الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن مما راج وانتشر، لا سيما في وسائل التواصل، تلك الأصوات التي تدعو إلى التشكيك في السنة النبوية - في أصلها أو جزء منها-. بدعوى الاستغناء بالقرآن، أو لمخالفتها للعقل -زعموا-، واتهام نقلة السنة بالكذب والدس وغيرها...
وهؤلاء المشككون، وإن تستروا بالتنوير والحداثة أو بتعظيم القرآن الكريم تارة، فإنهم يجتمعون تحت مظلة تقديس العقل -والعقل منهم براء-.
إن من مقتضيات العقل السليم، والفهم القويم، الإقرار بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج المحدثين في نقلها، وذلك يتجلى في النقاط التالية:
النقطة الأولى: ضرورة وجود القدوة: قال الله تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فالله سبحانه أنزل الكتب، وبعث الرسل ليقتدي بهم الناس في إيمانهم، وعبادتهم، وسلوكهم... وهذا هو السنة. وقد تقرر عند العقلاء أن وجود الكتب لا يغني عن وجود المعلمين، فلو دعا أحد إلى غلق الجامعات والمدارس، والاستغناء بالكتب عن المعلمين، لعده الناس من المجانين.
النقطة الثانية: الفرق بين نظم القرآن والكلم النبوي: من تأمل في نصوص الكتاب والسنة ظهر له الفرق بينهما، وهذا الفرق يدل على التكامل، فما جاء في القرآن مجملا، فصلته السنة، والعكس، وليس يدلك على ذلك تفصيل الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرهن في السنة النبوية.
النقطة الثالثة: الاتفاق على الكذب مع اختلاف الأزمان والأمصار ممتنع عقلا: مما لا شك فيه أن أزهى عصور الإسلام هي القرون الأولى- عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- وهذه العصور هي التي بلغ فيها تطبيق الإسلام -من حسن الديانة والتعبد والصدق والأمانة- ذروته. فكيف يتصور عاقل أن يتفق الناس على الكذب على شخصية مقدسة مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة مثل تلك، مع اختلاف أزمانهم وبلدانهم؟
النقطة الرابعة: قبول خبر الصادق: لم يزل الناس يتناقلون الأخبار بينهم، ويقبلون أخبار الصادقين. فلو كانت كل الإخبار تُرد جملة، فما الفائدة من التفريق بين الصادق والكاذب، والأمين والخائن؟ وما الفرق بين الصدق والكذب؟
النقطة الخامسة: النقص وعدم الاكتمال: الناظر في كتب الفقهاء، يجد -ولا بد-، اجتهادهم في مسائل ليس فيها نص من القرآن أو السنة، أو استدلالهم في بعض المسائل بأحاديث ضعيفة السند. فلو كانت المسألة مبنية على الكذب، فما المانع من وضع أحاديث بأسانيد عالية، لسد الحاجة؟ وهل هذا إلا دليل على الصدق والأمانة؟
النقطة السادسة: ندرة الرواية عن كبار الصحابة: من احتياطات الكاذب أنه يلبس كذبه أجود ما يكون من المكر والتلبيس، فما الذي منع نقلة الحديث من رواية الحديث عن كبار الصحابة لا سيما الخلفاء الراشدين حتى يكون الإسناد عاليا يمررون به الكذب؟
النقطة السابعة: الاحتياط والتثبت: من قرأ في كتب الرجال، والجرح والتعديل، عرف أمانة القوم واحتياطهم للأحاديث النبوية، من تضعيف الآباء، والزهاد، والعباد الذين عُرفوا بسوء الحفظ والضبط.
النقطة الثامنة: الرواية عن المخالف: ليس شيء يدل على علو أخلاق الشخص أكثر من إنصافه للمخالف، وهذا يعرفه من اطلع على علم الحديث وطرق التمحيص، ومن الأمثلة ما يجده في الرواية عمن عندهم بدع وعرفوا بالصدق والثقة كبعض الخوارج، والشيعة، والقدرية.
هذه بعض الأدلة العقلية على ثبوت نقل السنة النبوية، ومما يجدر التنبيه إليه، أن السنة يُحتج على ثبوتها بالقرآن والإجماع والتواتر أيضا، والأدلة كثيرة ومتنوعة، وليست المسألة قائمة على العاطفة والتحيز كما يتصوره بعضهم.
والحمد لله رب العالمين.