لم يصح حديث في نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأة ثم إتيانه أهله
السؤال:
سمعت قصة على النت من مدة قريبة ، وهذه القصة تكاد تفقدني إيماني ، سمعت حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال : "
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه , فدخل , ثم خرج وقد اغتسل , فقلنا : يا رسول الله ! قد كان شيء ؟ قال : ( أجل , مرت بي فلانة , فوقع في قلبي شهوة النساء
, فأتيت بعض أزواجي , فأصبتها , فكذلك فافعلوا ، فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال ) . في " السلسلة الصحيحية " (رقم/441).
فهل هذا الحديث صحيح أم ماذا ؟
وإن كان صحيحا فكيف نظر رسول الله إليها نظرة شهوة وهو أعف إنسان خُلق ؟
والله حرم علينا النظر إلى النساء نظرة شهوة ؛ لأن بذلك نزني بأعيننا ، أرجوك أريد الإجابه بأسرع وقت ممكن ، أكاد أفقد إيماني .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
من أهم المزالق الفكرية التي يقع بها كثير من الناس ، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ، اتخاذ الروايات التاريخية وأفراد الأحداث والمواقف منطلقا لقرار اعتقادي ومبدئي
فكثير من المرويات – رغم صحتها وثبوتها – حوادث أعيان ، تتطرق إليها الكثير من الاحتمالات ، وتتعرض للعديد من صور تصرف الرواة ، وتعتريها أنواع الخلل في المتن والإسناد
فضلا عن أن عدم استحضار الظرف الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي للرواية تترك الناظر فيها في حيرة ، ويصبح معها في اضطراب
فلا يهتدي إلى وجهها السليم ، بل لو استحضر ذلك الظرف ولكنه لم يعايشه ولم يخالطه ، فستكون قدرته على استيعاب وجه الرواية ضعيفة أيضا .
فإياك أخانا السائل أن تقع في هذا المزلق الخطير ، فالعقائد والمبادئ لا تبنى إلا على أركان صحيحة ، وأسس متينة ، تتمثل في المحكمات والثوابت التي تعبر عن الرسالة السامية
وعن الأفكار الجليلة التي تؤمن بها ، أما بعض الحوادث وأفراد الروايات : فإنما تنظر بقدرها في الميزان الشرعي ؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا .
ولو تأملت حولك قليلا لعرفت خطورة هذا المزلق في التفكير ، أرأيت لو أن عاقلا سئل لماذا ترفض فكرة الرأسمالية مثلا ، فأجابك بأن السبب هو تعثر أحد البنوك في السبعينيات من القرن العشرين
هل سيكون جوابه مقنعا ! ولو أن عاقلا سئل عن رأيه بشخصية مفكرة عالمية ، فأجاب بعدم اقتناعه به لأنه تخاصم ذات مرة مع أحد أصدقائه مثلا ، فهل تراه أجاب بتفكير سليم ! ومنهجية مقنعة .
وهكذا لو رحت تسلم عقلك إلى بعض القصص – الثابتة أو غير الثابتة – لعرَّضت نفسك إلى الاضطراب وعدم الاتزان بالأحكام ، ولكن الواجب دائما العناية بالمبادئ والثوابت الكبرى
التي تحدد معالم الدين ، ثم تترك بقية التفاصيل لاجتهاد العلماء ، وأصول النقد والتمحيص .
ومن هنا نقول في الجواب عن القصة الواردة في السؤال ، إن كثيرا من التساؤلات ترد لفهم السياق الذي وقعت فيه - على فرض ثبوتها - ومن ذلك أن يقال :
ألا يحتمل أن نظرة النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة كانت هي النظرة الأولى ! أليس من الطبيعي أن يستغني الإنسان بالحلال عن الحرام إذا وجد في نفسه الرغبة بالنساء
! ومن أين لقارئ الحادثة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتهى تلك المرأة ... ؟!
لماذا نحمل القصة ما لا تحتمل ، ونخرجها عن سياقها الطبيعي المقبول ؟! فهو عليه الصلاة والسلام بشر من بني آدم ، يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق ، وينام ويستيقظ ، ويتزوج النساء ، وأنجب الأبناء ، فكيف كان من المستنكر أن تقع عينه من غير قصد على إحدى النساء
فيلجأ إلى ما أحل الله له من أزواجه ، ليرشد أمته من بعده إلى أفضل وسيلة لعلاج الحرام ، وقطع طريق الشيطان ، وصيانة النفس نحو العفة والطهارة ؟!
لا ؛ بل لماذا لا نفهم القصة بفهمها اللائق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما يدل على فضله وشرفه ، وعلو قدره اللائق به ؛ إن الثوب الأبيض الناصع : تظهر فيه أدنى نقطة من سواد ، والمرآة المصقولة اللامعة
يبدو فيها أدنى غبش ، وأيسر غبار ؛ وأما الثوب الأسود ، والمرآة الفاسدة ، فلا يكاد يظهر فيها شيء ، لقد اعتاد على ذلك الأذى والسواد !!
أفهمت الآن يا عبد الله ، أن هذه القصة - لو صحت - هي من مناقب النبي صلى الله عليه وسلم ، ودلائل علو قدره ؛ إن من اعتاد النظر إلى النساء والجري وراء الشهوة المحرمة
لم يظهر فيه شيء من أثر ذلك الموقف العابر ، ولا أضعافه ، ولو جلست المرأة بجواره على الكرسي في السيارة ، لم يبال ، ولم يشعر بشيء من أثر ذلك في قلبه
وبعضهم لو ابتلي بالزنا صراحة ، ما تألم لسواد قلبه ، وما وجد ثقل الران على فؤاده !!
لماذا لا تفهم تلك الأنفة والتنزه : أن يظهر أدنى سواد أو قذر ، أو ينعكس أدنى غبش ، في ثوب عفته وطهارته النقي ، صلى الله عليه وسلم ، ومرآة قلبه التي لا تزال مصقولة بمقامات العبودية والاستغفار .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله :
" هذا حديث غريب المعنى ؛ لأن الذي جرى للنبي صلى الله عليه وسلم كان سرا ، لم يعلمه إلا الله ، ولكنه أذاعه عن نفسه ؛ تسلية للخلق ، وتعليما لهم ، وقد كان آدميا ذا شهوة
ولكنه كان معصوما عن الزلة ، وما جرى في خاطره حين رأى المرأة أمر لا يؤاخذ به شرعا ، ولا ينقص من منزلته ، وذلك الذي وجد في نفسه من إعجاب المرأة له هي جبلة الآدمية التي تتحقق بها صفتها
ثم غلبها بالعصمة ، فانطفت ، وجاء إلى الزوجة ؛ ليقضي فيها حق الإعجاب والشهوة الآدمية بالاعتصام والعفة " .
انتهى من " عارضة الأحوذي " (5/106) .