الأدب أو الفن بلسم يجدي ولا يطلب منه أن يشفي,إنه يسكن ولا يبرىء.فالمرءبقراءته الشعر وسماع الموسيقا إنما تهدأ نفسه,ويرتاح خاطره,وتسكن هواجسه,وتخف تباريحه...
هذه هي وظيفة الفن إنها ضرب من التنفيس عن هموم الحياة,والتخفيف من وطأة الواقع,والسمو بالنفس إلى عالم علوي,عالم من صنع الخيال...
تساءل يوماً أرسطو عن سر ذهاب المرء إلى المسرح ورغبته في مشاهدة التراجيديا على الرغم مما تنطوي عليه هذه التراجيديا من أشجان وأحزان ..ثم قالهذا لعمري تساؤل وجيه,فلماذا يقصد الناس إلى مشاهدة تلك المآسي,ويدفعون المال في سبيل ذلك,ثم يخرجون وقد بلغ بهم التأثر مداه,حتى لقد يذرفون الدموع?)
وقد اهتدى أرسطو إلى حقيقة الحال,وعلل ذلك بأن الإنسان حين يرتاد المسرح وينفعل بمشاهده,ويتجاوب مع شخوصه وما ينطوون عليه من آلام وأحزان فإنه بذلك يود أن يؤكد إنسانيته وهذا ما عبر عنه أرسطو فيما يعرف في النقد الفني بعملية (التطهير).أي بفضل ذلك تتطهر النفوس من أدرانها,وتعمل على قهر أنانيتها,وإذ ذاك تزداد نفسه صفاء وسمواً وهذا هو أيضاًحال المؤمن في صيامه,وكلاهما يحرص على الخروج من حال الكمود الدوني إلى حال رفعة الذات وإغنائها كما يخرج الحديد من النار وقد طرد عنه الخبث وازداد مضاء.
وما الأثر الفني في أصله سوى لعبة ذهنية شعورية بارعة وراقية.ومن هنا سارت المقولة الشهيرة في النقد العربي (أعذب الشعر أكذبه),أي أحفله بالخيال,أو استشفاف ما وراءالواقع..ومن هنا أيضاًيتجلى كذب الأطفال الذي هوفي حقيقة نمط من الخيال,والأمثلة على ذلك كثيرة..مر أحد الكوفيين ببشار بن برد وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس فقاليا أبا معاذ من القائل:
في حلتي جسم فتى ناحل
لو هبت الريح به طاحا
وقد لا حظ أبو الطيب المتنبي شيوع هذا المفهوم الذي غدا من أهم تقاليد الشعر فقال:
إذا قيل شعر فالنسيب المقدم أكل فصيح قال شعراً متيم?
وفي مقابل هؤلاء يقول بول فاليري,الشاعر الفرنسيلست مجنوناً بالأدب,ولكن الإنسان إذا اشتغل به فلا ينبغي أن يمتدح بالصدق,فإتقان الصناعة قبل كل شيء.)
كان الصمم يقترب من أذني بيتهوفن حتى أغلق عليه منافذ السمع وحرمه من متعته الوحيدة,وهي تلك الأنغام التي يجد فيها عزاءه وسلواه ونعيمه.أما وقد أخذ منه القنوط مأخذه وغمره الأسى فليصدح إذن بالفرح الغامر,وليغن للناس نشيد البهجة العارمة,وليكتب آخر سيمفونية له ولتتألق البسمة من بين دموعه كالطير يرقص مذبوحاًمن الألم ...
وكما كان حال الشاعر بشار في حديثه عن هزال جسمه ونحوله وهو على نقيض ذلك,كان أيضاً حال الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي كتب عن القوة والبطش وأشاد بهما..وهو عليل...ومن هذا القبيل ألف روسو كتابه(إميل) في أصول تربية الابن وتنشئته,ولكنه أخفق في تحمل تبعة التربية تجاه أولاده...
ومن هنا كان الخلفاءوالأمراءالعرب يتقبلون قصائد الشعراءعلى تطرفها وتماديها ويتسامحون في كثير من أقوالهم وأفعالهم تأسيساًعلى أن أعذب الشعر أكذبه,وعلى ما جاء في القرآن الكريم أن الشعراء (يقولون ما لا يفعلون )..فكانوا يقبلونهم على علاتهم ولا يستثقلون مجلسهم والرسول محمد (ص) تقبل الغزل من فم الشاعر كعب بن زهير بل ألبسه بردته حين دخل عليه في مسجده وقد فرغ من صلاته.فأعلن كعب توبته وإسلامه ثم أنشده رائعته اللامية التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ومن هنا أيضاً لم يجد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ضيراًفي أن يستمع إلى شطط شاعره الأخطل مع صليبه ورائحة خمرته وكذلك أن يستجيب سيف الدولة لطلب شاعره أبي الطيب أن ينشده قاعداً مثله,نداً لند,خلافاً لمعهود إنشاد الشعراء لممدوحيهم.
ومن أبرز الأمثلة في صدد الصدق والكذب في الأدب ما ترويه كتب النقد الأدبي عند العرب,فالشاعر ابن حجاج,وهو تلميذ الشاعر ابن الرومي كان مقذعاً يجنح إلى الفحش في شعره يقول ياقوت في معجم الأدباء (لقد مدح ابن حجاج الملوك والأمراء والرؤساء فلم يخل شعره فيهم مع هيبة المقام من هزل وخلاعة,ولم يعدوه مع ذلك من الشناعة.وكان عندهم مقبولاًمسموعاً غالي المهر والسعر, كان يتحكم على الأكابر والرؤساء بخلاعته, ولا يحجب عن الامراء والوزراء مع سخافته, يستقبلونه بالبشاشة والاكرام, ويقابلون اساءته بالاحسان والانعام).
والشاعر ابن حجاج المعروف بأشعاره الماجنة له مع الوزير ذي الكفايتين حوار طريف فقد طلبه الوزير ورغب في مجالسته وحين أتاه خلا به قال له:
(لقد والله قد تهت عجباً منك, وكنت أفلي ديوانك فأتمنى لقاءك, وأقول من صاحب هذا الكلام (ويقصد كلامه الماجن) حتى شاهدتك الآن, فتهالكت على وقارك, وسكون أطرافك, وسكوت لفظك, وتناسب حركاتك, وفرط حيائك, وناضر ماء وجهك.. والله ما يصدق واحد أنك صاحب ديوانك, وأن ذلك الديوان هو لك, مع هذا التنافي الذي بين شعرك وبينك في جدك)..
وقد وعي ابن حجاج هو نفسه هذا التناقض الذي انطوى عليه بين سمته ووقاره وبين أقواله وأشعاره وهو القائل:
تراني ساكتاً, حانوت عطر
فإن أنشدت ثار لك الكنيف
على أن مقاييس النقاد كثيراً ما تغاير مقاييس الحكام, فالخليفة عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق قبله كان يفضل زهير بن أبي سلمى لأنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه, على حين شطب إبداع امرىء القيس, من منظور أخلاقي, وجعله حامل لواء الشعر إلى جهنم..
وثمة قصة طريفة في هذا الصدد مفادها أن الخليفة عمر بن الخطاب ولى النعمان بن عدي بن فضيلة على (ميسان) فبلغه عنه الشعر الذي قاله وهو:
ومن مبلغ الحسناء أن خليلها
بميسان يسقى من زجاج وحنتم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم
فكتب إليه الخليفة عمر:
(بسم الله الرحمن الرحيم (حم, تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم, غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير..),أما بعد فقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤه.. إلى آخر البيت, وأيم الله إنه ليسوؤني, فأقدم, فقد عزلتك).
-منقول-
عن جريدة الثورة
بتاريخ 10/06/2007
المقال للدكتور عمــر الدقاق