حكم طلب الشفاعة من الأموات
تنقسم الشفاعة إلى: شفاعة شرعية، وشفاعة بدعية شركية.
وطلب الشفاعة من الأموات من الشفاعة البدعية الشركية، ولها صور متعددة، ويختلف حكمها نظرًا لتعدد صورها، ويمكننا أن نقسِّم تلك الصور إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شفاعة شركية مخرجة من الملة بالإجماع:
وهي صرف نوع من أنواع العبادة للأموات؛ كأن يدعوهم، فيقول: يا فلان أغثني، أو انصرني، أو اغفر لي.
أو يذبح لهم، أو يسجد، أو غير ذلك، والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها:
قوله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].
وقوله: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2].
وقوله - سبحانه -: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
قال الإمام محمد بن عبدالوهَّاب - رحمه الله -:
"وأعظم ما أمر الله به التوحيد؛ وهو: إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك؛ وهو: دعوة غيره معه، والدليل قوله - تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36]"؛ [الأصول الثلاثة].
وقال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني - رحمه الله -:
"فإفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده..."، إلخ؛ [تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد].
وقال الشيخ سليمان العلوان - حفظه الله -:
"وطلب الحاجات من الموتى سواء كانوا أنبياء أو صالحين فضلاً عن غيرهم، وسؤالهم الشفاعة، وطلب الإعانة منهم، والاستعانة، والاستغاثة بهم، وسؤالهم غفران الذنوب، وتفريج الكروب - كل ذلك داخل في دعاء غير الله، وكله من الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة"؛ [القول الرشيد في حقيقة التوحيد].
القسم الثاني: شفاعة بدعية باتفاق العلماء:
لكن لا تصل إلى حد الشرك الأكبر، وإنما هي وسيلة إليه، ومن الشرك الأصغر، وهي أنواع:
1- دعاء الله عند القبور، والصلاة عندها؛ لأجل ما في البقعة من البركة:
بوَّب الإمام محمد بن عبدالوهَّاب - رحمه الله - في كتاب التوحيد بابًا بعنوان: "باب ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟".
ثم ساق - رحمه الله - الأدلة على تحريم ذلك؛ منها:
حديث عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خَشي - أو خُشي - أن يُتخذ مسجدًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"فحرَّم - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ قبورهم مساجد، بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد: لأجل صاحب القبر، ودعائه، والدعاء به، والدعاء عنده، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده؛ لئلا يُتَّخذ ذريعة إلى الشرك بالله، والفعل إذا كان يُفضِي إلى مفسدة، وليس فيه مصلحة راجحة يُنهى عنه"؛ [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة].
وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن بن حسن - رحمه الله - أن هذا مِن أعظم الوسائل إلى الشرك، وأن من غربة الإسلام أن الذي حذَّر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وقع، وفعله خلق كثير من المتأخرين، واعتقدوه من القربات، وهو من أعظم السيئات.
2- سؤال الله بجاه أصحاب القبور، بأن يقال: أسألك بحق فلان، أو بجاه فلان عندك، أو بحق الأنبياء.
هذا من الابتداع في الدين، ولم يكن معروفًا عند الصحابة، لا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعد وفاته، لا عند قبره، ولا غير قبره، وقد قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله -: إنه لا يجوز، وقالوا: لا يُسأل بمخلوق، وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإقسام على الله - تعالى - به، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة أو بالمشاعر، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى.
والثاني: السؤال به - أي: بذاته - فهذا يجوِّزه طائفة من الناس، والصحيح أنه لا يجوز؛ لعدم وجود الدليل الصحيح عليه، ولأن الصحابة لما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - توسَّلوا بالعباس - رضي الله عنه - وهذا يدل على أن التوسل المشروع هو التوسل بدعائه وشفاعته، لا السؤال بذاته؛ إذ لو كان هذا مشروعًا لم يعدل عمر والمهاجرون والأنصار عن السؤال بالرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى السؤال بالعباس - رضي الله عنه"؛ [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة].
ونقل الإمام الشوكاني إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على هذا، قال - رحمه الله -: "ولا يخفاك أنه قد ثبت التوسل به - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته، وثبت التوسل بغيره بعد موته، بإجماع الصحابة إجماعًا سكوتيًّا، لعدم إنكار أحد منهم على عمر - رضي الله عنه - في التوسل بالعباس - رضي الله عنه"؛ [الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد].
وقد ذكر الشيخ محي الدين البركوي (981هـ) - رحمه الله - جوابًا لطيفًا في هذه المسألة، قال:
"المقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له، والاستغفار لأجله، والشفاعة فيه، فإنا لما كنا وقفنا على جنازته ندعو له ولا ندعو به، ونشفع له ولا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى؛ لأنه في قبره بعد الدفن أشد احتياجًا إلى الدعاء منه على نعشه؛ فإنه حينئذٍ معرَّض للسؤال وغيره، وقد روى أبو داود عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنه - عليه السلام - كان إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه، وقال: ((استغفروا لأخيكم؛ فإنه الآن يسأل...))، ثم قال: "فهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل القبور بضعًا وعشرين سنة، وهذه سنة الخلفاء الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة والتابعين، فبدَّل أهل البدع والضلال قولاً غير الذين قيل لهم..."، إلخ؛ [زيارة القبور الشرعية والشركية].
القسم الثالث: اختلف فيه العلماء: هل هي شرك أكبر؟ أو بدعة ضلالة؟
"كما لو قال شخص: أنا لا أسأل الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أريد أن يقربني إلى الرب، وأن يشفع لي عند الرب، فلا أقول: يا رسول الله اغفر لي، أو اشفني، ولكن أقول: يا رسول الله، اشفع لي عند ربك، ويا رسول الله، سَل الله لي المغفرة، أو سَل الله لي الشفاء.
فبعض أهل العلم قال: هذا ليس بالشرك الأكبر، بل هو من البدع العظيمة، ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر؛ لأنه لم يسأل الميت، ولكن اعتقد أن هذا الميت حيٌّ في قبره، فأراد منه أن يسأل الله، ولم يسأله هو.
القول الثاني: أنه شرك أكبر؛ فإنه لا فرق بين كون المرء يسأل الميت ويطلب الحاجة منه، أو يطلب منه أن يقضي حاجته عند ربه، قال - تعالى -: ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ﴾ [فاطر: 14]، وقوله: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ﴾ [يونس: 106].
هل ينفع؟ لا يستطيع النفع.
هل يضر؟ لا يستطيع أن يملك ضرك.
﴿ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 106]؛ أي: المشركين.
وظاهر هذه الآية وما قبلها تفيد أن سؤال الأموات شرك أكبر، ولو قال: أنا ما أطلب منه، ولكن أطلب منه أن يشفع لي عند ربه، أو يسأل الله لي قضاء الحاجات وتفريج الملمات، ولو قلنا بأنه ليس بشرك أكبر، فهو من البدَع العظيمة، ومن الشرك الذي لا ينزل عن الشرك الأصغر.
ويجب إنكاره، والتغليظ فيه، وإعلام الناس بما أوجب الله عليهم، وتحذيرهم عما نهاهم الله عنه، فلا ينبغي الجهل بذلك"؛ [شرح تجريد التوحيد المفيد للعلوان].
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/4371...#ixzz8FwgP7Oys