قال محمود شاكر - رحمه الله-:
" وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعلن بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة. فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه (1)، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف:
وكان كذئب السوء لما رأى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال على الدم (2)
وقبيح بنا -نحن الشرقيين- أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضًا لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في حضارة غريبة عنه، ولا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتًا وإرهاقًا وغرورًا.
إن رؤوسًا من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوًّا في الأرض واستكبارًا، قاتَلهم الله أنَّى يؤفكون؟
إن الشرق لا يؤتى ولا يغلب إلّا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولًا قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقًا آخر، وقلوبًا انبتَّتْ من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقا محفوفًا بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضى به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت حوله."
إلى أن قال رحمه الله ص 208:
" وأخوف ما نخافه هو ما أوتى هؤلاء من الرفق واللين وحسن المجاملة، وأنهم قد أحكموا معرفة الأسباب التي بها يأخذون بأيدي الناس وعقولهم، وأنهم قد أوتوا نصيبًا من الصيت يتغلب بهم على ما يعترضهم أو يردهم، وأن الناس أسرع اتباعًا لما ألفوا وحنينًا إليه، وأن البلبلة التي تأتي مع الحروب وتمتد في أذيالها، تدع الناس حيرى غرقى يتلمسون في كل شيء شيئًا يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء، فما بد من أن تنجلي العمايات بعد عن الدنيا لتطبق علينا عماية مصفقة كالظلام المصمت. ويومئذ نرتدّ على أعقابنا حسرى عُناة كأسوأ ما مر بنا من زمن، وتضيع الفرصة السانحة ونحن غرقى في بحر طام قد نزح عنا شاطئه بعد الدنو.
"
************
(1) يقدع: يَكُفّ.
(2) هكذا رواه أستاذنا -رحمه الله-، والرواية المعروفة "وكُنْتَ كذئب"، والبيت للفرزدق، ديوانه: 749، وهو مرويّ هكذا أيضا في طبقات ابن سلام 1: 362، الأغاني 21: 306 (طبع الهيئة)، وستأتي هذه الرواية في مقال "لا تدابروا أيها الرجال"، ص: 360. وأحال على الشيء: أقبل، والذئب إذا رأى الدم على أخيه أقبل عليه يفترسه، ويترك عدوهما.
جمهرة مقالاته (1-205)
بترقيم الشاملة الحديثة