بسم الله الرحمن الرحيم.
حكى لنا ذات يومٍ قسورة فقال:
لطالَما جال في صدري، ودار في فكري، أن أدبج لآل"الجلفة" حديثًا يذلل عن الضاد صعابه، ويميطُ عن بليغ الكلام نقابه، لأرشمَ فيه نتائج الأفكارِ، ولأوضحَ بعض خزائن الأسرار.
إلا أنه كان يحول بيني وبينه صروف الزمان، وخطوب الحدثان، حتى ابتليتُ وأنا في هذا العمر، بالارتحال من موطن إلى موطن لعلني أجد من الأثر.
وحين تذكرتُ ظعني لأماكن مغاني، وما ألفته فيها أشجاني.
فتأوهتُ تأوه الأواه، وكأن ما في صدري بلغ غايته ومنتهاه، عن مضارب الصفاء ما دهاها؟ ومرابع الأخاء والوفاء عساها تعود عساها.
كأني بها لم تدم لبانيها، وضاعت عن المرء أسمى معانيها.
كانت نعمان ونعم، وها هي جحيم ونقم.
وكل جوارحي تصول وتجول، ولسان حالي يلهج ويقول:
أيها الباكي على جور الزمن ** تندبُ الآثار أم تعني الدمن
ليس يغني الحزن في دفع الإحن ** أو يفيد الشجو في ردع الشجن
كان قوم أهلها أهل فطن ** يغنمون الدهر في حال حسن
جنة كانت وكانوا في منن ** وعيون الدهر عنهم في وسن.
فغدوا في الناس عنوان المحن ** وغدت آثار من فيها دمن
ثم رماني زماني للعيش مع بعض العباد، عطشى الأكباد، يحومون حول الكتاب، لا يهتدون إلى مورده سبيلا، ولا لجادة أثره دليلا.
وآخرون منحرفون عن السداد، وقد خاضوا في الحجة بلا إرشاد، فلم يهتدوا إلى فرائده برهانا، وزادوا في غيّهم طغيانا.
ومع ذلك حاولوا حل تراكيبه، والكشف عن نكت أساليبه، مكنبون في بحر العربية بشروحٍ، وأمثلها بمدخولٍ ومجروح.
فلا يرى العليل فيها شفاءً، ولا الغليل من رشفها رواءً، كسرابٍ يحسبه الظمآن ماءً.
حتى وقد أتخذوا بها مسارح أنظارهم،ومطارح أفكارهم.
ولسان حالي يقول لهم: إن كنتم من ذوي الألباب، عليكم ما جاء في الكتاب.
وإني لأراكم تنفخون بلا ضرام، وتتسمنون ذات أورام. تضيّعون الأعمار، ولا تستضيئون بالأنوار، وتحسبون أنكم تحسنون صنعا، أو تخيطون للفضل ذرعا
فلعمري ما أنتم إلاّ كباسط كفيه إلى ماءٍ،أو كنازحٍ من البئر بلا دلوٍ ولا رشاءٍ، أو كطالب الرقي إلى سماءٍ، فهل أدلكم إلى تجارة تنجيكم من شقاءٍ؟
حتى وأنهم في حيرة واضطراب، حين قالوا إن هذا لشيء عجاب.
ما سمعنا بهذا في الأولين، فآتِ بعلامة أو آية إن أنت من الصادقين.
حتى وإن أريتهم الآيات الكبرى، فهم تعوّدوا وكأنهم يمشون السرى.
ومع ذلك ظلت أعناقهم لما أكتب خاضعين، ثم أخذتهم العزة بالإثم وقالوا: ما هذا العلم وما هذا الحق المبين.
فهم في غيهم بماكثين
وكنتُ أظن أنني أنقذهم من الضلال، وأفيدهم بأجزل النوال، ليستظلوا بوارف العلم الظلال، بمعانٍ وعبارات موضحة بلا الإملال، وإشارات مؤنقة من غير الاخلال.
أشيد بها قواعد الفوائد، لأمهد فيها موائد العوائد، معرضًا عمّا لا طائل في ردّه، ولا حاصل في نقده. ومقتصرًا على تلخيص الصوابِ، وتمييز القشر من اللّباب.
هديّة مني إلى ذكي على الإنصاف طبعه، وعصم عن الاعتساف نفسه.
وقليل قاسم فإن أكثر منهم كما يرى، في لجاجهم يعودون القهقرى.
وهم على قلوبهم أكنة فلا يكادون يفقهون حديثا، ومع ذلك قد مكروا مكرًا خبيثا.
وهم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله، وينحرفون عن قسطاس الله وعدله.
فإذا جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به وأرادوه إخفاءً وتدليسًا، لأن كُبّارهم علموهم الخسة خسيسًا
و أنهم كحزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون. لأنهم في إضلال وتضليل الناس هم المفسدون.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، منك المبدأ وإليك المآب.
اللهم آمين.