السلام عليكم
خطبة الربيع العربي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) . أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. معاشر المؤمنين: يقول ربنا سبحانه وتعالى: ((وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً)). إن الفوضى قد تقع في بلد أو قرية أو قبيلة، وقد يتقاتل المسلمون، وقد يتسلط الفاسقون والمبتدعون، لكن أئمة السنة لهم نظر ثاقب في الواقع ومآلات الأمور، فههو الإمام المبجل أحمد بن حنبل صاحب المسند وغيره من كتب أهل الإسلام، الذي قال فيه ابن المديني: "إن الله تبارك وتعالى أعز الإسلام برجلين، بأبي بكر زمن الردة، وبأحمد بن حنبل زمن المحنة"، لما تسلط المبتدعة المعتزلة في زمنه على أهل السنة وآذوهم أعظم الإيذاء، قال رجل للإمام أحمد: قد وقعت الفتنة، فقال الإمام أحمد: "لا، الفتنة أن تنتقل قلوبنا من الحق إلى الباطل، وقلوبنا بعدُ على الحق ولله الحمد والمنة" . صدق أحمد بن حنبل، الفتنة أن تنتقل القلوب من الحق إلى الباطل، وفي هذه الأحداث الأخيرة، هل انتقلت قلوب من الحق إلى الباطل؟ وهل نبذ بعض دعاة الثورة أحاديث رسول الله أبي القاسم محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه هل نبذوها وراءهم ظهريًّا؟ وهل سعى بعض رموز الربيع العربي لِلَيِّ أعناق النصوص حتى توافق أطروحاتهم في تجويز الخروج على الحاكم المسلم لا الكافر من أجل دنيا أو مظلمة؟ وذلك أن أحاديث النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه إنما أباحت الخروج على الحاكم الكافر دون المسلم الجاهل كما سيأتي، وذلك أن أبا القاسم صلوات الله وسلامه عليه قال بعد أن نهى عن الخروج ونزع البيعة: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" فاشترط الكفر البواح البين الظاهر، واشترط كونه كفرًا في دين الله تبارك وتعالى ببرهان منه، لا عند المتشددين الجائرين . فعُلم مما سبق أن فئامًا من عامة العرب وقعوا في فتنة لا ينجيهم منها إلا الله تبارك وتعالى، زينهم لها دعاة الثورة المسيسون، فأوهموهم أن الخروج على الحاكم المسلم عند جورٍ أو مظلمة، جائز في دين الله لا حرج فيه، ولا نهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، بل أوهموا رجل الشارع العربي كما يقولون: أن هذا الخروج وما يشتمل عليه من تخريب وقتل وتعطيل للخدمات، وتسليط لقطاع الطريق والسراق، وسفك للدماء فضيع، وتفرق شنيع، وفوضى عارمة، أوهمهم رموز الثورة أن هذا الخروج جائز لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اعترض عليهم الناصحون بالأحاديث النبوية المصطفوية، سعوا في صد العوام عنها مع وضوحها وبيانها، فمنهم من أوَّل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأن مراده عليه الصلاة والسلام عدم الخروج على الحاكم العادل دون الجائر، وبالله عليكم أي شعب يحتاج إلى وصية نبي بعدم الخروج على العادل، بل كلهم يفرح به ويتمسك بحكمه. ومنهم من تلاعب بالسنة وفسرها على حسب هواه، فزعم أن قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي خرجه الإمام مسلم في صحيحه: "تسمع وتطيع للأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك" زعم أنه في حاكم ظلم فردًا واحدًا، ويعني هذا المتأول أنه يجوز الخروج على الحاكم المسلم إن ظلم أفرادًا أو جماعة، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة، وبالله عليكم كيف يصنع بالحديث الذي خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبوب عليه العلامة النووي بقوله: "باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق" ولم يقل حقوق فرد، ونص الحديث أن سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ ويمنعونا حقنا ولم يقل حق فرد أو فئة قليلة، تأملوا عباد الله ما كان جواب سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا، لم يبح نبيك صلى الله عليه وسلم الخروج عليهم . وبالله عليكم ماذا يقول من يخص الطاعة وتحريم الخروج بالحاكم العادل؟ ماذا يقول في الحديث الذي خرجه الشيخان البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها –يعني: استئثار الحكام بالأموال وفعل ما ينكر- قال ابن مسعود: فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" قال النووي في شرح هذا الحديث: "فيه الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالمـًا عسوفًا، فيعطى حقه من الطاعة ولا يُخرج عليه ولا يخلع، بل يُتضرع إلى الله تبارك وتعالى في كشف أذاه، ودفع شره وإصلاحه" انتهى كلامه. وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن حسن: "وأهل العلم متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لم يروا كفرًا بواحًا، ونصوصهم –يعني أهل العلم- في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم" انتهى كلامه رحمه الله. بل وصل الحال ببعض منظري ودعاة الربيع العربي إلى السخرية والاستهزاء بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم الذي خرجه الإمام مسلم في صحيحه: "تسمع وتطيع للأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك". فهذا الحديث فيه والله شفاء لعلل الأمة، وذلك أن صبر فرد أو أفراد على الظلم والجور خير من الخروج وسفك الدماء، وتسلط الأشرار، وضياع هيبة الأمة، فسخر الثوري من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن هذه أحاديث الانبطاح والجبن، ولا يعمل بها إلا عبيد السلطان وأصحاب الفكر البدوي، إلى غير ذلك مما تقذفه وسائل إعلامهم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا. قال الله تبارك وتعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) ثم قال جل وعلا: ((وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً))، وقال سبحانه وتعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) وقال سبحانه وتعالى في رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بلغ من الهدى والخير: ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) وقال عن المستهزئين به وبسنته صلوات الله وسلامه عليه: ((وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)). أرأيتم معشر العقلاء، كيف وقعت الفتنة وانتقلت قلوب من الحق إلى الباطل، ومن السنة إلى البدعة، ومن الجماعة إلى الفرقة، تذكروا قول ذلك الرجل للإمام أحمد: وقعت الفتنة، فقال إمام أهل السنة: "الفتنة لم تقع، إنما الفتنة أن تنتقل قلوبنا من الحق إلى الباطل، وقلوبنا بعد على الحق". وأمر آخر قد ابتدعه الديمقراطيون الكفرة الغربيون، وقع فيه الثوريون الجدد، وربَّوا مريديهم عليه، ألا وهو تنقص الحاكم باسم الحرية، والسخرية منه، والسعي للحط من قدره، وإسقاط هيبته، وغرضهم من ذلك تهيئة الشعب للخروج والثورة كما هو معروف، ونحن معاشر أهل السنة نسأل رموز الثورة ومفكريها وفقهاءها ودعاتها: هل دلت الآثار والنصوص النبوية على جواز إهانة الحاكم المسلم وتنقصه، دعْ عنك صيحات المتظاهرين، ولافتات المعتصمين، واعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ)) وقال سبحانه وتعالى: ((وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً)) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهان السلطان أهانه الله تبارك وتعالى" رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، تأمل في الحديث، من أهان السلطان ولم يصفه بالعدل إنما أطلق، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه قال: "أمرنا أكابرنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ألا نسب أمراءنا ألا نسب أمراءنا" وإسناده جيد، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن طاووس قال: "ذكرت الأمراء عند ابن عباس فانبرك فيهم رجل –أي اجتهد في ذمهم والوقيعة فيهم- فتطاول حتى ما أرى في البيت أطول منه –أي أنه توهم أنه خير من غيره وأشجع وأنصح وأصرح والله أعلم بالنيات وخفايا النفوس- قال طاووس: فسمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لا تجعل نفسك فتنة للقوم الظالمين، قال طاووس: فتقاصر الرجل حتى ما أرى في البيت أقصر منه"، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "إياكم ولعن الولاة فإن لعنهم الحالقة". الفتنة أن تنتقل القلوب من الحق إلى الباطل، ومن السنة إلى البدعة، من الفتنة التي وقع فيها الثوريون اليوم، إيهام الشعوب بأن الخروج على الحاكم المسلم الجائر لا الكافر، إيهاهم أنها مسألة اجتهادية، للمفكر الإسلامي أن يجتهد فيها، فمتى ما خرج في قناة فضائية وأفتى بالخروج هبت العامة وثارت الفتنة، يا رموز الفتنة بل يا رموز الثورة ويا فقهاء الربيع المزعوم، ربيعكم ما أثمر إلى اليوم، إلا الدماء والأشلاء والفوضى، فاتهموا أنفسكم، وارجعوا إلى سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، لا تغيروا عقائد عامة المسلمين، ولا تخالفوا سنة رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، لا توهموم أن الخروج على ولاة أمرنا المسلمين وإن حصل جور أو ظلم لا توهموهم أنها مسألة اجتهادية، لا والله كيف تكون اجتهادية وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم: "إذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة" خرجه الإمام مسلم، وفي لفظ آخر له: "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله تبارك وتعالى فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة" كلام عربي بيِّن. ولما خرج أهل المدينة على يزيد، وعظهم ابن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم، وذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له" لا حجة له وإن احتج بكلام الديمقراطيين والثوريين والتحرريين والقنواتيين والمفكرين، وغيرهم من دعاة الباطل، "من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له" وإن احتج بأنه مظلوم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صحت الأحاديث عنه بتحريم الخروج على الحاكم الظالم الجائر، فلا حجة له، لا حجة له، "ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" وهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب وعظائمها. عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: ((فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى))، من اتبع الهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي الذي أنزله رب العالمين تبارك وتعالى، فقد تكفل الله عز وجل له ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ولا تنظرن إلى كثرة من ضل، فإنه لا عبرة بهم، ((وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)) إنما الشأن والنجاة في الدنيا والآخرة بالتمسك بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رفضك الناس، تمسك بالسنة فإنك على الهدى وعلى الحق، كلامه صلى الله عليه وسلم وأحاديثه في هذا الباب واضحة بينة وإن أبى من مال إلى الفتنة والبدعة والخروج والثورة. من مفاسد الربيع العربي معاشر المؤمنين، أنهم يدعون إلى حرية الرأي والتعبير، والرأي والرأي الآخر، لكنك إذا خالفتهم، وبينت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تقدم وغيره، والتي رواها الشيخان وغيرهما من أئمة الإسلام، وشرحتها لعامة المسلمين، لا يقبلون منك هذا الذي يسمونه الرأي الآخر، ولا يسمحون لك ولا يعطونك حرية التعبير، بل أنت عندهم إذا دعوت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت عندهم مفرط لهذه الثورة، وضد مصالح الشعوب، وأنت من عبيد السلطان، ومن علماء الحكومة، وإلى غير ذلك مما يطلقونه على علماء المسلمين، وهذا لا شك أنه دليل على فشل هذا الذي يسمونه ثورة، إذا كان أولها ظلم فآخرها ظلم، إذا كان أولها تعديًا على علماء المسلمين وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا خير في آخره.