هل يمكن دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة علمية؟
المقدمة: يتناول علم الاجتماع سلوك الجماعة ، فالإنسان رغم استقلاله الفردي ينتسب إلى أسرة أو مهنة أو طبقة أو قومية ، ففي ظل هذه الجماعات كلها تنشأ وتنمو طائفة من الظواهر ، هي جملة من التصورات المشتركة نفسها على سلوك الأفراد وتتجاوز كياناتهم المستقلة. فموضوع علم الاجتماع يدرس جملة الظواهر الاجتماعية التي تنشأ في ظل الحياة الاجتماعية ، بما يسودها من نظم وعادات وتقاليد وأنماط من العلاقات المختلفة المتشابكة ، إلى جانب هذا فإنها تمتاز بأنها جمعية تتمثل لا في ضمير الفرد الواحد بل في الضمير الجمعي كما يقول دوركايم.ان هذه الخصائص التي تتميز بها الظواهر الاجتماعية جعلت البعض يعتقدون أن هناك إمكانية لدراستها دراسة موضوعية ، فما مدى صحة هذا الموقف ؟
التحليل:1 موقف الرافضين:يمثل هذا الرأي جملة من المفكرين والعلماء القائلون بصعوبة تطبيق المنهج التجريبي على الظواهر الاجتماعية ،كونها ظاهرة ليست مماثلة للظواهر الطبيعية (المادية) الجامدة والحية فهي تتميز بأنها ظاهرة تحمل طابعا معنويا وروحيا ،لذلك فهي كيفية لا تقبل القياس،ولا تقبل الملاحظة المباشرة كما انها ظاهرة إنسانية تتميز بالحرية،ومنه يصعب التنبؤ بها وبسلوك الفرد ،لذا نجد انها ذاتية فردية أي أن الفرد هو الذي يقوم بها ،ورغم العوامل المشتركة بين الأفراد الا ان لكل فرد مميزاته الخاصة به ،وهذا بدوره يؤثر على موضوعية النتائج ، ومنه يصبح التعميم صعب أن لم نقل مستحيل . لهذا نجدها متشابكة ومعقدة مما يزيدها صعوبة . ظف الى ذلك فهي ظاهرة تتحرك في الزمان والمكان ولا تقف عند حال ، و لم تنشأ كاملة بالشكل الذي تبتدئ عليه في الحالة الراهنة ،وهناك صعوبة آخرى تظاف الى جملة الصعوبات وهي ان الظاهرة الاجتماعية لا تخضع للتجربة المباشرة على غرار العلوم المادية لأنها كما اسلفنا سابقا بانها ظاهرة معنوية لا تقبل التجريب ، وأن الفرد المجرب عليه يمكن أن يغير من سلوكه .
2 ـ موقف المؤيدين:يؤكد جملة من العلماء وفي مقدمتهم عالم الاجتماع اميل دوركايم أنه يمكن دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة موضوعية وعلمية لأنها ظاهرة شيئية فالظاهرة الاجتماعية تمتاز بأنها خارجة على الفرد مستقلة عن شعوره فالانسان كما يقول "دوركايم" عندما يتقصى سلوكه يجده مقيدا بجملة من الأعراف والتقاليد والقواعد هيئت من قبل فهو يأكل ويشرب ويلبس ويتحدث إلى الناس ويتعامل معهم تبعا لأساليب جاهزة ديانته ومعتقداته وجدت قبل وجوده واللغة التي يتكلم بها مع الناس لم ينشئها وطريقة المصافحة والسلام يلقنها، فالظاهرة الاجتماعية إذن تأتينا من الخارج ونحن إنما نتلقاها ونتحلى بها . ومن هنا كان تنويه دوركايم بأنها أشياء قابلة للدراسة الموضوعية بواسطة المنهج التجريبي مثل الظواهر الطبيعية يمكن ملاحظتها وإقامة التجربة عليها للكشف عن القوانين التي تتحكم في سيرها وتطورها فالمنهاج الموضوعي يقوم على ملاحظة نمو وتطور الظواهر الاجتماعية في مجتمعات محدودة يمكن التحكم فيها الى حد كبير كالمجتمعات المدرسية والأندية والجمعيات الخيرية وما شاكل ذلك ، فالتجريب هنا لا يعني إحداث حوادث جديدة بالمرة ، بل تعديل بعض ظروف المجتمعات الصغيرة الضيقة وملاحظة نتائج هذا التعديل.
المناقشة: والنقد الموجه لأصحاب هذه النظرية ما يلي: مهما حاول علم الاجتماع تحقيق نتائج علمية دقيقة الا انه يبقى يفتقر لليقين لأن القياس أمر صعب التحقيق فيه بالإضافة إلى تدخل ذاتية الباحث في التفسير، فطبيعة الظاهرة الاجتماعية تختلف عن الظاهرة الفيزيائية والكيميائية ذاتها ظاهرة لها خصوصياتها لذلك يجدون صعوبة في تطبيق المنهج التجريبي عليها رغم المحاولات الجارية.
2 –3 - المناقشة: لقد وجهت جملة من الاعتراضات لأصحاب هذه النظرية تمثلت فيما يلي :إن المعارضين لعلمية العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع بالذات يبالغون كثيرا في تصور الصعوبات وهي صعوبات منهجية بالفعل ، ولكن هل هذا يعني انه يجب أن نتخلى عن المنهجية العلمية في دراسة الحوادث أو الظواهر الإنسانية عامة والاجتماعية خاصة فالتطور الذي شهدنه العلوم الإنسانية والأبحاث الاجتماعية جعل أمر الدراسة العلمية ممكن.
كما إن علم الاجتماع لا يقتصر على منهج واحد في بحثه عن الظاهرة ، بل بتنوع المناهج والأساليب تبعا لطبيعة الظاهرة وملابساتها ، فإذا كانت الظاهرة تخضع لتاريخ طويل في نشوئها كان لابد له من تتبع المنهج التاريخي في استقرائها ، وإذا كانت ذات تكرار متنوع ومتغير أصبح من المناسب اعتماد المنهج الإحصائي لضبط تكرارها ،وربطها بالعوامل المتصلة بها ، وإذا كانت قابلة للملاحظة والتجربة فوجب الاعتماد على المنهج الموضوعي أو التجريبي لإيجاد تفسير لها، فمناهج البحث الاجتماعي متكاملة.
النتيجة : نستنتج مما سبق ذكره أن العلماء في الأبحاث الاجتماعية يتعرضون للعديد من الصعوبات إثناء تطبيقهم للمنهج التجريبي منها ما له علاقة بطبيعة الظاهرة نفسها ومنها ما له علاقة بشخصية الباحثين حيث أنهم يجدون صعوبة في التخلص من الذاتية كون الظاهرة جزء منهم لكن المحاولات جارية لتجاوز هذا الفشل والاقتداء بالعلوم الأخرى من اجل الاقتراب من الكمال.
خلاصة القول: إن العلوم الإنسانية رغم الصعوبات التي تجابه الباحثين في ظواهرها لا يمكن إنكار قيمتها مهما تكن نتائجها نسبية ومهما تكن دراستها لتلك الظواهر محفوفة بالمخاطر ومحدودة بالعقبات فان العلماء يبذلون قصارى جهودهم من اجل تجاوز كل النقائص والسلبيات التي تحد من تطبيق التجارب العلمية ، فالعلوم الإنسانية لا تقل أهمية عن علوم المادة الحية والجامدة ، فكما تتوق هذه الأخيرة إلى الكمال في نتائجها فكذلك ألأمر بالنسبة لهذه العلوم.
ولذا كان على الباحث الاجتماعي أن يتتبع ولادتها ونموها وتطورها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن مجتمع إلى مجتمع ليلاحقها في تبدلانها وتحولاتها وتفاعلاتها مع مختلف الحوادث وفي الواقع فان المقارنة تلعب دورا أساسيا .فإذا كان العالم الاجتماعي يدرس نظام الأسرة في مجتمع معين ، ثم يتتبع أطوار تاريخ هذا المجتمع وما حدث للأسرة في هذه الأطوار ، وقد يلجأ إلى دراسة الأقوام البدائية باعتبارها النموذج الأول للأسرة وهو معروفا لدينا ، كما أن المقارنة قد تتم بين مجتمعات معاصرة ... ومن هنا نفهم الصلة القائمة بين علم الاجتماع والتاريخ فالمؤرخ يدرس حوادث جزئية في سياق زماني ومكاني معين ويربط هذه الحوادث بأسبابها الخاصة، بينما علم الاجتماع يدرس الحادثة الاجتماعية في جميع مراحلها وأماكنها لاستخلاص قانونها العام وفي هذا المعنى يقال بان التاريخ مختبر علم الاجتماع أي أن التساؤلات التي تجري في نفس الباحث الاجتماعي يمكن إيجاد أجوبة لها في ثنايا التاريخ.