزلة العامل من الأجر...».
وإنَّما قلت إنَّ الثَّالث أقربهما لا الرَّابع لأنَّ الأدلَّة دلَّت على أنَّ من عجز عن عملٍ مع حرصه على فعله كُتب له أجره تامًّا من غير تقييد يزمن معيَّن، فمن عزم على الحجِّ وفعل ما يقدر عليه منه ثمَّ عجز عنه كُتب له أجر الحجِّ كاملًا، ولو لم تكن في رمضان.
آخــــره، وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا.