[كتاب] (فتح العليم الخبير في تهذيب النسب العَلَمي) بأمر السلطان سيدي محمد بن عبد الله
عبد السلام شقور
العدد 294 جمادى 1-جمادى 2/ نونبر-دجنبر 1992
كتب الأنساب من أهم المصادر التاريخية، هذا بالإضافة إلى ما تقدمه للباحث في المجال الأدبي من نصوص، وما تمتد به غير من المشتغلين بالتراث من الفوائـد.
وقد كثـرت عناية المغاربة بهذا الصنف من التآليف، وتجلى ذلك في القـرون الأخيرة، وواكب قيــام دول الشرفاء بالمغرب.
وهذا، ولعله قـد بات من المؤكد لدى الباحثين في تراث المغرب الأهمية المتزايـدة التي صارت لشرفـاء المغرب على جميع المستويات، وذلك ابتداء من العصـر المريني، ولم يكن ظهـور الأشراف كقوة سياسية إلا نتيجة طبيعية لذلك الـدور الذي كان لهم قبل السعديين، وفي أيام بني مرين خاصة.
ومن بين الشرفــاء الذين ظهروا على الواجهــة السياسية مع بداية دولة الشرفاء العلويين، الشرفـاء العلميون، فقد وجدناهــم يتصلون بالسلطان الأكبر المولى إسماعيل، ويحصلون على ظهائـر توقير منه لهم.
وفي تلك الفتـرة بالذات اتجهت العنايـة إلى تدوين أخبار الشرفــاء العلميين، وتم ذلك بأمر من ملوك الدولـة العلوية الشريفة.
ومما ظهــر في هذا الموضوع على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله كتابنا هــذا.
يعتبر كتاب «فتح العليم الخبير» من أهم المصادر المعتمـدة في دراسة «جبل العلـم» والمنطقة المحيطة به، إن لم يكـن أهمها على الإطلاق.
وهو في ذلك صنو «الروضـة المقصودة» لأبي الربيع سليمان الحـوات، فهذا وإن يكن موضوعه «مآثـر بني سودة» فإن فيه مما يخص «جبل العلم» ما ليس إلا في كتب أنســاب العلميين.
لقد اشتهر كتاب «فتح العليم الخبير» بعنوان آخر هـو:«ديوان ابن الصادق ابن ريسون» وابن الصادق مؤلفه، وكثيرا ما كانت كتب الأنساب تعرف بدواوين الأشراف.
ألف كتاب«فتح العليم الخبير» بأمر من السلطـان سيدي محمد بن عبد الله، عالم الملـوك، وملك العلماء، كما جــاء في ذيباجـة الكتاب، وبذلك اشتهـر بين المعنيين بتاريخه وتاريخ عصره.
ومما ورد في طالعــة الكتاب قول مؤلفه:
«... أمــا بعد، فإن من أعظم منن الله تعالى علينا، وجزيل إنعامـه وإحسانه إلينا، أن جعل إمامنا الأعظم، وملاذنــا الأفخم، من لب لباب الأشراف، ومعادن الجـود والعلم والحلم والإنصاف، سلسلة المجــد والحسب، المصوغة من نسل مولانا علي وفاطمــة رضي الله عنهما لا من الذهب... مولانا الإمام المظفر الهمام، عالم السلاطين: مولانــا محمد بن أمير المؤمنين مولانا عبد الله، بن أمير المؤمنين مولانا إسماعيل... ومما أمـر به مولانا الإمــام أبقاه الله عزا للإســلام، وإرهابا للكفـرة اللئام، أناله ما يرجــوه من نيل المنــى في الدنيا وفي دار السلام... اعتناء منه بالنسب العلمي الطاهـر، ومحافظة على مكانته وقدره الباهــر... ليعز ويعظم، ويجل ويحترم تقييـد جميع فـروع الشرفاء العلميين...».
وابن الصادق، مؤلف الكتــاب وهو من شيوخ العلم الذيـن نقل عنهم غر واحـد من المتأخرين المشتغلين بالأنسـاب، وهـو سليل الزاويـة الكائنـة «بتازرولت» مـن قبيلة «بني عـروس»، مـن «جبل العلم».
وقد وردت ترجمته في«الشِّــرْب المحتضر والسر المنتظر» للشيخ جعفر بن إدريس الكتاني كما يلي:
«... ومنهم: الفخـر العلامـة الصدر الفهامة، كريم الأخلاق، وطيب الأعــراق، الراوية الحجة في السلوك على طريق الصوفية: أبو عبد الله سيدي محمـد بن محمد الصادق. ابن ريسون الحسني، العلمي، اليونسي، توفي رحمه الله بوزان عام ستة وثلاثين مائة ألف».( 1)
وينتسب إلى بيته جماعة من الشيوخ، ذكر منهم الحوات: أبو الربيع سليمان هؤلاء:
ـ أبا الحسن علي بن ريسون ( 2)
ـ محمد بن علي بن ريسون ( 3)
ـ علي بن محمد بن علي بن ريسون ( 4)
وعن «تازرولت»، موطن المؤلف، قــال الحوات في«الروضة»:
«... قرية«تازرولت»، وهي إحــدى المداشر العلمية، وهي الآن زاويـة السادات أولاد ابن ريسون العلميين اليونسيين... »( 5)
وقد ظهــرت زاوية «تازورلت» على واجهــة الأحداث أيام السعديين، وكان لأبنائها مساهمــة في الحركة العلمية «بجبل العلم».(6 )
استهل ابن الصادق كتابه «فتح العليم الخبير» المحرر بأمـر من السلطان سيدي محمد بن عبد الله، والمرفوع إليه، بعد الحمــد، والصلاة على الرسول الأعظم، صلوات الله عليه، بالحديث عن نسب ملوك الدولة العلوية الشريفة، ووقف عنـد ذكره مولانا محمد بن مولانا حسن، القادم من «ينبع النخيل» عام 664، ليستطرد قائـدا: وذلك بعد وفاة العارف بالله القطب الجامع مولانــا أبي الحسن الشاذلـي بسبع سنين، ثم استرسل في رفع سيدي محمد بن عبد الله مرة ثانية بقصـد الإشارة إلى الصلة بين الشرفـاء العلويين والشـرفاء العلميين، حيث قال عــن ذكـره محمد المعروف بالنفس الزكية: وأشقاؤه مولانا إدريس الأكبـر ... ثم أثبت نظما لأحدهـم في نسب السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
ويفهم من كــلام المؤلف أنه كان وفـد إلى مكناس في زيارة للأشـراف العلميين، فلقي بها جماعــة منهم كانوا بحضور السلطان، ومما قاله في الموضع عقب ذكـر أسماء جماعة منهم:«... فانتفعنا ـ والحمد لله ـ في الحين بأخوتهــم، وامتلأت قلوبنا بمحبتهم، وكيف لا والمحبة بيننا وبينهم موروثــة عن الأسلاف، رضي الله عنهم، فقـد كان بين العلامـة القدوة سيدي عبد الله بن علي وبين العلامــة القطب الكامل ، ولي الله تعالى سيدي محمد بن علي بن ريسون الحسني العلمــي محبة راسخـة، ومودة خالصة، وقعت بينهما حين كانـا بفاس، حرسهـا الله، في طلب العلم بمدرسة العطارين حكاية مشهورة».
لقد أمـر السلطان سيدي محمد بن عبد الله المؤلف بأن يمكنه، فيما قال، من نسخة من «فتح العليم الخبير»، قال ابن الصادق:
«وأذن لنا سيدنا نصره الله، بل أمرنـا أن نمكنهم من نسخة من هـذا الديوان المبارك، حرصا منه ـ أدام الله ملكه، وأبد في الصالحات ذكره ـ على حفظ نسب آل بيت النبي عليه السلام، وصونه على أن يدخل فيه أحــد من العوام».
والظاهر من إشارات المؤلف أن التأليف وقع في مدينة مكناس.
لقد ذكـر المؤلف، كما رأينا، أن الغاية من تأليف الكتاب، حفظ نسب العلميين من أن يدخل فيه أحــد من العوام.
وبالرجوع إلى المرحلة التاريخية التي تم فيها التأليف نجد حرص كثيرين من الناس آنذاك على الانتساب إلى آل البيت، رغبة منهم في تحصيل الامتيازات التي كان يخولها «النسب الشريف» إلى صاحبه.
ومن المعروف تاريخيا أن طائفـة الشرفاء في المغرب ظلوا خلال مـدة غير قصيرة يعاملون معاملة خاصـة، فلا يؤدون مغرمــا، ولا يشاركون لا بأموالهم ولا بغير ذلك في القيام بأعباء الدولـة، ووظائف المخزن.
وكمـا كثر المتشرفون تضررت مصالح الدولة بفقدانها كثيرا من مصادر التموين.
ولذلك، فقـد صدر الأمر في أكثر من مناسبة، بالقيام بحصـر دقيق للشرفــاء، حتى لا يدخل في الشرفـاء غيرهم، وتكونت لهذه الغايـة لجان خاصة تقوم بالإحصــاء، وتمزق ما بأيدي الناس من وثائق زائفـة تذكر انتسابهم إلى آل البيت.( 7)
قسم ابن الصادق مؤلفه إلى ستة فصول:
الفصل الأول: فيما ينبغي أن يكون لأهل البيت النبوي من الغيرة على نسبهم.
الفصل الثاني: في بعض فضائـل بيت النبي رضي الله عنهم.
الفصل الثالث: في ذكـر الجد الأكبر أبي محمد مولانا عبد الله الكامل.
الفصل الرابع: في ذكـر بنيه رضي الله عنهم.
الفصل الخامس: في ذكــر بعض أخبار مولانا إدريس الأصغر.
الفصل السادس: في ذكـر بنيه وبعض أخبارهم.
وتتفاوت أهمية فصول الكتاب، فإذا كانــت مادة الفصلين الأول والثاني مما يستهل بها عدة مؤلفو كتب أنساب الشرفاء كتبهم، فإن في بقية الفصول فوائـد وإشارات جليلة، تفيد المؤرخ والباحث على العموم في التاريخ السياسي والأدبي للمغرب.
جرت عـادة مؤلفي هذا الضرب من التآليف على حشد الأبيات والأحاديث والآثار التي يرون فيهـا دعما لموقفهم، وتأييدا لعملهم.
وأقدم ما لدينا من ذلك صنيع ابن السكاك في كتابه: «نصح ملوك الإسلام بما يجب عليهم نحو آل البيت الكرام»، والكتاب، كما هــو معروف، ألف على عهد بني مرين، وبنو مرين هم من غير الأشراف، ولكنهم جعلوا من التقرب إليهم دعامــة لحكمهم.
ومن ثم، فإن خديم الشرفــاء في زمنهم: ابن السكاك، حشد كلما يستفاد منه في بيان فضل الشرفاء، وصار عمله فيما بعـد منهاجا يسير عليه المؤلفون في أنساب الشرفاء.
وعليه، فإن أهمية كتاب «فتح العليم الخبير» إنما يجب أن تلتمس في الفصول الأربعة الأخيرة، على أن ابن الصادق أورد في الفصل الثاني، وهو الخاص ببيان فضائل آل البيت، وحقهم على غيرهم، إشارات تــخص مؤلفات في موضوع كتابه، ونقولا عن بعضها.
فقد ذكـر كتاب: «جواهر العقدين في فضـل الشرفين»، شرف العلم الجلي، والنسب العلي، للإمـام جلال الدين الحسني السمهودي؛ والمفاضلـة بين شرف العلم وشرف النسب قديمــة.
وللمقري الجـد رأي معروف، ومـوقفه مـع أحـد شرفاء النسب في حضرة السلطان أبي عنان المريني مشهور.
والحق أن موضوع الشرف شغل كثيرا من اهتمام القدمــاء، فكتبوا عن الشرف من قبل الأم، ومن ذلك كتاب: «إسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم».
ولابن قنفذ كتاب ينتصر فيه للشرف من قبل الوالد.
وقد سقنــا هذه الإشارات بغرض بيان أهمية موضوع الشرف في كتاباتهم.
ومن إشارات المؤلف واستطراداته المفيدة في الفصل الثالث، ما ساقه من نصوص شعرية، منها أبيات لأبي العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي الفيلالي، ومنها أيضا إشارته إلى أبي عبد الله القصار، وإلى ابن عرضون وإلى قبيلة الأخماس وعالمها الأشهـر أبي الحسن علي بن عبد الحق الصغير، صاحب التقييد على المدونة.
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن كتاب: «الروضة المقصودة» يتضمن معلومات قيمة عن هـذه القبيلة، فقد ذكـر ابن الصادق في«ديوانه» بعض أعلامها، ومنهم: أبو عبد الله محمد الخمسي الزرويلي،( 8) وذلك في جملة أشياء تخـتص القبيلة المذكورة، منها ذكــره الأديب أبا الحسن علي مصباح، مؤلف: «أنس السمير في مهاجاة (كذا) الفرزدق وجرير».
وعن هــذا الكتاب يقول ابن الصادق:
«ورأيت أصل مبيضته بخطه، رحمه الله ، عند صاحبنا العلامـة الأريب القاضي الأديب أبي عبد الله سيدي محمد العربي المساري».
هــذا، والكتاب مشهور اليوم بين الدارسين بعنوان:«أنس المسيــر في نوادر الفرزدق وجرير».
ومن علماء القبيلة المذكورين عنده أيضا: الصوفي الكبير أبو عبد الله محمد ابن حيون، شارح الصلاة المشيشية، المتوفى في حدود الثمانين ومائة وألف بزاوية تازرولت العلمية، ومنهم أبو الجمـال يوسف بن الحسن الخمسي التليدي، وهـذا مـن رجــال التصـوف المشهورين، كانت تشد إلى زيارته الرحــال،( 9) وقد ولد بالأخماس، وفيها نشأ وعظم صيتـه، ودفن بها.
وهو من أعظـم تلامـذة القطب أبي محمد عبد الله الغزواني، وقد جاور بضريح المولى عبد السلام مــدة، فأقـام بمدشر تازرولت، وبقي مدة في «بني زكــار» تنيف على الثلاثين عامــا، ومنهم الشيخ يوسف بن حليمة، جد الأشراف أولاد ابن حليمة، أهل زاوية «أدياز»، و «أدياز» مدشر في سفح «جبل العلم»، لا يبعد عن ضريح المولي عبد السلام إلا نحو ميلين، وهذه الإشــارات ونظائرها كثيرة في كتابه، أي في «فتح العليم الخبير» لا توجد في غيره.
والظاهــر أن الحوات أفاد منه في كتابه: «الروضة».
وهكـذا يصح ما قلناه آنفا من أن كتب الأنساب تؤرخ لجهة من المغرب أهملها مؤرخو الأحداث السياسية.
وبعد استطرادات مفيدة يرجــع المؤلف إلى الغرض الذي من أجله حــرر كتابه فيقول:
«ولنرجع لما نحــن بصدده من الكلام على النسبة العلمية الطاهــرة الزكية، وغاية ما في هذه المنسبة العلمية أن«العلم» في ثم صـار علما بالغلبة على الجبل الذي كان مستوطنـا به القطب مولانا عبد السلام بن مشيش، ومات به، ودفــن في قنته، واستوطنــه الشرفاء الأدارسة من آبائه وأعمامه قبله... ».
وقد انتهى بنا البحث في أصل تسمية هــذا الجبل إلى أن تسميته «بجبل العلم» حديثة نسبيا، وهي لا تعــود إلى ما قبل القرن التاسع، وحتى نسبة الرجــال إلـى هذا الجبل حديثة لا تعود أيضا إلى ما قبل التاسع.
ففي «الـدرة» لابن القاضي ترجمة أحدهــم، نسبة إلى الجبل، وقد أتت النسبة عندهـم مرة أخـرى على هذا الشكل: «العلامــي» بدلا من «العلمي».
وقد وقفنا أخيرا على مصـدر، نظن أنهى يتضمن أقدم إشارة إلى هذا الجبل، والمقصود هو كتاب: «المقصد الشريـف» للبادسي( 10)، والبادسي يسميه «جبل بني عيسى»، وبنو عيسى شرفاء علميون ما يزالون في الجبـل إلى اليوم.
لقد وقف ابن زاكــور كذلك عند إسم الجبل، ولم يخرج عما هـو وارد في ديوان ابن الصادق.
وزاد ابن زاكــور، فتتبع أسماء المداشر الواقعة في«جبل العلم»، فرد كثيرا منها إلى أصول عربية.
ومن المعروف، أن ابن زاكــور قصد ضريح المولى عبد السلام، وأقام في الجبل، نظم شعرا في صاحب الضريح منه قوله: (الوافـر)
قصــدت ذراك يا نجـل الكــــرام * أمقتبـــس المنـى عبــــد السلام
قصـــدت حماك حامي مــن أتـاه * وقلبـــي بالتلهــف جــد حــام
قصدتـك يا إمــام النــاس فـــذا * لأكـرم فــي نداك بــلا زحــام
قصــدت محيــط بحرك وهـو طام * على حيـن احتــراقي مــــن أوام
فهـل في الكــأس، كأس الفضل فضل * يعــل القلـب مــن تلك المـــدام
وتنشي الفكـــر صـــورته فيبقـى * مـدى الدنيــا منير في الظــــلام
مــدام مـــا حواهـــا الدهر زق * ولــم يغلــق عليهـــا بالفــدام
يحــوز مــن انتشـى منها ثنــاء * ويوسم مــن صحــا منها بـذام(11 )
وتناول ابن زاكــور أسماء المواقـع «بجبل العلم» تحت فصل سماه «فصل في ضبط أسماء وقعت في نسبه الشريف ـ يعني نسب المولى عبد السلام ـ وتعريف ما ظننت أنه يفتقر للتعريف، علما مني أن ذلك من تشنيف الشريف»... ( 12)
ويتابع ابن الصادق حديثه عــن جد العلمين، فيقول:
«من لم يكن من ذريــة سيدي أبي بكر بن علي، الذي هــو جماع شعب العلميين بأسرهم فلا يقال فيه علمـي، وإن استوطـن العلم».
والمؤلف يستند في ذلك إلى جواب صدر عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن المسناوي، وكان سئل في الموضوع.
هـذا، وللشيخ المذكور تعليق مفيد على كتاب: «نصح ملوك الإسلام بما يجب عليهم نحو آل البيت الكرام»، وهو معدود في النسابين.
وأبو بكـر الذي ينتسب إليه العلميون مقبور في مدشر«عين الحديد» ببني عروس.
وعلى هــذا أجمع سائر الذين كتبوا في الموضوع.
والضريح، على أي حــال، معروف إلى اليوم هناك، أي بمدشـر«عين الحديد».
وأضرحــة أجداد الشرفاء العلميين موزعة بين مداشر القبيلة «قبيلة بني عروس»، ذكرهــا ابن الصادق، ومنها ضريح مشيش أو بشيش، بمدشر أغيل، وهذا المدشـر اندثر اليوم، وصار أطلالا، ومنها: ضريح «ســلام»، ولعل أصله عبد السلام على ما ذهب إلى ذلك ابن زاكــور في «الاستشفا»، وهو الذي خرج من فــاس«وتبوأ المحل الذي نشأ به نسله» من الشرفاء العلميين(13 ) وضريح «مزوار».
ومن المعروف أن إقامـة «نسل» العلميين «بجبل العلم» تعود إلى حدود القرن الرابع، وقد حافظــوا طوال حياتهم بالجبل على عادات ألفوهــا، ووصفها ابن زاكــور فقال:
«وكلهم أو غالبهم»، لا تجــد منهم من يقصر عن شأو البنين الأربعـة، خيار عامر بن صعصعة، فيما ينسب إليهم من الخصال الأربعــة، فيطمعون الجفان المدعدعــة، مع كون الأرض ليست بمزرعـة، وينعشون من عسكـر الدهـر وجاءه ومطعمعه.( 14)
ويتتبع ابن الصادق في كتابه «فتح العليم الخبير» فروع الشرفاء العلميين فرعا فرعا، فيسميهم واحدا واحــدا، ويعين أماكــن وجود كل فرع، معتمدا على تقاييد في الموضوع، منها تقييد للنسابة الحسين بن محمد بن علي بن ريسون العلمي.
فعن ابن مشيش يتفرع الشرفاء ثلاثة فروع كبــرى:
ـ أولاد سيدي موسى
ـ اولاد سيدي يملاح أو يملح
ـ أولاد سيدي عبد السلام.
والمتتبع للمؤلف في هذا القسم يقف على فوائـد جليلة تخص سكان«جبل العلم» وتحركاتهم، وهجراتهــم، وأسماء المواقع والمداشر بالجبل.
وقد أحصـى ابن زاكور المداشر التي يوجـد بها العلميون فوجدهــا اثنين وعشرين مدشرا، موزعة على قبائـل أربعة هي بنو ليث، وبنو يدير، وبنو عروس (كذا) وبنو يوسف، وقد أحاطت «بالجبل المبرور، إحاطـة الهالات بالبدور، واكتنفوه من جهاتــه اكتناف الظلمــات لمطلع النور» على أنــه ذهب إلى أن الجبل نفسه معدود من بلاد بني حسان، وهــذا يخالف ما هو معروف اليوم، في «بني عروس».
وإنـي لعلى يقين من أن الباحث سيقف في كتاب «فتح العليم الخبير» على أعــلام جغرافية وبشرية قلما يجدهــا في غيره، وذلك مثلا أسماء المداشر الآتية: طـردان، تزية، الحارش، الحصن، وهو المدشـر الذي أقام فيه السلطان المولى اليزيـد، وبني فيه قصره، وأطلال القصر ما تزال قائمــة، وحول القصر كتب الإسباني «فيكيراس» بحثــا طريفا نشر عام 1939، وتكزرت، وأفرنو: وهذا مدشـر كان الصوفي الكبير أحمد بن عجيبة يقيم فيه، أثنـاء رحلته العلمية، وذلك حسبما ورد في فهرسته، وتزية: «ومن هــذا المدشر المجاهد الكبير الذي قهـر الإسبان، ولم يتمكن لهــم من احتلال «جبل العلم» إلا بعــد قتله، وهو أحمــد التزوي، وضريحــه بجوا ر ضريح المولى عبد السلام»( 15).
ومن أسماء الأعلام التي تردد عنده في هــذا القسم: أولاد بن عبد الوهــاب، أولاد الصيد، أولاد اللهيوي، أولاد الطالب، أولاد شقــور: « ومنهم الشيخ الكبير النسابة أبو العباس سيدي أحمد ابن محمد بن محمد الطيب العلمي الموسوي الشقوري، قدم والده إلى فــاس، أخذ عن الحوات، وعن أحمد بن التاودي بن سودة، وتوفي رحمه الله عــام 1234»( 16) ومنهم أولاد مجاهـد، ويعتمد ابن الصادق، فيما يقول، على«صحــة الاستفاضة، وعدم الطعن، والروايات المتواترة».
وقد ندت عن المؤلف إشارة إلى «ديوان» للأشراف، وضع عـام 1134هـ، يظهــر أنه لا يوافق ما جاء فيه بخصوص العلميين، وقــد ذكرنا أن الناس تهافتوا على الانتساب إلى آل البيت، فكثرت الدواوين المتحولة، ورفع ذلك إلى السلطان الأكبر المولى إسماعيل، فصدر عنه الأمر بمراجعة تلك الدواوين، ثم تسرب الخلل إليها بعد موته، فكان أن أصدر السلطان سيدي محمد بن عبد الله أمره إلى خديمه أبن الصادق بوضع ديوان جديد، فكان هذا الديوان الذي نقدم مواده.
وليس غرضي هنا متابعة ابن الصادق، وإيراد سائر الفروع التي ساقها، فلذلك موضعه، وإنما قصدي عرض مواده في خطوطها الكبرى، ومقارنتها بما ورد منها في مصادر أخرى، وعليه أقول:
إن مؤلف «فتح العليم الخبير» يتفق فيما أورده بشكل عام مع غيره ممن عني بالشرفاء العلميين، ويزيد عليهم بإشاراته العديدة التي سبق أن أتينا على ذكر بعضها.
ومن ثم، فإنه يعتبر بحق من المصادر الهامة بالنسبة للباحث في التراث الغربي.
إن ابن الصادق، لما كان غرضه تقديم قائمة دقيقة بشرفاء «العلم» فإنه لم يقف عند حدود «جبل العلم»، بل ذكر العلميين الذين خرجوا من الجبل، وأقاموا في مدن أو جهات أخرى، فذكر الشرفاء العلميين في مراكش، وفاس، وشفشاون، ووقف طويلا مع شرفاء شفشاون، وسمى جماعة من أعلامهم، وفي ذلك كله مادة هامة تضاف إلى ما تقدمه كتب التراجم في مجال التاريخ للحياة العلمية.
هذا، ومعلوماته تتطابق مع ما نعرفه اليوم من أحوال الشرفاء بالعلم، وقد يستفاد من ذلك أن أحوال الجبل قد تعرف تغييرا يذكر.
ولكن، لا بد على أن حدود بعض القبائل المجاورة له قد تغيرت، وقد رأيناه داخل «بني حسان»، وهو اليوم في «بني عروس»، ومن قبيل ذلك أن مداشر كانت تعد من «بني يدير» هي الآن معدودة في «بني عروس». 17)
وقد استفدنا من الروايات الشفوية أن بداية هذا القرن شهدت صراعا عنيفا بين «بني عروس» و «بني يدير»حول مداشر تقع بين القبيلتين، هي أغبالو ،تلفتا.. وشارك في هذا الصراع المجاهد المذكور آنفا، ونعني به أحمد التزوي، وانتهى بضم تلك المداشر الى «بني عروس» بعد معارك ضارية، مازال صداها يتردد في الجبل بين الشيوخ الى اليوم.
واهتم ابن الصادق بابناء بيته، فذكر أعلام البيت الريسوني، من المذكورين الحسن بن محمد بن علي بن ريسون، قال:
إن له مؤلفات في السيرة النبوية، وفي مناقب والده وجده وعمه، وتأليفا في أنساب أهل البيت النبوي، ويظهر أن الكتاب الأخير واحد من عشرات الكتب التي ألفت في الشرفاء، وما أكثر ما ألف في الموضوع !
ختم ابن الصادق كتابه بقوله :
«هنا انتهى ـ والحمد لله ـ ما أردنا جمعه وتقييد بالأمر المولوي المطاع المؤيد بالله، من تقييد السادات الأشراف العلميين، وتقييد فروعهم ومساكنهم، في السابع عشر من ذي القعدة عام واحد وتسعين ومائة وألف».
هكذا ينتهي هـذا الديوان الخاص بتهذيــب النسب العالمي، الذي تم تحريره على ما ذكرانا بأمــر من السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
وعنــاية ملوك المغرب بالشرفاء قديمـة، فمن خلال رسالة لأبي القاسم الزياني( 18) يبدو أنه كان لشرفاء المغرب على عهــد المرابطين مزوار أو نقيب يرجعون إليه.
قال أبو القاسم الزياني: في رسالته المذكورة:«... وفسدت طريق النقابة، ويعني نقابة الأشراف، وكان منصبها في دولة بني أمية وبني العباس يعـدل منصب الوزارة، لا يتقلدهــا إلا العلماء العارفون... وكانت الأنساب محفوظــة من الدخلاء» ( 19).
ثم ذكــر أن النقباء كانوا يأخذون أجورهم من بيت المال، وأضــاف:
«وكذلك كان شأن النقابــة ... أيام لمثونة، والموحديــن، وفي مرين، والسعديين، إلى أن مات المنصور منهم، واشتغل أولاده بالحروب على الملك، فأهملوا أمر الأشراف والنقباء».(20 )
وما كــادت دعائم الدولــة العلوية الشريفة تتوطــد أيام المولى الرشيد حتى بادر السلطان الأعظم مولانــا إسماعيل ـ رحمه الله ـ إلى إعادة النظر في الأمر، فوجد أمر الأشـراف مختلا، وكادت الرعايا أن تصير كلها أشرافا، كمــا كان الأشراف يعفون من أداء الرسوم المخزنية.
وقد أدى ذلـك إلى إعادة النظر في تنظيم نقابات الأشراف، وتم تعيين لجان فـرز تميز الشرفاء من المتشرفين، وتوجهت لجنة إلى فاس، ومراكــش، ومكناس وغيرهــا
من الحواضـر، وكان يرأسها أحـد خدام الدولة، عبد القادر الشبيهي، ومهمتها اختبار ما بيد الناس من البينات، ووضع قوائـم جديدة، توضع نسخ منها ضمــن سجلات الدولـة الرسمية، وتسلم نسخة أخرى لنقيب الطائفــة، وكان لفاس نقيبها، ولمكناس نقيبها، ولمراكـش نقيبها، ولجبل العلم نقيبها، «وأكبـر النقباء هو الذي بجبل العلــم» على ما ذكـر الزياني.( 21)
وبذلك تبدو الأهميـة التي كانت لشرفاء العلم! والحق، أن صلات هؤلاء بملوك الدولـة العلوية الشريفة لم تنقطع حتــى إن «جبل العلم» تحول الى حاضرة من حواضر المغرب، وصار موطنــا للملوك كما هو معروف.
إن كتات ابن الصادق«فتح العليم الخبير» جاء ليهذب النسب العلمي كما ورد ذلك بلفـظ في عنوان: «فتح العليم الخبير في تهذيب النسب العلمي بأمر الأمير» وديوانه هذا، أو كتابه ينسخ ما في الديوان الذي كــأن حرر عام 1080هـ، إذ أن هـذا لا معــول عليه على ما ذكـر ابن الصادق.
ويستنتج مما سبق ما يلي:
ـ إن الأشراف في المغرب ظلوا بقرون عديدة أحد المرتكزات الأساسية التي كانت تقوم عليها الدول ويبني عليها الملك، ولذلك كان من الحكمة أن يوليهم السلطان سيدي محمد بن عبد الله عنايته.
ومن تتبع تاريخ الفترة التي حكم فيهــا السلطانان العظيمان المولى إسماعيل وسيدي محمد بن عبد الله، يجــد أن الشرفاء كانوا في عصريهما يمتلكون قوة معنويــة هامة، لها تأثير كبير على العامـة، وبذلك، فإنهــم كانوا عنصرا ضروريا من عناصر التوازن.
ولعل المولى إسماعيل وحفيده سيدي محمد بن عبد الله أرادا بتقريب الشرفاء مواجهــة الزوايا التي كانت تشوش على الدولة، بمالها من نفــوذ روحي في الوسط الاجتماعي آنذاك.
والزوايا الكبرى، مثـل الزاوية الناصرية، والزاوية الدلائيــة، إنما وصلت إلى وصلت إليه من نفوذ بسبب ما أدركه شيوخها من العلم والولايـة ولذلك، فلم تكن تستمد قوتها من النسب.
وهنا يجب أن نذكـر أن أقطاب هاتين الزاويتين وشيوخهما كلهم كانوا على صلة حميمة بالشرفاء العلميين، حتى إنك لا تجـد واحدا منهم لم يشد الرحال إلى «جبل العلم».
ونظرا لما سبق، فإن التحليل العلمي لتاريخ المغرب لا يمكن أن يفهم باستبعاد هــذه الطوائـف، أعني طوائف الشرفاء.
وأما الباحث في التراث الأدبي فإنــه واحد لدى أبناء الأشراف نصوصا لا يستغني عنها في دراسة الأدب المغربي.
ويكفي أن نشير هنــا إلى ما صدر عنهم، وإلى ما مدحــوا به، وما خصهم به غير واحد من ضروب التآليف.
وأخيرا، فإن في كتب أنساب الشرفاء استطرادات، كثيرا مــا تنفتح فيها الأبواب على مجالات عديدة، وفيما قدمنا من استطرادات ابن الصادق في «فتح العليم الخبير» صورة من ذلك.
هــذا، ولعلنا نكون قد نبهنا إلى أهيم هـذا الضرب من التأليف في يومنا هــذا، وعسى أن يشرع الباحثون في تحقيق نصوصها وإخراجها ودراستها، فتكون معينا للباحثين في التراث المغربي.
مصادر البحـــث:
* فتح العليم الخبير: لابن الصادق الريسوني / مخ.
* الروضة المقصودة: لأبي الربيع سليمان الحوات/ مخ
* رسالة في شرفاء المغرب: لأبي القاسم الزياني/ مخ
* الاستشفاء من الألم: لابن زاكـور الفاسي /مخ.
1) (الشرب المحتضر) ص: 10، وأنظره أيضا في (الروضة المقصودة) مخ: 298.
2) الروضة المقصودة: مخ / ص: 116، 221.
3) الروضة المقصودة: مخ / ص: 337، 363، 502.
4) الروضة المقصودة: مخ / ص: 354.
5) الروضة المقصودة: مخ/ ص: 281.
6) الحياة الفكرية: للدكتور محمد حجي/ ص: 464.
7) رسالة لابن القاسم الزياني في شرفاء المغرب، مخ/ بدون ترقيم.
8) الروضة المقصودة، ص: 504.
9) الروضة المقصودة: ص: 297.
10) نشر بتحقيق الباحث الكبير الأستاذ سعيد أحمد أعراب.
11) الاستشفاء من الألم: لابن زاكــور ـ مخ/ ورقة: 3.
12) الاستشفا من الألم: لابن زاكور ـ مخ/ ورقة 3.
13) الاستشفاء: مخ/ ورقة 5.
14) الاستشفاء: مخ/ ورقة 9.
15) يستحسن أن ينظر ما كتبه الباحث الأستاذ عزوز حكيم حول مولاي أحمد التزوي.
16) الشرب المحتضر: ص: 11.
( 17 بنظر في هذا الموضوع وثيقة هامة بحوزة الباحث الدكتور محمد بن عبود.
18) رسالة في شرفاء المغرب: مخ
19) نفسه.
20) نفسه.
(21 نفسـه.