إيران والعالم العربي...لبنان نموذجاً
د. سعود المولى:
- حزب الله والمقاومة الإسلامية (1985-1992): إن انطلاق حزب الله بدعم إيراني كبير، مع دخول حركة أمل دائرة الإمساك بالموقع الشيعي في السلطة السياسية (منذ انتفاضة 6 فبراير 1984 التي جعلت أمل والوحدات الشيعية في الجيش اللبناني تسيطر على العاصمة بيروت). ثم التحوّل الكبير في الاتحاد السوفياتي بعد صعود غورباتشوف (1985) وأثر ذلك على تصفية مواقع التدخل الروسي في العالم الثالث عموماً، والبلاد العربية خصوصاً، ما سمح بحدوث تحولات سياسية عميقة في العديد من الدول (عدن- الجزائر- السودان-العراق، وحتى سورية..).
إن كل ذلك عجّل بحصول تطورات هي أشبه بانقلابات جذرية؛ فشهدت أعوام 85-88 مسارعة سورية للإمساك بالورقة اللبنانية عبر سلسلة من الهجمات كان الاتفاق الثلاثي أبرزها.
هذا الإمساك كان يستدعي تصفية النفوذ الفلسطيني تماماً؛ فكانت حرب المخيمات (85-88) التي كانت امتداداً لحرب طرابلس بين أنصار عرفات وأنصار سورية، وكانت سلسلة الاغتيالات التي طالت الكوادر الجماهيرية السنية في بيروت وطرابلس، وتلك التي ضربت القيادات السنية الرسمية مثل الشيخ الدكتور صبحي الصالح والمستشار محمد شقير والصحافي سليم اللوزي والنائب ناظم القادري وصولاً إلى المفتي حسن خالد.
وترافق معها الإمساك السوري بالحزب القومي (1987-1988) بعد اغتيال محمد سليم وايلي الجقل وتوفيق الصفدي ومقتل العشرات في حرب الكورة، وصولاً إلى حملة اغتيال كوادر الحزب الشيوعي (1986-1987)، في بيروت والجنوب (ميشال واكد، حسين مروة، حسن حمدان، خليل نعوس، سهيل طويلة، لبيب عبد الصمد، نور طوقان….).
وأخيراً حرب بيروت في فبراير 1987، والتي أعادت القوات السورية إلى العاصمة، وتخللتها مذبحة شارع فتح الله الشهيرة ضد حزب الله التي فسرّت يومها على أنها رسالة أو إشارة للأمريكيين والإسرائيليين بأن الدخول السوري وحده قادر على لجم الحزب والإسلاميين وعلى تحرير الرهائن الغربيين.
وكانت سورية قد عقدت صفقتها مع أمريكا منذ العام 1987، وذلك حين استشعرت بوادر وبدايات الصفقة بين أمريكا وروسيا وبدنو أجل الاتحاد السوفياتي وبقرب انتهاء الحرب الإيرانية-العراقية، وبقرب عودة مصر قوية إلى الصف العربي، أدت هذه التطورات مجتمعة إلى تشكل وضع جديد بدأ بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران والعراق (تموز 1988) ولم ينته مع انهيار الاتحاد السوفياتي (1990)، أو حرب الخليج الأولى التي اشتركت فيها سورية إلى جانب قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكا (1991).
هذه الأوضاع والأجواء هي التي مهّدت ورسمت طريق اتفاق الطائف. وكان رافقه ظهور الحلف الأمريكي-السوري في وجه العماد عون من جهة كما في وجه عرفات من جهة أخرى.. ولا بد هنا من التذكير بأن الطائف كان برعاية أمريكية-سعودية- سورية، وقد نتج عنه ترسيم جديد للقوى وللتحالفات وللمواقع خصوصاً بين سورية وإيران.
وليس المجال هنا لتحليل أحداث 1987-1991 التي سبقت ومهدت لاتفاق الطائف، ولكن أبرز ما فيها هو الصراع الشيعي-الشيعي المسلح بين حركة أمل وحزب الله (1988-1991)، والذي يمكن اعتباره صراعاً بين سورية وإيران للامساك بالورقة الشيعية في لبنان ومن خلالها الإمساك بورقة المقاومة أي ورقة الحرب والسلم على الحدود مع إسرائيل.
كان السبب المعلن لتلك الحرب الداخلية رفض حزب الله للقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن في مارس 1978، والذي يدعو إلى انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان ويشرعن وجود القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وقد نتج عن هذه الحرب 2500 قتيل من الطرفين ومن المدنيين الشيعة في الضاحية الجنوبية والجنوب والبقاع، وأدى فيما أدى إليه إلى سيطرة حزب الله على الجنوب تماماً بعد عدة اتفاقيات رعتها سورية في دمشق، وما أن جاء العام 1992 حتى كان الحزب هو الجهة الوحيدة المسموح لها بالعمل في جنوب لبنان.
كانت الانطلاقة الجديدة للمقاومة الإسلامية بعد 1992، وقد صارت وحدها المخولة بالعمل العسكري والأمني في الجنوب، ثمرة حقيقية لتوافق إيراني-سوري (مبارك عربيا وأمريكيا) حصر التمثيل الشيعي بحركة أمل وحزب الله على حساب الآخرين، وقد أدت وفاة الإمام الخميني وانتهاء الحرب مع العراق (1988) وولادة محور غربي-عربي جديد في وجه صدام حسين1990 (أمريكا-السعودية-الخليج-مصر) إلى انضمام سورية إلى هذا المحور.
ولا بد هنا من إعادة التذكير بأن الغطاء المصري-السعودي طوال تلك المرحلة، والرضا الأمريكي-الأوروبي، هو الذي أمّن الدعم لسورية وللمقاومة على السواء، إضافة إلى القبول الإيراني بعد انتصار تحالف رفسنجاني-خامنئي الإصلاحي (1989)، الذي تمكن من الإمساك الكامل بالسلطة خلال العامين 91- 92، وبدأ سياسة الانفتاح على الغرب وأمريكا ووقف سياسة تصدير الثورة والمغامرات..
كل ذلك سمح بالدعوة إلى إنهاء الحرب في لبنان وبالتالي فإلى اتفاق الطائف(1989) والتعديلات الدستورية 1990، فإنهاء وضع الجنرال ميشال عون1991، وتعيين نواب جدد، فالانتخابات النيابية 1992 التي شهدت مقاطعة مسيحية وعودة الهيمنة والوصاية السورية…وفي كل هذه المحطات كانت إيران حاضرة لجهة قبول حزب الله بالتحول إلى العمل السياسي والبرلماني والتحالف مع السعودية وسورية.
5- مرحلة 1992- 2000 أو الشراكة الإيرانية-السورية-العربية: حكم المرحلة من 1992 إلى العام 2000 (الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان) شراكة إيرانية سورية محمية بغطاء عربي- دولي، ولا يمكن فهم التحول في سياسة حزب الله اللبنانية (من التبشير بالثورة الإسلامية إلى الانخراط في النظام اللبناني) إلا من خلال فهم الإستراتيجية الإيرانية الجديدة.
ذلك أن سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك حلف وارسو، وانهيار النظام الشيوعي في أفغانستان، واندلاع الصراعات بين فصائل الجهاد الأفغاني، وتصاعد التوتر الهندي-الباكستاني مع صعود التطرف الهندوسي والإسلامي إلى السلطة في البلدين، وتوقف الحرب العراقية-الإيرانية وقيام الحملة العسكرية الدولية على العراق وما تلاها من عقوبات وحصار.
كل ذلك حرر إيران من ضغوط وأخطار وتحديات وسمح لها بانتهاج سياسة هجومية جديدة بعد تعديل في نظام الحكم أطاح بالخمينيين اليساريين والثوريين لصالح البراغماتيين.
وفي لبنان شهدت المرحلة انكفاء الطرف المسيحي عن المشاركة السياسية وتشكيله حالة إحباط وتراجع وعدم ثقة بالوضع الذي صار يسمى بالوصاية السورية نسبة للاتفاق الأمريكي-السعودي-السوري على تسليم سورية شؤون لبنان مكافأة لها على الموقف من العراق وتشجيعاً لها على الانخراط في الاعتدال العربي الحليف لأمريكا.
وقد استفادت إيران من تلك الحقبة لتعزيز وضعها في لبنان، فتمت إزاحة الشيخ صبحي الطفيلي من قيادة حزب الله (1991)، وبعدها دخل الحزب إلى البرلمان اللبناني متحالفاً مع حركة أمل 1992-1996-2000، وصار قوة سياسية رئيسية في البلاد.
تمثلت قوة حزب الله والشراكة الإيرانية-السورية المحمية بغطاء عربي-دولي في تفاهم نيسان الذي أبرم إثر العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان في ابريل 1996 والذي لعب فيه الرئيس الحريري (وفرنسا والسعودية بالتالي) دوراً أساسياً كان خير غطاء للدور السوري-الإيراني في الوقت نفسه، ما سمح بانتزاع موقف عربي- دولي لصالح المقاومة..
شهر العسل الإيراني-العربي-الغربي هذا استمر طوال عهد الرئيس كلينتون، وقد تعززت فيه وتطورت قدرات حزب الله القتالية كما السياسية والجماهيرية في لبنان، واتبعت إيران سياسة البناء البطيء والقوي داخل لبنان: من الحوزات والمستشفيات والمستوصفات إلى المدارس والجامعات إلى النوادي والحسينيات والمساجد، ومن التدريب والتسليح إلى العمليات العسكرية الجهادية في الجنوب إلى العمليات الأمنية ضد استخبارات العدو، وقد أثمر هذا العمل تحول حزب الله إلى أكبر وأقوى تنظيم سياسي-عسكري-اجتماعي في لبنان لا بل والعالم العربي.
6- مرحلة 2000-2005:“بفعل عوامل عديدة، مثل تراجع أهمية الخطاب الأيديولوجي داخلياً وخارجياً بعد وفاة الإمام الخميني، وانتهاء عصر الاستقطاب الدولي على خلفية انهيار الاتحاد السوفيتي، وتدشين ما يسمي بـ”مرحلة التحول من حالة الثورة إلى حالة الدولة”، استبعدت إيران سياسة “تصدير الثورة” في تعاملها مع تطورات الإقليم.
واستعاضت عنها بأدوات أخرى، مثل تأسيس علاقات وثيقة مع قوى عربية رئيسية على غرار سورية بهدف إكساب تمددها في الإقليم غطاء عربياً، وفتح قنوات تواصل مع العديد من المنظمات، مثل “حزب الله” اللبناني، وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الفلسطينيتين، فضلاً عن استثمار الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبتها العديد من القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد بدء ما يسمى بـ”الحرب الأمريكية على الإرهاب” التي انتهت باحتلال كل من أفغانستان والعراق، وذلك لدعم طموحاتها في أن تصبح رقماً مهماً في معظم الملفات الإقليمية، إن لم يكن مجملها” .
تغيرت الأمور في لبنان بدءاً من خريف العام 2000 حيث إن المعارضة المسيحية اللبنانية وعلى رأسها بطريرك الموارنة قررت أن الانسحاب الإسرائيلي ينزع حجة القبول بالوجود السوري في لبنان ويطرح بالتالي قضية السيادة الوطنية والقرار الحر.
وقد رأت المعارضة المسيحية في انتخاب الرئيس بوش الابن، وفي وجود الرئيس جاك شيراك في الحكم فرصة تاريخية للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، وجاءت أحداث سبتمبر العام 2001 لتطيح بالتحالف العربي-الغربي الذي كان مظلة للمقاومة في لبنان وفلسطين، الأمر الذي يفسر اختلاف المواقف العربية والغربية من انتفاضة الأقصى ما بين سبتمبر 2000 (تاريخ اندلاعها) وسبتمبر2001 (هجوم القاعدة على أمريكا).
تلا ذلك طبعاً اصطفاف عربي جديد قادته السعودية ضد النظام العراقي، الأمر الذي كان مريحاً لإيران وحزب الله، فاستمر شهر العسل اللبناني الداخلي ما استمر الغزل الإيراني-الأمريكي إذ لم تتخل إيران عن سياسة المهادنة مع أمريكا والغرب، بل هي تحالفت معها في أفغانستان لإسقاط حكومة طالبان، ونال شيعة أفغانستان وتحالف الشمال المدعوم من إيران حصة لا بأس بها في النظام الجديد في كابول، ثم تحالفت إيران مع أمريكا أو سهلت لها عملية غزو العراق وإسقاط صدام.
خلال ذلك كان الافتراق السعودي-السوري يتفاقم ومعه الافتراق الفرنسي-السوري، الأمر الذي سهل عملية انضمام الرئيس الحريري إلى المحور السعودي-الفرنسي، واقترابه من المعارضة المسيحية، وحصل اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005؛ لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الصراع العربي-السوري: مصر والسعودية ومعها فرنسا شيراك والإدارة الأمريكية دعمت ثورة الأرز وقوى 14 آذار.
في حين وقف حزب الله مع سورية (8 آذار)، وجاءت الانتخابات الرئاسية في إيران (يونيو2005) بالسيد أحمدي نجاد، ليبدأ مرحلة جديدة قطعت مع السياق الإصلاحي للرئيس خاتمي ومع مرحلة المهادنة مع الغرب وأمريكا (التي افتتحها في الحقيقة الرئيس رفسنجاني منذ 1992)، ودخلت السياسة الإيرانية في لبنان منعطفاً جديداً مع أحمدي نجاد آيته حرب تموز 2006 التي شكلت مواجهة واختباراً بين أمريكا وإيران في لبنان ومن خلاله.
7- حزب الله والنظام السياسي اللبناني بعد 2006:في وثيقة داخلية صدرت في أيار 2007 يحدد حزب الله فهمه للسياسة كما يلي:
“إن بناء مفهوم للسياسة يقوم على ربط الداخل بالخارج وأخذ ذلك في الاعتبار في رسم المواقف والبرامج السياسية هو مسألة علمية قبل أن تكون سياسية. وهذا ما لحظه حزب الله بصورة أساسية في مقاربته للسياسة في لبنان.فالخارج هو الذي يستهلك طاقة الصراع ودينامياته وتوتراته، بينما تشكل العلاقات في الداخل دوماً على أساس التكامل..ولا يحضر الصراع داخلياً إلا حين ارتباطه بالخارج ولا يمارس عندها إلا وفق الحد الأدنى الذي تفرضه الضرورات الطبيعية للسياسة” .
في العام 1993 سأل المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين قادة حزب الله:هل تريدون فعلاً لبنان؟ وإذا كان نعم، فهل حقاً تريدون جمهورية ديمقراطية برلمانية لبنانية؟
واليوم، فإن السؤال الذي نطرحه هو: هل يريد حزب الله فعلاً المشاركة السياسية أم أنه يعمل على بناء دولته الخاصة البديلة أو دولة داخل الدولة أم أنه يعمل لشيء آخر تماماً؟
أرى أن حزب الله لا يحتاج إلى إعلان برنامج لحكومة إسلامية أو لتطبيق الشريعة كما تصوّر البعض مقارنين بينه وبين غيره من الأحزاب الإسلامية العربية التي حملت هكذا مشروع.. فحزب الله حزب شيعي أولاً وأخيراً ، وحزب موجود في لبنان بلد الطوائف والتوازنات الطائفية الحساسة.
وصار حزب الله منذ العام 2005 هو الممثل السياسي والأيديولوجي والعسكري والاجتماعي الشرعي والوحيد للطائفة الشيعية اللبنانية (الطائفة الأكبر عددياً)، وفي ذلك يقول السيد نواف الموسوي:”يجب أن يعمل حزب الله بحيث يشعر شيعة لبنان أنهم بحاجة إليه، ونحن يجب أن نستخدم كامل قدراتنا وإمكاناتنا لنصبح أقوى وأكثر تجذراً في طائفتنا، وحين تلتحم مصالح الشيعة بنا فإن ضعفنا سينعكس عليهم، لذلك سيدعموننا ، يجب أن يستقر حزب الله في إطار الطائفة الشيعية ، لأن وجوده في خارجها سيسهل ضربه” .
وقد أمكن تحقيق التماهي بين الحزب وجمهور الطائفة في ظروف جديدة تماماً لم يسبق أن توفرت في ما سبق:
1= وجود مركز شيعي قوي في إيران الشيعية يحمل إستراتيجية هجومية لتأكيد مصالحه ولفرض وجوده (وإيران دولة كبيرة وغنية وربما نووية).
2= غياب قيادات إصلاحية تاريخية (محسن الحكيم والخوئي في العراق، موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين في لبنان، منتظري وخاتمي وكروبي وموسوي في إيران).
3= تغييب النجف منذ وفاة السيد الحكيم العام 1970، ثم تحديداً بعد حملة القتل في 1979-1980، والتي انتهت باغتيال محمد باقر الصدر وتشريد الآلاف من العلماء، ونشوء موقع قم الديني كبديل للدراسة منذ العام 1980، ثم كمركز وحيد للشرعية الدينية الشيعية.
4= خروج منظمة التحرير الفلسطينية حامية السنة في لبنان بعد حروب طاحنة من عدوان إسرائيلي إلى معارك كبيرة مع النظام السوري وحليفه حركة أمل في لبنان ( 1982-1988)..
5= الصعود المالي والعسكري لإيران وللحزب ووصول أحمدي نجاد ومعه الحرس الثوري والتيار المهدوي إلى السلطة في إيران.
6= انهيار النظام الإقليمي العربي منذ حرب الكويت 1990-1991.
7= انهيار التوازنات الإستراتيجية الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي 1991 ثم بعد ذلك 11 أيلول 2001 فالحرب الأمريكية على الإسلام وعلى إيران .
8= صعود الشيعة والأكراد في العراق بعد سقوط نظام صدام 2003.
9= انهيار الوضع المسيحي في لبنان بعد 25 سنة من الحرب الأهلية، وأزمة الوجود المسيحي في كل الشرق الأوسط مع سقوط إمكانية التدخل الأجنبي لحمايتهم.
10= انهيار الوضع السني اللبناني، بدءاً من اغتيال الرئيس الحريري (14 شباط 2005).
11= أزمة النظام المصري من جهة ، وأزمة الوضع السعودي والباكستاني من جهة أخرى، مع سقوط النظامين العراقي والأفغاني، وصعود القاعدة، كل ذلك طرح أزمة الشرعية السنية .
12= خروج الجيش السوري من لبنان وانهيار المعادلة اللبنانية الداخلية.
من هنا، نقول إن إستراتيجية حزب الله الفعلية ليست اليوم إقامة دولة إسلامية، فهذه الدولة موجودة في إيران؛ ولا المشاركة السياسية الديمقراطية في الحكم، إذ إن المشاركة الفعلية تعني المسؤولية الكاملة عن الكل؛ فيما المشاركة بعرف الشيعية السياسية هي التقاسم partage وليس الـ participation.
ما تعمل عليه الشيعية السياسية هو إستراتيجية للهيمنة تسمح لها بأن تكون اللاعب الأوحد في البلاد، وقد مر الحزب على صعيد تطبيق إستراتيجية الهيمنة بمرحلتين:
1= مرحلة التمهيد والدعوة للجمهورية الإسلامية في لبنان 1980-1992: الرسالة المفتوحة-الموقف السلبي من الميثاق والكيان اللبناني ومن الدستور ومن الجمهورية الديمقراطية البرلمانية- الموقف السلبي من الحوار الإسلامي المسيحي – الموقف السلبي من كل أشكال المشاركة في الحكم – الصراع المسلح مع حركة أمل- التأسيس الكامل لمجتمع ودولة خارج المجتمع والدولة.
2= مرحلة الدخول التدريجي في الحكم عبر إستراتيجية المشاركة السياسية 1992-2005 التي هي في الواقع إستراتيجية تحقيق الهيمنة الطائفية أو ما أسميناه الشيعية السياسية المرتكزة على كل العوامل المذكورة أعلاه، والمستفيدة خصوصاً من عاملي العدد والقوة المسلحة.
إلا أن هذه الشيعية السياسية الجديدة تحمل سمات خاصة تجعلها تختلف عن المارونية السياسية القديمة، وذلك لعدة أسباب:
– المارونية السياسية ورثت دولة حديثة كانت تحضنها فرنسا وتشكل لها إدارة شبه كفوءة.
- الظرف الإقليمي والدولي ساعد على بحبوحة اقتصادية وعلى نمو اجتماعي أفرز طبقة وسطى متعلمة وديناميكية من كل الطوائف.
– النظام العربي الرسمي أعطى شرعية لدور لبنان في محيطه.
– الثقافة الحداثوية كانت القاسم المشترك بين نخب الطوائف كافة.
– الديمقراطية الليبرالية سمحت بفضل التعدد الطائفي بتحول لبنان إلى منطقة حريات إعلامية وسياسية لم توجد في غيره..
– الشيعية السياسية (نسخة حزب الله) لا تنفصل عن فكر المهدوية الإيرانية وعن صعود التطرف الأصولي في الجانبين السني والشيعي، ولذلك فإنها محكومة بالأصولية.
* خاتمة: تداعيات الربيع العربي.. إيران والثورات العربية
في بداية الثورات العربية تعاملت إيران مع الوضع براحة كبيرة لا بل إنها أصدرت تصريحات ومواقف ليس فقط مرحبة وحاضنة لهذه الثورات وإنما أيضاً أدرجتها في سياق “الصحوة الإسلامية المباركة”.
فثورة تونس ثم مصر أطاحت بحليفين كبيرين من حلفاء أمريكا والغرب بما بدا وكأنه مؤشر إلى فك عزلة إيران الدولية التي جهدت الدول الغربية الكبرى في فرضها منذ العام 2006.
وخرج الإعلام الإيراني وإعلام حزب الله في لبنان بمقولات تعبّر عن الفرح بانتصار “محور الممانعة والمقاومة” على محور “الاعتدال العربي” أو “التبعية للغرب” ولعل المكسب الأساسي الآني والمباشر لإيران تمثل في انشغال المجتمع الدولي والغرب تحديداً بتداعيات الربيع العربي، خصوصاً مع اندلاع الثورة في ليبيا ومع تصاعد الاحتجاجات في البحرين، الأمر الذي سمح لطهران بكسب مزيد من الوقت في المماطلة المستمرة منذ سنوات وبالإفلات من كونها تحت المراقبة والضغط الدوليين في الملف النووي؛ كما أنها حققت أيضاً نوعاً من التقدم ولو البسيط في زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب.
ولكن خطأ إيران تمثل في البناء السريع على هذا المعطى الآني للقيام باختراق كبير على أكثر من ساحة.. فكان الضغط على دول الخليج من خلال تحويل الاحتجاجات الشعبية في البحرين إلى أزمة حكم أولاً، ثم من خلال انفجار الوضع السياسي في الكويت ثانياً..ثم كان بعد ذلك التقدم للإمساك بالسلطة في بيروت عبر إسقاط حكومة الوحدة الوطنية التي أنتجها اتفاق الدوحة الشهير (بعد أحداث مايو 2008)، وتشكيل حكومة تخضع لسيطرة حزب الله وسورية (برغم وجود قوى خارج سيطرتها على رأسها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط)..
ولكن هذا الموقف المتسرع سرعان ما وجد نفسه في مأزق كبير. ففي البحرين أدى التدخل الإيراني والتوتر الطائفي إلى تصعيد خطير مع دول مجلس التعاون الخليجي التي اتحدت في سابقة تخلت فيها بعض الدول الصديقة لإيران عن سياستها السابقة التي كانت تقوم على الاحتواء والشراكة الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية والأمنية (مثال قطر وعُمان).
وكانت حملة درع الجزيرة الموحدة الدليل الساطع على دخول علاقة إيران بدول الخليج مرحلة جديدة تتميز بالعداء والمواجهة إلى حد التهديد بالحرب .
كما اتفقت كل دول الخليج على التوجه إلى الأمم المتحدة للشكوى من التدخل الإيراني في شؤونها الداخلية، وتوجيه اتهامات لإيران بتهديد الأمن الوطني الخليجي، خلال الاجتماع الاستثنائي لوزراء خارجية دول المجلس الذي عقد بالرياض في 3 أبريل 2011.
ومع أن إيران نحجت في استغلال الانشغال الدولي في قراءة تداعيات الثورات العربية لزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب، فإن هذا النجاح لا يعزز موقفها كثيراً في الأزمة النووية، خصوصاً وأن البرنامج النووي الإيراني بات يواجه مشكلات وصعوبات كبيرة، ما يمنح الغرب مزيدا من الوقت، وهامشاً أكبر للمناورة، وفرض أكبر قدر من الضغوط والعقوبات الدولية علي إيران بشكل يمكن أن يدفعها في النهاية إلى الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي، خاصة وقف عمليات تخصيب اليورانيوم.
وعلى مستوى آخر لا يقل أهمية، أدى الموقف الإيراني الرسمي الداعم للنظام السوري ، إلى مزيد من الاحتقان العربي ضد إيران، وخصوصاً في الشارع الفلسطيني الإسلامي (حماس والجهاد)، وإلى اعتبار الموقف الإيراني طائفياً من جهة، ومصلحياً أنانياً من جهة أخرى؛ فظهرت السياسة الإيرانية أمام الشارع العربي، وكأنها تقدم الحلف الطائفي، أو الهلال الشيعي، كمحور ممانع ظاهراً، ولكن يقوم على المصالح الضيقة والأطماع والحسابات الطائفية في الحقيقة والواقع، على حساب شعارات العدالة والحرية وفلسطين والوحدة الإسلامية.
وبذلك تكون الانتفاضة السورية، قد ساهمت في كشف محور الممانعة (إيران-سورية-حزب الله-حماس) وخصوصاً بعد خروج قادة حماس والجهاد من سورية واتخاذهم لمواقف منددة بالموقف الإيراني من القمع في سورية.
وقد قامت التيارات الإسلامية التي شاركت في الثورات والتي كانت ترفع عادة شعارات الوحدة والتضامن مع إيران، بإعلان رفض المواقف الإيرانية جملة وتفصيلاً،بدءاً من رفض ادعاءات انتماء الثورات إلى النموذج الإيراني، وانتهاء بإعلان القطيعة معها بسبب وقوفها هي وحزب الله إلى جانب النظام السوري.
وقد ظهر خلال العدوان الأخير على غزة (13-21 نوفمبر 2012) كيف أن الربيع العربي بصياغته لدور إقليمي جديد لدول كانت محسوبة على الاعتدال والعلاقة مع أمريكا والغرب (مصر وتونس وتركيا… وحتى قطر) قد أخرج إيران من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي وهي التي جاهدت سنوات لدخولها بل للاستئثار بها.
فمن أبلغ ما حصل خلال العدوان الصهيوني، التحرك المصري-التونسي السريع إلى غزة، ثم الموقف العربي الموحد المتضامن القوي ضد العدوان وإلى جانب حماس والمقاومة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب والذي تجسد في الوفد الوزاري العربي الذي دخل غزة فكسر الحصار وأربك ضربات العدو.
وأيضاً تلك الوحدة الوطنية الفلسطينية الرائعة التي تجلت عبر مشاركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية إلى جانب حماس والجهاد في الرد على العدوان، وعبر مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي أعطى الغطاء الشرعي للمقاومة وحضنها ونقل القضية إلى مستوى متقدم ربطها بمعركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
الوحدة الفلسطينية والتضامن العربي هما وحدهما من أوقف العدوان وكسر الحصار على غزة وهما وحدهما ما سيسمح لاحقاً بتطوير الوضع إلى نقطة انعطاف تاريخية في مسار الصراع مع إسرائيل. ومخطئ من لا يرى أن ميزان القوى السياسي بعد الربيع العربي كان لمصلحة حماس والمقاومة الفلسطينية وأن المعركة المقبلة هي حول تصليب هذا الميزان الجديد وتحويله إلى واقع تاريخي دائم ومتطور.
إن كسر الحصار المفروض على غزة يفتح الطريق أمام مشاركة عربية أقوى في حماية خيارات الشعب الفلسطيني وفي حماية الأمن العربي الإقليمي وفي استعادة المبادرة العربية على الصعيد الدولي خصوصاً لجهة انتزاع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين في الأمم المتحدة (رغم أنف الإدارة الأميركية)، ثم في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تعيد توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنتاج إدارة سياسية فلسطينية جديدة تفتح شبابيك الأمل لشعب فلسطين ودولته العتيدة.
وبغض النظر عن الموقف من أنظمة ما يسمى بالاعتدال العربي فإن غزة قد فرضت أجندة أنظمة الربيع العربي على الجامعة العربية، وهذا ما حدا ببعض الدول إلى الغياب عن الاجتماع نفسه.
وكان واضحاً أن معركة غزة قد أبرزت دوراً أكبر لمصر خصوصاً ثم لتونس والمغرب وليبيا وإمكانية أقوى لإعادة بناء التضامن العربي على أسس جديدة تكون لمصلحة القضايا العربية العادلة ولمصلحة الديمقراطية والحرية والكرامة.
ولم تفلح محاولات البعض تصوير المعركة على أنها بين محور الممانعة من جهة وعملاء أميركا(دول الاعتدال) من جهة أخرى؛ ذلك أن ثورات الربيع العربي لم تعد تسمح بهذه البهلوانات الفارغة التي انتهت مدتها ومفاعيلها، والانقسامات السابقة على الربيع العربي قد صارت في خبر كان، والنظام العربي الجديد يعاد تشكيله بأيدي قوى شعبية جديدة هذه المرة.
أخيراً، فإن خطابات قادة حماس والجهاد أكدت على أن شعب فلسطين الذي لم ينس دور إيران وسورية وحزب الله في دعم حماس أيام الحصار، لم يقايض هذا التاريخ بحاضر الدعم الظالم للنظام المجرم في دمشق؛ فقد أوقفت إيران وسورية الدعم لحماس منذ أشهر ما يعني أن أولوية قضية فلسطين بالنسبة لهما لم تكن سوى أولوية حسابات خاصة وليس أولوية قضية عادلة.
إن تطورات الربيع العربي ووصول الحركة الإسلامية إلى السلطة في مصر وتونس والمغرب وسقوط النظام الليبي (أحد دعائم حلف ايران- سورية) وانتصار غزة، سيفتح الطريق أمام معادلة جديدة في العلاقات العربية-الإيرانية، وعلى الطرفين التعامل بواقعية وبمنظار مصالح شعوب المنطقة لبناء نظام إقليمي جديد قائم على التعاون المشترك والندية والاحترام المتبادل قبل أن تجرفنا العصبيات المذهبية.
المصدر: العصر، المختصر .