رؤية نقدية لكتاب (تاريخ الماي إدريس ألومه وغزواته):
قد نتساءل هل يتمتّع هذا المؤرخ بجميع شروط المشاهدة العلمية؟ وهل هو في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة، وأن يدوّن ما شاهده في أثناء وقوع الحوادث المرويّة
وأن يوضح بجلاء طريقته في المشاهدة والتدوين؟
لقد ضمّن الإمام أحمد البرنوي في كتابه (تاريخ الماي إدريس) نبذاً ونوادر متفرقة عن السلطان إدريس ألومه، من بيئته ووسطه وظروفه الخارجية، وقام بتسجيل ما شاهده من غزوات الملك إدريس ألومه كما أشار إليه فيما نصّه:
(... ثم بعد فراغنا مما نحن بصدده؛ نكتب - إن شاء الله تعالى- ما يتعلّق بأمر بلدة كانم؛ مبوّباً له على حدته، على نحو ما رأينا)
Palmer، Preface، الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس..."، مطبعة الأميرية، كنو، 1932م ص 7.
كما أتاحت مكانة المؤلف أن يرى بنفسه ومن قريب كلّ ما كان في هذه الدولة من عوامل قوة أو انحلال وضعف.
لكن المؤرخ أو الراوي قد يشاهد ما يروي، لكنه يكون في مكان أو ظرف لا يتمكّن فيه من التدقيق في النظر والسمع، أو يشاهد ما يروي لكن ينقصه الاستعداد لفهـمه، أو يتأخر في التدوين فتخونه الذاكرة
وتؤثر فيه ظروف مستجدّة، فلا ينقل إلينا الخبر اليقين، وإذاً (الذكريات) التي لا تُدَوَّن إلا بعد مرور الزمن قد تكون من أضعف الروايات
رستم أسد، مصطلح التاريخ، ص 78.
ومن طريف ما يتضمنه التأليف اعتراف مؤلفه، الإمام أحمد البرنوي، بتأخره في تدوينه؛ أعنى بذلك أنه مع تمكنه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة
لم يكن يدوّن ما يشاهده في أثناء وقوع الحوادث التي رواها؛ كما فعله العلامة السودان الشيخ عبد الله بن محمد فودي في كتابه الشهير (تزيين الورقات) الذي يروى فيه حوادث في حركته الإصلاحية
مع أخيه الأكبر الشيخ عثمان بن محمد فودي، وعلى خلاف هذا فقد شاهد الإمام أحمد البرنوي الغزوات لكن يبدو أنه تأخر في التدوين.
وهذا التأخر قد يؤدي إلى بعض التساهل الملاحظ في الرواية، كأن تتعلّق روايته بحقيقة عامة تشمل عدداً كبيراً من النفوس أو عدداً من البلدان؛ مما لا يتيسر لفرد واحد مثله الإحاطة الشاملة
به والتدقيق فيه على وجهه الأشمل، فكان في روايته كلام إجمالي عن بعض حقائق تاريخية، وكذلك تعميم في المعنى مما يستوجب الانتباه والتأني.
قال الإمام أحمد في سرده لبعض غزوات الملك إدريس: (وأين أنتم مما فعله مع قبيلة سوى ممتثلاً لما أمر الله -تعالى- من قتال الكفار الذين كانوا أعادي المسلمين والغلظة عليهم
ومما فعله أيضاً مع أهل البلد أمسكا، وقد قيل إن هذه الشوكية حصرت قبل شوكيتنا التي حضرها السلطان علي بن أحمد، ومما فعله مع أهل كنه حين بنوا في أرضهم الشوكية الكثيرة قاصدين خيانة أرض برنوح،
كانوا يغيرون عليها وينهبون ما أصابوا، ويفرون إلى شوكياتهم وحصونهم)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس..."، ص 4.
وقد أهمل الإمام أحمد هنا ربط الأسباب بالمسببات، أو بعبارة أخرى ربط الأحداث والوقائع بنتائجها؛ إذ لم يذكر سبب قتال بلدة أمسكا، كما لا يذكر آثار تلك الغزوة التي وقعت بين الملك وأهل البلد المذكور.
ومن المستحسن أن تتحلى رواية المؤرخ بالوضوح، خاصة عند ذكر بعض الوقائع المهمة، وهذا ما اهتم به منهج تدوين التاريخ الحديث، الذي يهدف إلى إعادة تشكيل الحوادث التاريخية ودراستها
بغية وضع روايات تعتمد على الدقّة في مضمونها وسردها، فالمؤرخ ينبغي له أن يجتهد في التحقق من الوقائع، ويسأل كيف حدثت
Schlozer, “On Historiography”.
ولِـمَ، ويفتش عما فيها من حقائق.
ومن الصعب أن يسجل المؤرخ كلّ ما حدث، وليس من الواجب أو من الممكن أن تكون الحوادث كلها جديرة بالتدوين، وبالرغم من ذلك يمكن لمؤرخ أن ينهج هذا المنهج في تدوين التاريخ
ويختار من المعلومات الكثيرة المتوفرة لديه، خصوصاً التي تتطلبها حقائق تاريخية، وذلك مع مراعاة الدقّة والوضوح وصحّة الأخبار
Osokoya, O.O. “Writing & Teaching History: A Guide to Advanced Study”, Ibadan، Laurel Education Publishers, 1996, p. 23
وهذا ما نراه لدى الإمام أحمد بن فرتوا حين يستغرق في وصف المعارك التي اندلعت بين الملك إدريس وجيوش المسلمين وبين الكفار المشركين في المملكة وخارجها، أو وصف بعض حروبه في المملكة ضدّ بعض القبائل
أمثال قبيلة سو So وقبيلة بلالاBulala، ومن هذا على سبيل المثال وصفه لحرب قبيلة سوغفتا: (لما أن قصد حرب الأعداء من قبيلة سوغفتا
وأراد إهلاكهم وتدميرهم؛ بنى المدينة الكبيرة بحذاء بلد دمسكه، وأمر فيها شطيمه...
وجعل للمدينة أربعة أبواب، وأقام على كل باب حاجباً، وأسكن بها جنوداً من عساكره
وأمر كلّ من له قوة ومنعة من عماله أن يبنوا دياراً ويسكنوا فيها... لطلب الأعداء، مصرّين على هذا الحال، إلى أن قدّر الله – تعالى - خراب مصرهم
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس..."، ص 8 وما بعدها.
هكذا لم يهمل المؤلف شيئاً يتّصل بما يصفه؛ بالمقدار الذي يقتضيه المقام، وتتسع له الصفحات.
ومن الجدير بالذكر أن تدوين تاريخ، كالذي نحن بصدده، ينبغي له أن يسجل الحوادث بهدف إفادة الناس، لا بهدف المتعة والترويح عن النفس برواية قصة أو حكاية أسطورية وغير ذلك، كبعض المؤرخين مثل هيرودوت.
وعلى جانب آخر؛ نلاحظ إكثار الإمام أحمد البرنوي من السجع والعبارات الأدبية والاقتباسات، والحق أن المؤلف لا بأس بقلمه؛ إلا أن تدوين التاريخ الذي يقوم به لا يحتاج إلى الإكثار من المحسنات اللفظية والاقتباسات والتكلف فيهما.
لكنه على الرغم من ذلك أجاد في تعبيره وأفاد، وهو ما يشهد لسعة علمه وتمكنه من القواعد اللغوية العربية، ونحن نقدّر نضج نتاجه الأدبي والعلمي وتمكنه من قواعد اللغة،
ومن أمثلة عباراته واقتباساته: (أعمل فكره في سياسته)، (قطع دابر القوم الذين ظلموا)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس..."، ص 8 وما بعدها.ص 9.
(ضدّ الكافرين والمشركين الذين لا يتناهون عن سبي مسلمي المملكة، والإفساد فيها، ولا يفترون عن فعل القبائح...).
ويقوم الاتجاه الأدبي النيجيري في هذه المنطقة وما جاورها من بلاد إفريقيا الغربية، على الأسلوب الديني، مع التأثر بالصبغة الصوفية، والاعتماد على الصناعات اللفظية التحريرية
الألوري، آدم عبد الله، مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية، بدون تاريخ، ص 5.
والتعرف إلى أدب العصر الذي عاش فيه المؤرخ، والاطلاع على بدائعه وروائعه؛ تفيد في معرفة المثل العليا التي أثرت في أسلوبه، وتيسر فهم روايات المؤرخ وتقديرها حق قدرها.
وإذا كان أسلوب المؤلف هنا أدبياً، يعتمد على الألفاظ والتراكيب البلاغية للتأثير في النفس؛ فإن ذوقه الفنيّ هذا لا يمنعه أن يتّفـق مع الحقيقة، ويستطيع المؤرخ إذا
جمع إلى دقة رواياته التاريخية للأحداث بلاغة الأسلوب ودقّـة الألفاظ، أن يبلغ القمّة في أداء مهمّته التاريخية
الفلاني، آدم يحيى عبد الرحمن، "مع المؤرخين في بلاد يوربا..."، ص 157.
ونأتي إلى جانب آخر من جوانب نقد هذا الكتاب، وهو المعاصرة بين المؤلف والمترجم له، فالمعاصرة تحقق شيئين اثنين، كما يرى بعض المفكرين
وهما الوقوف على إنصاف المؤرخ وعدالته في جانب، والكشف عن جور المؤرخ وظلمه في جانب آخر
الفلاني، آدم يحيى عبد الرحمن، "مع المؤرخين في بلاد يوربا..."، ص 44.
يمكننا أن نفهم في طيات هذه الفكرة السديدة؛ أن المؤرخ الذي عاصر الشخصية أو الحادثة؛ يستطيع أن يسوق روايته دون تحيّز أو تعصب، كما يمكنه أن يصور لنا أخباراً غير صادقة؛
حتى لا نستطيع أن نميّز بين الأخبار الصحيحة والأخبار الكاذبة، ويشبه هذا البيانات السياسية الرسمية، والتي تنشرها بعض الحكومات عن شخصية ما أو حادثة، فقد تصدق فيما تنشر، أو تكذب، أو لا تنشر كل الحقيقة.
ولا نجانب الصواب إذا عددنا كتاب الإمام أحمد نوعاً من الترجمة الشخصية الأدبية، والدافع لهذا الحكم هو وجود (المعاصرة)، فالإمام أحمد البرنوي كان يعاصر الملك إدريس
وقد صاحب تلك المعاصرة قيام صلة وعلاقة جيدة بينهما، أدت إلى توافقهما وتعمير صدورهما بالصداقة والمودّة، كما هو ظاهر في موقفه في إخباره عن الملك إدريس ألومه، وستأتي أمثلة لذلك.
وإن سأل سائل إذا كان الأمر هكذا؛ فهل أخبار الإمام أحمد البرنوي صحيحة أو رديئة؟ ثابتة أو مزورة؟ والجواب أن أسلوب المؤرخ يخالجنا فيه الشك والظنّ إلى حدّ ما.
وبالرغم من ذلك، فلا شك أن المعلومات الواردة في الكتاب تاريخ الماي إدريس للمؤرخ الإمام أحمد قد سلّطت الأضواء على تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى
خصوصاً شمال نيجيريا حالياً، فإذا هي تبدّد كل ظلام فيه، ويكفي أن المؤلف من الذين شاركوا في بعض أحداث المملكة
فقد سار مع الملك في كل جهة، وفي غزواته التي يروي عنها، ورأى سفينة هذه المملكة وما كان يتجاذبها من عواصف من كل جانب، من الداخل والخارج.
ومن الملاحظات النقدية المهمة أيضاً؛ كثرة ترديد الإمام أحمد البرنوي لعبارات التودد للسلطان إدريس، فقد تضمّن الكتاب الشيء الكثير منها ومن عبارات تقديم الإخلاص والمحبة للملك
لكن من المهم أن نشير إلى احتمال قبول هذا التودد لذوي السلطان في عرف الناس حينذاك؛ إذ كان ذلك من عادات الناس في العصور الوسطى وأعرافهم
وهذا لا يعنى أن المؤلف والمؤرخ لا يكون مخلصاً فيما يرويه، لكن مثل هذا التقرب قد يؤدي إلى الانزلاق العاطفي.
وفي جانب آخر؛ نلاحظ الثناء المبالغ فيه للملك إدريس ألومه، والتنويه به في كل رواية، فقـد تحدث المؤلف عن عجزه عن استقصاء أوصاف المترجم له الكثيرة ومناقبه الغزيرة، وأنه إذا اجتمع عدد غفير من العالمين
على ذكر تلك الأوصاف لا يقدرون على ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً! وتحدّث عن ذلك قائلاً: (لا نطيق نحن بذكر أوصافه الكثيرة ومناقبه الغزيرة، ولو اجتهدنا فيه اجتهاداً شديداً لما أتينا بعُشْرِها.
.. ولو أن جماعة العالمين الوافرين اجتمعوا على ذكرها لم يقدروا عليه)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس وغزواته..." مطبعة الأميرية، كنو، 1932، ص 3.
وقال أيضاً: (إننا أظهرنا إليكم عجزنا وبينا لكم قصورنا عن استقصاء أفعال سلطاننا التي أبداها في إمارته برسم الأقلام وتحريك البنان، وكيف
يمكن ويسهل لنا ذلك مع استعماله بأكثر ما في الكتاب والسنّة من خصائل الجهاد في سبيل الله قاصداً وجهه الكريم وثوابه الجسيم، ولذلك قصرنا ذكر غزواته كلها على ما وصفنا في هذا التصنيف فقط)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس وغزواته..." مطبعة الأميرية، كنو، 1932، ص 6.
ويأخذ المؤلف في سرد طائفة من أوصاف المترجم له الملك إدريس ألومه، حتى يبلغ هذا الوصف مبلغ التقديس والتبجيل، ويستهلّ الإمام أحمد البرنوي بثناء الملك فيقول: (هو الملك الفقيه العادل
التقي الزاهد الورع الوفي الشجاع الحاج إدريس بن علي... بارك الله في خلفه بركةً عظيمةً)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس وغزواته..." مطبعة الأميرية، كنو، 1932، ص 2.
ولا شك أن في الإكثار من وصف المترجم له نوعاً من التأثر العاطفي
أو أقول بعبارة أخرى الانزلاق العاطفي، الذي يمكن أن يؤدي إلى التعصّب الذي لا يستطيع معه المؤرخ أن يروي أخلاق المترجم له الذميمة إن وُجدت، كما سيأتي بيانه.
وقد يرجع سبب مبالغة الإمام أحمد في الثناء على الملك إدريس إلى تأثره بأسلوب التراجم الصوفية؛ والإمام أحمد البرنوي، الذي كان لا يزال في خدمة الدولة
وفي قائمة الموظفين في المملكة، وخاصة في البلاط الملكي، كان ينظر إلى الملك كشيخ له ومربٍّ.
وأهمّ ما يميّز التراجم الصوفية تصوير سلوك شيوخهم، والتركيز على كثير من تجاربهم التي قد تُعدّ في جوانب منها غريبة، وخاصة حين يتحدّثون عن سيرتهم، ويعرضون كراماتهم ومكاشفاتهم وما عرض لهم من الأحوال
ولا يرون بأساً في الثناء عليهم، وقد اصطبغ كثير من النتاج الأدبي في هذه الديار بهذا اللون من الأسلوب.
وقد يكون السبب أنه كان يؤرخ لملك، وأمير للمؤمنين، وهو ما يستحق من أجله التقديس والتبجيل في المملكة، والتنويه به في كل رواية، لكن هذه المبالغة في التنويه غير مقبولة
في تدوين التاريخ؛ لأن التاريخ أمانة في عنق المؤرخ، ويجب أن يؤديه بصدق وأمانة وإخلاص، كما يجب أن يستوفى المؤرخ شروط التاريخ ومنهج تدوينه.
وإذا كان الإمام بالغ في وصفه للملك إدريس، ورأى أنه بذلك قد يسرّ الملك ويحظى عنده بالقبول والتقدير
فإنه بذلك يكون قد أخفق في مراعاة شروط كتابة التاريخ؛ إذ يمكن أن يشوب روايته شيء من الزيف والبهتان، يؤدي إلى التباس الأمور، وصعوبة الكشف عن الحقائق التاريخية.
كذلك نلاحظ وجود تحيّز أو تعصّب لدى الإمام أحمد البرنوي للسلطان الذي يؤرخ له، فهو يُخبر عن محاسنه دون أخلاقه الذميـمة؛ كما يرى المؤرخ هنويك
Hunwick، John “Source Materials for the History of Songhay، Borno، & Hausaland in the 16th C.” Research Notes، in JHSN, Vol.iii، No. 3, 1974, p. 585 .
ويبدو أن الإمام أحمد كان متحيزاً للسلطان في تاريخه، فاضطر، عن قصد أو غير قصد، أن ينظر إلى الملك إدريس بعين الرضا لانتمائه إليه، وهذا المنزلق قديم العهد في مهنة التأريخ، وقد أشار إليه المؤرخون قديماً
رستم أسد، مصطلح التاريخ، المكتبة العصرية، 2002، ص 74.
ومنهم العلامة ابن خلدون؛ إذ رأى أنه من الأخطاء التي تعرض للمؤرخين، وتتسرّب إلى الرواية التاريخية، وذكر أن التشيّعات تغطّي على عين بصيرة المؤرخ، فتحجبه عن الانتقاد والتمحيص، فيقع في رواية كاذبة
ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة تاريخ العبر، طبعة دار النشر، ص 4.
لكن قد يتمكن المؤرخ، مع تعاطفه وميله لفئة أو حاكم ما، من أن يكون متوازناً في رواياته، مثل المؤرخ الأخلاقي مسكويه، وهو من رجال القرن الخامس الهجري
فقد كان متصلاً ببني بويه، وهم ملوك الدنيا في زمانهم، ولكنّ ذلك لم يمنعه من أن ينتقد بعض أعمالهم في رواياته عنهم، ويعلّق على بعض تصرفاتهم
عبد الغني، حسن محمد، علم التاريخ عند العرب، مطبعة التقدم - مصر، ص 116.
ومما يؤخذ على هذا كتاب الإمام أحمد البرنوي أيضاً؛ رفعه لنسب الملك إدريس ألومه إلى قبيلة قريش، فهو ينسبه إلى نسل أمي بن عبد الجليل من سلالة سيف بن ذي يزن إلى قبيلة قريش،
فقد قال الإمام أحمد البرنوي في ذلك: (وهو الملك الفقيه العادل التقي الزاهد الورع الوفي...
الحاج إدريس بن علي... من نسل أمي بن عبد الجليل من سلالة سيف بن ذي يزن، ومن مصاص قريش، ومن منح حمير، بارك الله في خلفه بركةً عظيمةً)
الإمام أحمد البرنوي، "تاريخ الماي إدريس ..."، ص 2.
وإذا كان من الممكن أن يوفـق المؤرخ أحمد البرنوي إلى الصواب برفع نسب الملك إلى نسل أمي بن عبد الجليل إلى سلالة سيف بن ذي يزن؛ فإنه قد أخطأ حينما
ذكر في كتابه أن سيف بن ذي يزن من مصاص قريش، والحق إن سيف بن ذي يزن من أبطال العرب وهو من سلالة حمير في اليمن
Paret, R. Siirat Ibn Dhi Yazan, Borno Sahara & Sudan Series، 2006، p. 113 .
جنوب الجزيرة العربية، فإن ما يمتدّ من الحجاز إلى الجنوب يُسمى اليمن، وكان سكانها شعب قحطان، وكانت لهم فيها عمارة عظيمة وحضارة زاهرة، بينما كان سكان الحجاز هم الشعب العدناني، وقد أقامت بطون قريش في مكة
وضواحيها، ونظراً لبعد المسافة الجغرافية بين هذين الشعبين المذكورين؛ فمن المستبعد وجود علاقة واتصال نسبِيّ بينهما.
وقد انتقد القلقشندي هذا الربط بين ابن ذي يزن وقريش في كتابه صبح الأعشى، حيث شكك في صحّة هذا الانتساب القرشي الذي ذهب إليه المؤرخ أحمد بن فرتوا، وذكر أن قصة النسبة القرشية خرافة
قال القلقشندي معلّقاً على هذا الادعاء السيفي القرشي: (إلا أنه لم يحقق النسب، فذكر أنه من قريش، وهو غلط، فإن سيف بن ذي يزن من أعقاب تبابعة اليمن من حمير)
القلقشندي، أحمد، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ج 5، ص 279.