السلام عليكم
وقفة أخرى ومع علم من الأعلام مجدد علم الحديث ..وقد بلغ من ذلك مرتبة لم يلغها غيره ممن عُرِف من محدثي عصرنا ..
لِم لايثار شأنه ولايُشار اليه بالبيان على صفحة التداول العلمي والتواصل المعرفي ؟؟
ليس غريبا الأمر فالعلم أصاب التسيس والتعصب أصاب منه العظلم ..لذلك لانكاد نرى من يذكره ويتحف الناس بخبره ..تبا للزمن أصبح فيه العرفان محكوم بالولاءات والإنتماءات ..
سأترككم مع ترجمة قصيرة للعلامة الجهبذ .فريد عصره في علم الحديث ..
فمتابعة طيبة ..ودعاء منكم أنتظره ..ولا انتظر غيره كان جزاء ولا شكورا ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السيد أحمد بن محمد بن الصِّدِّيق الغماري
العلامة المجتهد الحافظ مجدد علم الحديث بالمشرقين أبو الفيض السيد أحمد بن الصِّدِّيق بن أحمد بن قاسم بن محمد ابن محمد بن عبد المؤمن الغماري الحسني الإدريسي المغربي.
وصاحب الترجمة ذكر نسبه وتراجم كثير من آبائه في كتبه التالية: "التصور والتصديق بأخبار الشيخ سيدي محمد بن الصِّدِّيق" المطبوع و "البحر العميق في مرويات ابن الصِّدِّيق" و"المؤذن بأخبار سيدي أحمد بن عبد المؤمن" و "سبحة العقيق".
ولد صاحب الترجمة بقبيلة "بني سعيد" وهي قريبة من قبيلة غُمارة بشمال المغرب الأقصى وذلك في يوم الجمعة السابع والعشرين من رمضان سنة 1320، وبعد شهرين من ولادته رجع به والده إلى طنجة
بداية الطلب:
عندما بلغ الخامسة من عمره أدخله والده المكتب لحفظ القرآن الكريم على تلميذه العربي بن أحمد بو درة لحفظ المترجم القرآن عنده، ثم حفظ الآجرومية وبعض المتون المتداولة.
ثم اشتغل بالطلب فحضر دروس شيخه بو درة في النحو والصرف والفقه المالكي والتوحيد ودروس والده في الجامع الكبير في النحو والفقه والحديث وكان والده رحمه الله تعالى معتنياً به أشد الاعتناء ويذاكره في شتى الفنون ويحثه على الطلب والتعب في التحصيل ويذكر له تراجم العلماء ليتخلق بأخلاقهم ويسعى مسعاهم وقرأ أيضاً على الفقيه أحمد بن عبد السلام العبادي.
ولما أمر والده الإخوان المتجردين بالزاوية الصِّدِّيقية أن يحفظوا القرآن الكريم كتب كتاباً في فضل القرآن الكريم وحفظه وتلاوته سماه "رياض التنزيه في فضل القرآن وحامليه" وهو أول ما صَنَّفَ وكان دون العشرين.
وأثناء ذلك حبب الله تعالى إليه الحديث الشريف فأقبل على قراءة كتبه خاصة الترغيب والترهيب، والجامع الصغير مع شرح المناوي عليه "التيسير".
توجهه للقاهرة، والدراسة بالأزهر:
وفي سنة 1339 وصل للقاهرة للدراسة على علماء الأزهر المعمور حسب توجيهات والده، فعاود قراءة الفقه المالكي ثم الشافعي.
ومن شيوخه بمصر الشيخ محمد إمام بن إبراهيم السقا الشافعي قرأ عليه الآجرومية بشرح الكفراوي وابن عقيل والأشموني على الألفية والسلم بشرح الباجوري وجوهرة التوحيد وشرح التحرير لشيخ الإسلام في الفقه الشافعي، وسمع عليه مسند الشافعي وثلاثيات البخاري والأدب المفرد له ومسلسل عاشوراء بشرطه والمسلسل بالأولية، وغير ذلك، وكان يتعجب من ذكائه وسرعة فهمه وشدة حرصه على التعلم ويقول له:
"لا بدَّ وأن يكون والدك رجلاً صالحاً للغاية وهذه بركته فإن الطلبة لا يصلون إلى حضور الأشموني بحاشية الصَّبَّان إلا بعد طلب النحو ست سنين وقراءة الآجرومية والقطر وغيرهما وأنت ارتقيت إليه في مدة ثلاثة أشهر وكان يذيع هذا بين العلماء.
وكان أحياناً يقول له لما يرى حرصه على قراءة الكتب التي تدرس في أقرب وقت: "أنت تريد أن تشرب العلم".
وله مشايخ آخرون بمصر منهم مفتي الديار المصرية ومفخرتها الشيخ محمد بخيت المطيعي حضر دروسه في شرح الإسنوي على المنهاج في الأصول وشرح الهداية في الفقه الحنفي وصحيح البخاري كما لازم دروسه في التفسير، وقرأ على المسند المحدِّث عمر حمدان التونسي المدني.
وقد ترجم السيد أحمد بن الصِّدِّيق لمشايخه في الجزء الأول من كتابه "البحث العميق في مرويات ابن الصِّدِّيق
عنايته بالحديث الشريف
ثم انقطع في منزله لمطالعة الحديث واعتنى به حفظاً وتخريجاً ونسخاً ومكث في منزله سنتين لا يخرج إلا للصلوات ولا ينام الليل حتى يصلي الضحى وشرع أثناء ذلك في كتابة تخريجه الأول على مسند الشهاب الذي سماه "فتح الوهاب بتخريج أحاديث مسند الشهاب" في مجلدين واستمر على هذا الحال إلى أن قدم والده لحضور مؤتمر الخلافة سنة 1344 فشد الرحلة مع أبيه لدمشق لزيارة سيدي محمد بن جعفر الكتاني ثم رجعا إلى المغرب.
بقي المترجم بالمغرب حوالي أربع سنوات أقبل فيها على الاشتغال بالحديث حفظاً ومطالعة وتصنيفاً وتدريساً فدرس نيل الأوطار والشمائل المحمدية.
وأثناء ذلك كتب شرحاً كبيراً على رسالة ابن أبي زيد القيرواني يذكر فيه لكل مسألة أدلتها من الكتاب والسنة سماه "تخريج الدلائل لما في رسالة القيرواني في الفروع والمسائل" كتب منه مجلداً ضخماً إلى كتاب النكاح، ثم عدل عن التطويل فكتب كتاباً مختصراً سماه "مسالك الدلالة على متن الرسالة" وهو مطبوع في مجلد.
رجوعه للقاهرة مرة ثانية:
ثم رجع للقاهرة سنة 1349 وصحب أخويه سيدي عبد الله، والسيد الزمزمي للدراسة بالقاهرة وأثناء وجوده بالقاهرة هذه المرة كتب عدةً من المصنفات.
وتردد عليه عددٌ من علماء الأزهر للزيارة والاستفادة من علومه رغم صغر سنه، وطلب جماعة منهم أن يقرأ معهم فتح الباري سرداً ويشرح لهم مقدمة ابن الصلاح ففعل، وجلس للإملاء بمسجد مولانا الإمام الحسين عليه السلام وبمسجد الكخيا.
رجوعه ثانية للمغرب:
وفي سنة 1354 رجع إلى المغرب بسبب وفاة والده رحمه الله تعالى فاستلم الزاوية وقام بالخلافة عن والده واعتنى بتدريس كتب السنة المطهرة مع بعض كتب المصطلح وأقرأ بعضاً من كتب التخريج والأجزاء والمشيخات والمسلسلات وأملى مجالس حديثية بالجامع الكبير بطنجة. وحث الناس على العمل بالسنة الشريفة. وكان يحارب السفور والمدارس العصرية والتشبه بالكفار وله في ذلك جزء سماه "الاستنفار لغزو التشبه بالكفار" جمع فيه الأحاديث التي تنهى عن التشبه بالكفار.
ولم يكن صاحب الترجمة رحمه الله تعالى من الذين قصروا أنفسهم على العلم فقط ؛ بل حارب الاستعمار وسعى في إخراجه، وسجن بسبب ذلك لعدة سنوات.
وبعد خروجه من المعتقل فضَّل أن يغادر المغرب فوصل القاهرة في ربيع النبوي سنة 1377 وحجَّ واعتمر وزار، وشدّ الرحلة لدمشق وحلب والسودان.
وفاتـه:
وبعد رجوعه من السودان مرض مرضاً شديداً وفي يوم الأحد غرَّة جمادى الثانية سنة 1380 انتقل رحمه الله تعالى ودفن بالقاهرة رحمه الله تعالى وأثابَهُ رضاه.
كان صاحب الترجمة من المكثرين من التصنيف، فله مصنفات في: العقائد، والتفسير والحديث، والفقه، والتصوف, والتاريخ، والتراجم، وهذه المصنفات فيها المطبوع والمخطوط.
وقد ذكرنا قائمةً لمصنفاته )المكتبة الغمارية)
ونلاحظ من النظر في قائمة مصنفات صاحب الترجمة والتي تُعْنَى بالرواية فقط أنه جمع في تصانيفه فنوناً حديثية لم تجمع لغيره منذ قرون, وكان بها فرد وقته, فقد صَنَّفَ في: التخريج، والاستخراج، والمسند، والمسلسلات، والأمالي، والمشيخات، وعمل الأجزاء الحديثية، وفهارس الترتيب على الحروف الأبجدية، وهو ـ والله أعلم ـ انفراد تام.
لم يقصر السيد أحمد اهتمامه بالرواية فقط, فإن كان متمكنا من علوم الآلة ودرس الفقه المالكي ثم الشافعي, ولازم شيخ علماء مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي في دروس التفسير وفي شرح الهداية في الفقه الحنفي, وكان المترجم له واسع الاطلاع, ويدعو العلماء المتمكنين إلى الاجتهاد وترك التقليد, وهذه الأسباب أدت إلى كتابته في الفقه, وإظهار بعض اختياراته, ونلاحظ الآتي:
-1
للمترجم له أكثر من عشرين مصنفاً في الفقه، وهذه المصنفات تنقسم إلى قسمين
القسم الأول: المصنفات الجامعة كـ "شرح السنن الكبرى للبيهقي"، وصل فيه إلى كتاب الزكاة، يذكر فيه الأحاديث التي في الباب ورتبها والخلاف والترجيح، ثم الدليل عليه من غير تعرض للخلاف.
وكذا في "تخريج الدلائل لما في رسالة القيرواني من الفروع والمسائل" الذي وصل فيه إلى كتاب النكاح، و "مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة"، وقد أتمه وطبع مرات.
القسم الثاني: ما أُفْرِدَ لمسألةٍ بعينها كـ "بيان الحكم المشروع" واختصاره "نفث الرُّوع ببيان أن الرَّكعة لا تُدْرَك بالركوع"، و "توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصوم والإفطار"، و "تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر والمال"، وغيرها.
في هذين القسمين تظهر اختياراته التي يستدل لها، ويدافع عنها، ويعارض خصومه، وإن كانت في القسم الثاني أظهر.-2
وللمترجم في النوع الثاني طريقة في عرض الحجج ومناقشة الخصم، وتقرير اختياره، فيبدأ أولاً بعرض مذاهب الأئمة الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ ليكون المقلد في سعة فإنَّ الانتقال من مذهب إلى مذهب، ولو في بعض النوازل جائزٌ على الصحيح المشهور في كل المذاهب، ثم بعد ذلك يناقش ويعرض الأدلة فيقول في أحد مصنفاته الفقهية:"أمَّا مَنْ كان من أهل العلم والنظر وقبول الحجة والدليل، فليعلم أنَّ استدلالنا لهذه المسألة من وجوه". ثم ذكر هذه الوجوه.
وهذه طريقة مطَّردة في كتبه التي يختار فيها ويعرض الأدلة, ويبين وجوه الاستدلال, ويناقش ويرجح.
-3
وكان في وقته ومصره جيد المعرفة بالمذاهب وذكر أدلتها في وقت كان جلُّ الفقهاء في عصره في المغرب ـ فضلاً عن غيره ـ لا يعرفون من المذاهب إلا مذهب مالك عن طريق "المختصر" وشروحه, لذلك أثنى على معرفته الفقهية عدد من أهل العلم من ذلك:
-أقال المحدِّث السيد عبد العزيز بن الصِّدِّيق رحمه الله تعالى في كلمة له عن جزء "الإفضال والمنة في رؤية النساء لله تعالى في الجنَّة" لصاحب الترجمة مبيناً بعض خصائص مصنفات شقيقه وشيخه السيد أحمد، قال: "أضف إلى هذا كله تعدد الأدلة والحجج، فتارة يحتج على الخصم في إثبات المسألة بالنص الصريح، وتارة بظاهره، وتارة بطريق الإلزام".
ثُمَّ قال: "ولكن المؤلف ـ أمتع الله به ـ لسيلان ذهنه، وقوة حفظه، وحدة فهمه، وفقاهة نفسه التي بلغت به إلى درجة الأئمة المجتهدين، صار شأنه في جميع أبحاثه على هذا المنوال، فلا يكتب في صغيرة من المسائل ولا كبيرة من القضايا، سواء كانت في الحديث أو الفقه أو الأصول إلى ويأتي فيها بما يدهش العقول"
-بوقال الفقيه العلامة مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى، في كتابه "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي": "كتاب تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال، للإمام الحافظ المحدِّث أبي الفيض الشيخ أحمد بن محمد بن الصِّدِّيق الغماري الحسني المتوفى سنة 1380، والغُمَاري (بضم الغين المعجمة) نسبة إلى قبيلة غمارة بالمغرب، وهو كتاب مستوف خاص بالموضوع أحاط به من كل أطرافه، وأيده بالأدلة والنقول، ويريد بكلمة (المال) في عنوان الكتاب: النقود".
يليه التعريف بمؤلفاته رحمه الله