صندوق الجدّ
قال الرّجل العجوز: "لقد أصبحتُ عاجزاً لا أقدر على حراثة الأرض، ولا على حمل الأثقال، هل أبقى رهن البيت، أم أمشي هائماً على وجهي حتّى أسقط من التّعب؟!"… فكّر كثيراً، تذكَّرَ أيام طفولته؛ كيف كان يقفز كالأرنب من مكان إلى آخر، ويصعد كالقطط إلى أعلى الأشجار، تذكّرَ شبابه حين كان يدخل في عراك مع زملائه، وكيف كان يفوز عليهم، ولكنه لم يكن يخاصم أحداً ولا يعتدي على أحد.. شرد طويلاً مع ذكرياته؛ كانت حياتُه خصبةً مليئةً بالعمل والنّشاط! وها هو الآن شيخ كبير، لا تساعده صحته على القيام بأعمال تحتاج جهداً كبيراً كالزّراعة التي زاولها طويلاً… كان أحفادُه يلعبون حوله بصخب.. فجأة خطرت لـه فكرة جعلته يبتسم ويستيقظ من شروده…
قال: "كنت أزرع القمح والذّرة، وجنيت الكثير من ذلك واليوم سأكون مزارعاً جديداً، وسأبذر، بدل القمح والذّرة، الكلمات الطيّبة..".
نادى الأولاد: "خالد…محمد…فاطمة…وائل.. تعالوا يا أبنائي.".
اجتمع الأطفال قرب الجد وتساؤل يرتسم على وجه كل منهم..
ابتسم.. ابتسموا، قال: "عندي صندوق من الحكايات"…
ركض وائل نحو صندوق الجدّ الموجود في صدر البيت وحاول فتحه! ضحك الجدّ وقال:
ـ "إذا فتحت الصندوق تهرب الحكايات، تعال.. تعال يا وائل معي حكاية خبّأتها في صدري سأحكيها لكم..".
ثم بدأ: "كان ياماكان في قديم الزّمان"..
تجمّع الأولاد أكثر حول الجدّ يستمعون كل كلمة يقولها..
الأشجار تنهض من جديد
وقف أبو حمدان على شاطئ البحر، يحدّق في الأمواج الصاخبة وهي تصفع وجه الصخور بقسوة، وتساءل في نفسه:"لماذا يغضب البحر؟ هل يغضب من المحتلين الذين دنّسوا وجهه ببوارجهم الحربية، أم أنّهُ غاضب منّا؟ "كم لعبنا معه، وارتمينا في حضنهِ الرّائع، وكم غنينا معه الأغاني السعيدة؟!".
استرسل أبو حمدان في خواطره، كان وجهه الحزين جافاً، برزت فيه لحيته النّامية كالعشب اليابس! وكانت البساتين من خلفه مساحة من السواد القاتم؛ لقد أحرقها الصهاينةُ بحجة اختباء الفدائيين العرب فيها، ووجود مستودعات ذخائرهم الحربية!!
لم يكن يحزنه احتراق بستانه الذي أنفق عمره في العناية به وحسب! لكنّه تذكّر أولاده.. كم وعدهم بالملابس الجميلة والألعاب والحلوى والقصص المصّورة، بعد بيع المحصول القادم؟! ماذا يستطيع أن يعمل؟
الأشجار تقف محروقة متفحمة، الفواكه أُتلفت، الأولاد هاجروا عن القرية، والصهاينة يعيثون فساداً في كلّ مكان!! هاهو يقف وحيداً جانب الشاطئ، لا يدري ما العمل؟!
جاءت موجةٌ قويةٌ لطمت الصخور بعنف، امتلأ وجه أبي حمدان بالرذاذ البارد؛ مسح وجهه، لامست أصابعه المبللة شفتيه المشققتين، شعر بملوحة قارصة، كزّ على شفتيه، ثم التفت بعينيه الغائمتين صوب البساتين، فرك عينيه كأنّه يخفي دموعه، توجّه إلى بستانه، وقال بصوت مسموع:
ـ "اليدان اللتان تحسنان الزّراعة تحسنان حماية ما تزرعانه"…
اقترب من الأشجار المحروقة والأسى يعتصر قلبه، كانت الأشجار تبدو قاماتٍ داكنةً مغروسةً في هذه الأرض!! نقل بصره من شجرة إلى أخرى؛ مثل من يبحث عن شيء مهمٍ فقده، فجأة ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيه، ماذا حدث؟!
لقد كانت بضع شجيراتٍ صغيرةٍ غضّة ترفع رؤوسها عند أقدام هذه الأشجار السوداء المتفحمة، لم يدرِ ماذا يفعل، كان مثل من مسَّهُ سحرٌ، دهش، ركع جانب شجيرة، حضنها برفق، وقبلّها كأبٍ يقبِّلُ ابنه الصّغير بعد غيابٍ طويل!!
التمعت عيناه كنصل سكين، وهو يقول:
ـ "الأشجار تنهض من جديد، وعليّ أن أنهض أيضاً".. ثم توجّه نحو القرية يبحث عن رجال المقاومة!..
بـــحيرة الأزهـار
أحسَّتْ "عُلا" بالضِّيق، فالانتظار صَعْبٌ وقاسٍ، كانت تنظر من زجاج النّافذة إلى باب الحديقة؛ لعلّه يُفْتَحُ وترى أباها قد عاد من السَّفر!
كانت كلّ دقيقة تمضي ببطء بالغ، قالت لها أمُّها:
ـ "مابك، تبدين منزعجة".. أهكذا تستقبلين والدك؟!!"..
ارتاحت لكلام أمّها، ثم نظرتْ حولها في أرجاء الغرفة، خطرت لها فكرة؛ جرت مسرعة لتنفيذها، قالت في نفسها: "سأجمع طاقة من أزهار المرج الجميلة… أضعها في إناء على طاولة والدي؟..".
خرجت "عُلا" بعد أنْ أخبرتْ أمّها، كانت الأزهار البيضاء تبدو مثل بحيرة من الثلج النّاصع! خفق قلبُ "عُلا" بفرحٍ وهي تقترب من المرج، شدّها هذا المنظر الرائع.. صارت الأزهار واضحة أمام "عُلا" كانت تتلألأ كعقد من اللؤلؤ!! خطرت أفكار كثيرة في ذهن "عُلا":
ـ "سأجعلها تظهر مثل كرةٍ جميلة من الأزهار"..
"سيفرح بها أبي كثيراً… سأصنع منها عقداً.. عقداً من الزّهر وأطوّق بها عنق أبي".
وقفت "عُلا" بجانب أزهار المرج.. كانت أزهار كثيرة متفرقة تحيط مكان وقوفها! جلست لتقطف بعضها… وحين مدّت يدها لتقطف أول زهرة رأت زهرة أخرى أكبر وأجمل.. قالت:
ـ "تلك الزّهرة أجمل من هذه…".
ثمّ نهضت ودنت من الزّهرة الثّانية، لكنها لم تقطفها لأنّها شاهدت أجمل منها أيضاً.. وهكذا كانت تمضي من زهرة إلى أخرى!! تعبت ولم تقطفْ أيّ زهرة! هاهي عند الطرف الغربي من بحيرة الأزهار، ألقتْ نظرةً طويلة عليها، كانت عيناها تلمعان بفرح واضح.. رأت الأزهار أجمل من قبل.. نَقّلَتْ عينيها فيما حولها، وعادت تحدّق في بحيرة الأزهار، كلّمت نفسها بصوت واضح:
ـ "هذه الأزهار مثل الأسماك ستموت إذا خرجت مِنْ مرجها"..
عادت "عُلا" دون أن تقطف أيّة زهرة… وبينما كانت تمشي في طريق العودة؛ أدهشتها رؤية الأزهار البيضاء الجميلة على طول الطّريق.. رأَتْها "عُلا" وكأنّها تمشي خلفها!! كانت مسرورة جداً وتساءلت: "هل تمشي الأزهار حقّاً؟!"..
شيء واحد كان يدور في ذهنها.. أن تدعو أباها لزيارة بحيرة الأزهار.
ولـــــــيد يسأل
سأل وليد أمّه:
ـ "لماذا أغلق الصَّهاينة مدرستنا؟!"..
ـ "لماذا قتلوا ابن خالتي حسام؟"..
ـ "لماذا فقؤوا عين رفيقي خالد؟"..
كان يريد أن يسأل ويسأل ويسأل، لكن أمّه ضاقت ذرعاً مِنْ أسئلته فقالت:
ـ "أوه.. إنّك تكثر من الأسئلة يا وليد!"..
قال وليد: "أريد أن أعرف كلّ شيء.. كلّ شيء.. يا أمي".
وكانت أمّ وليد ترغب أن تجيب على كل أسئلة ابنها، غير أنّها لم تفعل، بل حاولت أن تبعده عن هذه المشاكل المخيفة؛ التي تحدث كل يوم! وبدأت تحكي له حكاية حورية البحر التي أعطت الصَّياد الفقير كنزاً على أن يعيدها إلى وطنها البحر! وما إن أنهت الأمّ الحكاية حتّى كان وليد قد نام حيث بدأت حكاية أخرى…
رأى وليد في حلمه حورية جميلة كحورية الحكاية، قالت له الحورية: "أهلاً بك أيها الطفل اللطيف، هل جئت تبحث عن الكنز؟ اطلب ما تشاء لأحققه لك"..
صاح وليد فرحاً: "هل تحققين لي ما أطلب فعلاً؟"..
قالت الحورية: "نعم وفوراً"..
قال وليد: "أريد أن تفتحي أبواب مدرستنا، لنعود إليها، نقرأ ونلعب، أريد أن يعود حسام إلى الحياة، وأن تعود عين رفيقي خالد سليمة كما كانت..
فجأة رأى وليد أنّه يدخل إلى المدرسة مع زملائه ثم رأى ابن خالته حسام يناديه ليلعبا معاً، وشاهد خالداً ينضمّ إليهما، وكان سليماً معافى من كل سوء!!
لكنه حين استيقظ عرف أنّه كان يحلم، وتمنى لو كان الحلم حقيقة!..
مازال وليد يسأل لماذا..؟.. سيكبر يوماً ويعرف كل شيء.
؟؟؟
الليل والأطفال
من قديم الزّمان كان الليل حزيناً جداً، كان يسمع أطفالاً يقولون: "لا نحبّ الليل".
وآخرون يقولون: "الليل موحشٌ ومخيف".
والآباء والأمهات يحاولون إبعاد الخوف، دون جدوى ويطلبونَ من الأولاد الذّهاب إلى النّوم، فالليل مخصص للرّاحة والنهار للعمل، وتُطفأ الأضواء؛ فيظهر الليل خلف النّوافذ قاتماً يغطي كلّ شيء: الأشجار والبيوت، والشوارع، فيجزع الأولاد ويأوون إلى الفراش مكرهين، ودائماً يقولون:
ـ "الليل مخيف، نحن لا نحبّ الليل".
تجوَّلَ الليلُ كثيراً؛ حكى قصّته لكل من صادفه، قال لـه القمر:"لا تحزن يا صديقي، سأساعدك، وسيحبّك الأطفال".
فرح الليل حين سمع ذلك، وبعد مدّة أطلّ القمر وسطع ببهاء؛ سمع الليلُ الأطفالَ يقولون:
ـ "ما أجمل الليل في ضوء القمر!"..
ولكنّ القمر لا يستطيع أن يبقى طويلاً، وعندما ينتهي من عمله كان يذهب إلى مكان آخر ليبدأ عملاً جديداً؛ فيشعر الليلُ أنّ الأطفال عاودهم الخوف، وقبل أنْ يبحث عن حلٍ كانت النجوم تلمع في بحر السماء، والضفادع تنقُّ مغنيةً أجمل الأغاني، وكان يسمع صوت البومة وهي تتمتم:
ـ "الليل جميل ورائع، وأنتم أيها الأطفال جميلون فاذهبوا إلى الفراش".
صار الأولاد ينتظرون القمر، وبعضهم ينتظر النجوم فيبدأ يعدّها من نافذته حتى يغفو، وآخرون كانوا يسعدون بأغاني الضفادع وحكمة البومة، وعندما يذهبون إلى الفراش يبدؤون رحلة الأحلام.
لو كنت حصاناً
عندما دخل سعيد إلى البيت، كان ملطخ الثياب بالوحل، وملوث الوجه أيضاً! نظرت أمّه إليه نظرة خاصة، فوقف مرتبكاً، قالت الأم: ـ "ماذا فعلت بنفسك؟! هيّا إلى الحمام".
كان سعيد يكره الاستحمام كثيراً، وغالباً ماكان يهرب إلى اللعب، عندما يشعر أنّ موعد الاستحمام قد حان، فهو لا يطيق الصّابون؛ لأنّه يخرش عينيه، ويقرسه بقسوة.
وكانت أم سعيدٍ تصبر عليه وهو ينطّ ويصرخ:
ـ "لا أريد أن أستحم.. لا أريد لا أريد"… والآن عرف أنّه لا خلاص من الاستحمام، بعد أن لوّث وجهه ويديه وملابسه بالوحل!… دخل إلى الحمام وراح يحدث نفسه:
ـ "لو كنت حصاناً صغيراً أنط وألعب حيث أشاء، أنام فوق الوحل الطري، أجري بسرعة كبيرة، أقضم العشب الغضّ، لا تجبرني أمي على الاستحمام، فلا يدخل الصابون في عيني، لكن لا.. لا لا أريد أن أكون حصاناً، فالحصان الصغير سيكبر، وسيجرّ عربة، ويحمل الأثقال.
لقد رأيت حصاناً يجرّ عربة المازوت، والرجل يضربه بالسوط بقسوة! أنا لا أحبّ أن يضربني أحد!
لو كنت كلباً صغيراً… لا… لا… لا أريد أن أكون كلباً، بعض الأولاد يعذبون الكلاب الصّغيرة، يشدّونها من آذانها، ويجرّونها من أذنابها! لقد شاهدت كلباً جائعاً يأكل من الفضلات المرمية في مجمع القمامة. أريد أن أكون نمراً قوياً لا أخاف من شيء….لا…لا…لا أريد… رأيت نمراً محبوساً في قفص في حديقة الحيوان، قال لي أبي: "لقد اصطاده رجل قوي ووضعه في هذه الحديقة". يمكن أن يطلق عليّ أحد الصيادين النّار فأموت… لا أريد أن أموت لا أريد".
دخلت الأمّ وسعيد مايزال واقفاً يحدّث نفسه! وكانت قد سمعت كل مانطق به منذ البداية…
قالت: "مابك أَلَمْ تخلع ملابسك بعد يا حصاني الصغير؟!".. "حالاً…حالاً يا ماما، لكني أخاف الصّابون، إنّه يكوي عينيّ".
قالت الأمّ مشجعة: ـ "لا تخف.. هيّا أغمض عينيك وتصوّر نفسك حصاناً صغيراً لطيفاً، أو جرّواً مهذباً، لكن إياك أن تتصور نفسك نمراً ذا مخالب طويلة وحادة تخبّئ الأوساخ تحتها، وتخيف رفاقك بها، فينفضون عنك".. خلع سعيد ملابسه، وأغمض عينيه بسرعة، رأى نفسه حصاناً صغيراً يجري بسرعة، ثمّ جرواً يلحس بلسانه يد أمّه، بينما كانت الأم قد غمرت جسده الطري برغوة الصابون كان سعيد يرغب أن يرى نفسه نمراً، وحين هَمَّ بتقليد صوت النمر، فتح فمه وعينيه، وشدّ أصابع يديه، صرخ بصوت قوي من لذع الصابون، وأطبق عينيه بقوّة؛ ضحكت الأم وقد قدّرت ماخطر لسعيد، فقالت بعد إزالة الصابون بالماء الفاتر: ـ "هل رأيت نفسك نمراً؟".. صمت ولم يجب، ثمّ فتح عينيه.. فركهما جيّداً، كان الماء منعشاً، سرّ سعيد وأخذ يلعب بالماء وتمنى أن يخرج إلى الساحة ليلعب مع رفاقه، ولم يرغب بعد ذلك أن يكون غير سعيد الإنسان، وتعلّم كيف لا يخاف من الصّابون!…
نشــــوان وألعابـــــه
جمع نشوان ألعابه، البطّة ذات العجلات، الكلب ذا الشعر الطويل والدّب صاحب معطف الفرو، والسَّيارة الحمراء والبيانو الصّغير.
قال نشوان لألعابه: "الآن، نحن أصدقاء، سأعلمكم الرّقصَ، ثم نحتفل بصداقتنا"..
قالت البطّة ذات العجلات:
ـ "أنا بطّة لا أعرف غير السباحة، ولا أحبُّ غيرها.."..
قال نشوان: "وهذه العجلات، ماذا تعملين بها؟"..
قالت البطّة: "أسابق بها رفيقاتي".
صاح الكلب ذو الشعر القصير: "وأنا أجلس هنا؛ أحرس أصدقائي، ولا أتقن غير ذلك…".
هزّ الدّب معطَفهُ الثقيل قائلاً:
ـ "وأنا لا أترك معطفي الثقيل؛ أخاف البرد كثيراً… ربما أصاب بالزكام".
أطلقت السيارة الحمراء صوتاً طويلاً من مزمارها: "وأنا جاهزة لإطفاء الحرائق…".
أمّا البيانو الصّغير فقد ظلّ صامتاً. قال نشوان:
ـ "وأنت يا صاحب الصّوت الجميل… ماذا تقول؟"..
ولم يقل البيانو الصّغير شيئاً… دهش نشوان من صمت البيانو، لكنه سرعان ما لاحظ مطرقتين صغيرتين جانب البيانو، أخذهما نشوان وطرق بهما طرقاً خفيفاً فوق صفائح البيانو الصغير فانبثقت أنغام عذبة، رقص الدّب والكلب ورقصت البطة، لكن السيارة راقبت سعادة أصدقائها بسرور، دون أن تطلق صوت مزمارها وبقي نشوان يعزف ألحاناً جميلة تبعث في النفس الفرح…
ذات ليلــــــة
اعتادت عبير أن تنام باكراً، وذات ليلة لم تستطع أن تنام، وبقيت جالسة في سريرها، كان أخوتها ينامون إلى جانبها، نظرت إليها بودّ وفي نفسها تساؤل عن النّوم وسرّه:
ـ "لماذا ينام النّاس؟.. ألا يستطيع المرء أن يبقى مستيقظاً؟"..
نظرت من النّافذة؛ كان القمر يسكب ضوءاً رائعاً!
قالت: "لماذا يسهر القمر كلّ الليالي؟"..
ولما لم تجد أحداً مستيقظاً في مثل هذه الساعة، أزاحت الغطاء عنها، بهدوء وغادرت الغرفة، فقد شعرت أنها بحاجة إلى قليل من الماء، تسللت على رؤوس أصابع قدميها؛ حتى لا تزعج أحداً، لكنها دهشت حين وجدت أمّها جالسة تنسج الصوف، فسألتها:
ـ "ماما.. لماذا لم تنامي بعد…؟."…
قالت الأمّ: "شعرت أنّني لا أستطيع النوم، فجلست لأكمل هذه "الكنزة"…".
عادت عبير إلى فراشها وبدأت تكلّم نفسها:
ـ "القمر يسهر، يسكب ضوءه ليرشد الناس في الدروب البعيدة، ويسلّيهم لينسوا تعبهم"…. أمي تسهر لتنسج الصوف وتمنحنا الدّفء… وأنا أسهر وحيدة أفكّر في هذه الحياة الجميلة".. نامت عبير في ساعة متأخرة.. نامت نوماً عميقاً وحلمت أحلاماً جميلة…. وفي الصَّباح جاءت الأمّ ومسحت بيدها اللطيفة وجهَ عبير… فتحت عبير عينيها، كانت أمُّها تبتسم لها وتدعوها لتتناول الفطور، فالوقت يمرّ بسرعة.. نهضت عبير، نظرت من النّافذة، كانت الغيوم تغطي وجه السماء.. يبدو أنّ الشتاء يطرق الأبواب.
تذكّرت ليلة البارحة، السماء الصافية بنجومها اللامعة، وقمرها الواسع المنير…
قالت الأم: "الطقس تغيّر بسرعة، إنّه يميل إلى البرودة، لا تخرجي قبل أن ترتدي (كنزتك) الجديدة، عرفت عبير أنّ أمّها سهرت الليلة الماضية من أجل إنجاز هذه (الكنزة)!! كم كانت (الكنزة) جميلة!!
لبست عبير كنزتها الجديدة، نظرت في المرآة، ابتسمت وتمتمت:"كم أنت جميلة يا كنزتي!"لكنها لم تنس أن تشكر أمّها.
أشرق وجه الأم وهي ترى ابنتها ترتدي الكنزة، وفي المدرسة بدا التلاميذ يزهون بملابسهم الصوفية الجديدة، لم تقل عبير هذه المرّة: "كم أنت جميلة يا كنزتي!".. بل قالت:
ـ "كم هي جميلة أيدي الأمهات التي حاكت هذه الكنزات، وأدركت أنّ كلّ الأمهات يسهرن مع القمر يصنعن شيئاً جميلاً…
ندى وهرّها فلفل
كانت ندى تنظّمُ وقتها في أيام العطل، تحضّر واجباتها المدرسيّة، وتساعد أمّها في بعض الأعمال البسيطة، ثمّ تلعب قليلاً من الوقت. في أحد الأيام نسيت أن تحفظ دروسها، وتكتب وظائفها، وراحت تلعب مع قطها فلفل، وفي اليوم التّالي سألت المعلمة (ندى) عن وظيفتها؛ وقفت (ندى) خجلة وقالت:
ـ "نسيت أن أكتبها،
قالت المعلمة: "هل يرضيك أن تهملي واجبك يا ندى؟"..
صمتت ندى ولم تجب، وعندما عادت إلى البيت كانت حزينة؛ تناولت طعامها وجلست تقرأ دروسها بصمت.
اقترب منها (فلفل) وهو يموء..
قالت ندى لفلفل: "اذهبْ وابحثْ عن كرة تلهو بها، أما أنا فأريد أن أقرأ لأصبح مجتهدة وتحبني معلمتي..".
حزن (فلفل)، وانزوى بعيداً يفكّر:
ـ "لماذا طردتني ندى؟"..
وعرف أنّه يجب أنْ يتركها بعض الوقت، لتكتب بوظائفها، وعليه أن يعمل هو أيضاً!..
ومنذ ذلك اليوم تعلم (فلفل) ألا يترك الحشرات الضّارة والفئران المؤذية تهرب من مخالبه أمّا ندى فكانت تمسح شعره النّاعم برفق، وتحمله إلى الحديقة، خلال استراحتها، وتلعب معه بسرور.
حقــــل الأصدقـــاء
في حقل واسع عاش كثير من الورد والأزهار والنباتات الخضراء الجميلة، وعدّة أسراب من الفراش اللطيف. كانت جماعات الأزهار والورد تستمع لحكايات الفراش، وتنشر عطرها تعبيراً عن فرحتها بصداقة الفراش وحين يشتدّ الحرّ، كانت الفراشات تطير وتحط، ترفرف بأجنحتها؛ تلطّف الجوّ، لتخفّف من قساوة الحرّ عن أصدقائها، وإذا جاء الليل، وتعبت الفراشات تنام في أحضان الورد والأزهار بهدوء مع يرقاتها الصّغيرات:
ذات يوم تعرض حقل مجاور لحريق، وامتدّ اللهب إلى حقل الأصدقاء؛ بسرعة سمع الجميع خبر الحريق، أسرعت أسراب الفراش، وشكّلت حاجزاً من أجسادها لحماية الأصدقاء، كان اللهب يلفح وجه الورد والأزهار والعشب؛ احترق كثير من الفراش قبل أن يتلاشى اللهب، وينطفئ الحريق أما الورد والأزهار، فقد احتضنت اليرقات الصغيرات حتى أصبحن فراشاً يملأ الحقل سعادة وجمالاً.
نـــحن كـــــبار
دخل المعلّمُ إلى الصَّف فجأة؛ صمت الجميع وساد هدوء تام، كان واجماً وبدت علامات الغضب والانزعاج على وجهه، نظر في وجوه التلاميذ واحداً واحداً وكأنّه يبحث عن شيء أضاعه، تنفس بعمق وقال بصوت يشبه الهمس:
-"لقد عطلوا الدراسة"
فهم الجميع أنّ الإسرائيليين أمروا بإغلاق المدرسة، وبعد لحظات قال بصوت واضح وقوي:
-"سنتابع الدروس في البيوت"
وقف وليد وقال:
"لدينا غرفة كبيرة، سأطلب من أبي أن يسمح لنا بأن ندرس فيها".
خرج التلاميذ من الصفوف، ثمّ غادروا بهو المدرسة كان جنود العدو يملؤون الشّارع الرئيسي، وعند مداخل الأزقة المتقاطعة مع هذا الشارع، كانت بعض الأمهات ينتظرن أطفالهن:
لم يتوجه الأولاد إلى منازلهم، بل توزعوا إلى مجموعات، كلّ مجموعة اتجهت إلى زقاق فرعي متسلحين بالحجارة والمقالع والزجاجات..
من أين ظهرت كلّ هذه الأشياء؟! لقد كانوا يخفونها في محافظهم، وتحت الثياب.
مرّ أحدُ المعلمين ورأى ما يحدث، أمرَ الأطفال الصّغار: "اذهبوا إلى البيت أيها الصغار"
ردَّ طفل: "نحن كبار"
ابتسم المعلم وتابع طريقه، كان يعرف أنّ معركة ستحدث وكان مسروراً.
جـــــدّتي تـزغرد
جدتي اسمها الحاجة (آمنة)، كلّ الناس في جباليا يعرفونها، وهي تعرف كل أهالي جباليا.
جدتي الحاجة (آمنة) تحبّ كل النّاس في جباليا، وهم يحبونها، كلّ الشباب والأطفال، وحتّى الرجال ينادونها: "جدتي" لأنّها ساعدت أمهاتهم في أثناء ولادتهم، وهي أول مَنْ حَمَلَ أجسادهم الصغيرة في أول لحظة مِنْ حياتهم، وهي أول مَنْ تطلق زغرودةَ فرحٍ، ودائماً نراها مبتسمة لم تبكِ مرّةً في حياتها فهي تزغرد عند الولادة لأنّ قادماً جديداً حلّ في جباليا فتقول:
-"الحمد الله زاد عددنا واحداً".
وتزغرد عندما يموت واحدٌ من المخيم شهيداً من أجل الوطن فتقول:
-"الحمد لله، لقد صعد واحدٌ منا إلى السماء وإذا سألها أحدُ الأولاد: "ماذا يفعل الشهيد في السماء يا جدتي؟".
تقول لــه: "انظر إلى هذه النجوم الكثيرة، إنّها أرواح الشهداء تضيء لنا أيامنا".
قلت لها ذات يوم: "أريد أن أصعد إلى هناك لأصبح نجماً، ماذا أعمل؟"
نظرت إليّ وكانت تصنع من الخيطان مقلاعاً،
قالت: هذا مقلاع سأدرّبك كيف تضرب به من سرق أرضنا وقتل أباك"
قلت: "هل صعدَ أبي إلى النّجوم؟"
هزّت رأسها قائلة: "نعم".
كانت يداها تعملان بنشاط ومهارة، لقد أنهت المقلاع.. كان جميلاً فقد رسمت بالخيوط الملونة العلم الوطني، كنت أرغب أن تعطيني هذا المقلاع لأضرب به جنود العدو، لكن يبدو أنها وعدت إحدى الفرق الضاربة بعدد من هذا السلاح، فقد سحبت من تحت الفِراش عدداً كبيراً من المقاليع التي حاكتها، خبّأتها في صدرها وخرجت بسرعة غداً سيلبي أهالي جباليا نداء الانتفاضة بالإضراب العام.. وسيصعد بعضهم إلى السماء وستزغرد جدّتي.
لقد عاد حسن
نظرت الحاجة آمنة إلى صور أبنائها الثلاث معلقة في صدر البيت وقالت:
-"الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم"* كان طفل صغير ينام فوق السرير الكبير، وقد لُفَّ جسده بالكوفية الفلسطينية، إنّه ابن ولدها (حسن) الذي استشهد قبل ولادة طفله بثلاثة أيام، أسمته الجدّة آمنة (حسن) وقالت حينها: "الحمد الله لقد عاد حسن".
اقتربت الجدّة آمنة من حفيدها الجديد وعلى وجهها ابتسامة جميلة، قالت بصوت هامس:
-"نمْ ياحبيبي نًمْ لقد سهر أبوك لينام الأطفال نَمْ يا حبيبي ستكبر وتسهر مثل أبيك، نمْ هناك من يسهر الآن من أجلك، ستنهض يوماً حين تشرق شمس الوطن، وتكون كبيراً أما أنا فسأذهب الآن، ربما لن أرجع.. ستكبر وتغنّي "بلادي. بلادي".
خرجت الجدّة آمنة بعد أن أخفت شيئاً في صدرها وكان "حسن" ينام بهدوء.
أسئلة نشوان
جلس نشوان، جانب النّافذة المغلقة، يلعب بألعابه، إنّه لا يستطيع الخروج إلى الشّارع؛ فالمطر يهطل في الخارج! اكتشفَ نشوانُ شيئاً أعجبهُ! اكتشفَ صوت حبّات المطر المتساقطة برتابة وكأنّها تغنّي، وراح يُصغي بفرح إلى هسيس الماء المنساب من الأسطحة أيضاً، فجأة قطعت عليه أصواتٌ قويةٌ إصغاءَهُ؛ وكانت غير مألوفة لنشوان، فخاف وركض إلى المطبخ حيث كانت أمُّهُ تحضّر الطّعام، وصاح:
-"ماما.. ماما.. ماهذه الأصوات القويّة؟! أنا خائف.."
لكنّ ابتسامةَ أمِّه هدَّأت من خوفه واضطرابه
-"لا تخف يابني.. هذه أصوات الرّعد".
-"ماهو الرّعد؟"
-"الرّعد أصواتُ الغيوم في السّماء".
-"ولماذا تصرخ الغيوم بأصوات مخيفة.. هل تتشاجر الغيومُ يا أمّي؟"
-"نعم، إنّها تتشاجر قليلاً، ولكنّها تخجل من تصرفها فتصمت وتنزل مطراً".
-"ماما، هل المطر هو دموع الغيمات؟".
-"طبعاً إنّه دموع الغيمات ذرفتها ندماً على الشّجار".
-"ماما من أين تأتي الغيمات؟".
-"من البحر يا بني".
عاد نشوان إلى جانب النّافذة، وأصغى طويلاً إلى حبّات المطر؛ وهي ترقص على السطوح، وفي الشّارع، وكان يسمع، أحياناً، صوت الرّعد، فيضحك لأنه يعرف أنّ الغيمات تتشاجر قليلاً، وأنّ دموعها تسقي الأرض والأزهار والعصافير.
؟؟؟
عصفوري
ذات مرةً حاولت أن أمسك عصفوراً حيّاً؛ لجأت إلى الحيلة كما يفعل كل الأولاد، جهّزتُ حفرةً تسع عصفوراً كبيراً، وأحضرت قطعةً من الصّخر على شكل رقاقة، ثمّ أسندتها بالعيدان بشكل مناسب، ولم أنسَ أنْ أثبّت دودةً حيّةً من ديدان الأرض، ثم مكثت، دون حراك، بعيداً عن الحفرة؛ أراقب العصافير تروحُ وتجيءُ، تحطّ هنا، تنطُّ هناك باحثةً عن طعامها وطعام أولادها! ولم أطلِ المكوث، لأنّ عصفوراً جائعاً، كان قد شاهد دودة الأرض تتحركُ داخل الحفرة، فانقضَّ على الدّودة، ولم يدرِ أنّه وقع في الفخّ! إذ أطبقت عليه رقاقة الصّخر وحبسته في الحفرة! تسارعت دقّات قلبي حين شاهدتُ العصفور يقع في المصيدة التي رتّبتها له، وأسرعت إليه، لم أكنْ فرحاً.. بل كنتُ مضطرباً، خائفاً! لا أعرف لماذا…؟
تخيلت نفسي عصفوراً وقع في مصيدةٍ، ولا يستطيع الخروج منها! سمعتُ ضرباتِ جناحي العصفور داخلَ الحفرة، كانت يداي ترتجفان حين بدأتُ عملية القبض على العصفور، بذلتُ جهداً حتّى لا يفلت منّي؛ كنت أريد أن يرى رفاقي العصفور في يدي، لأثبت لهم أنني صياد ماهر مثل أيّ واحد منهم! حفرت حفرة صغيرة جانب الحفرة الكبيرة، وأدخلت يدي، بل تسللت أصابع كفّي الصغيرة بخوف كبير؛ وكأنني سأقبض على جمرات من نار! هاهي أصابعي تلامس الرّيش النّاعم، بدأ العصفور يدور؛ يهرب من أصابعي، وهي تلاحقه.. حتّى أمسكت به.. لم يستسلم العصفور! كان ينتفض بقوّة، فأحطته بكلتا يدي وصرخت بصوت عالٍ: "عصفور.. عصفور.. لقد اصطدت عصفوراً.." لم يسمعني أحد. بدأت أدور في مكاني والعصفور يتخبّط بين يدي المحكمتين عليه، كانت العصافير الأخرى تطير من شجرة إلى أخرى تقفز فوق الأرض؛ تفتش عن غذائها.. حينها شعرتُ أنني فعلتُ شيئاً بشعاً، فارتجفتْ يداي بشدّة، وارتختْ أصابعي، ورأيت عصفوري يمضي كسهم في الفضاء!
مازلت أذكر ذلك كلّما رأيت عصفوراً فأهمس هذا هو عصفوري.
فراس يلهو
كان فراس ينامُ بعمقٍ حين غادرت أمّه البيت؛ لتشتري الحاجات الضرورية، كعادتها كل يوم، وتعود قبل أن يستيقظ، لكنّ (فراس) لمْ يطلِ النّوم هذا الصباح! فقد استيقظ بعد أنْ غادرتْ أمّه بقليل، نظر في أرجاء الغرفة فلم يجدْ أحداً، فرك عينيه، أنصتَ قليلاً؛ ربّما يسمع أصوات الأطباق التي تغسلها أمُّه كلّ صباح! لكن لا صوت يأتي من ناحية المطبخ، حتّى القطّ الذي يلعب معه كلّ يوم غير موجود!
صاح فراس: "ماما.. ماما" لكنه لم يسمعْ جواباً.. نادى بصوت أقوى، لكنه لمْ يسمعْ أحداً يردّ عليه؛ فبدأ يبكي بصوت قوي لتسمعه أمُّه. دار في الغرفة، وكأنّه يبحث عن شيء أضاعه! فجأة شاهد صورته في المرآة الكبيرة الموجودة أمام الخزانة؛ شاهد صورته تبكي مثله، دهش من وجود ولد في المرآة، فتوقف عن البكاء، واقترب من المرآة؛ وقال للولد الذي في المرآة: "هل تركتك أمُّك مثلي؟".
شاهد كيف تحركت شفتا الولد في المرآة، لكنه لمْ يسمعْ صوته؛ فعاد يقول لـه: "هل أضعت صوتك، ولم تجدْه؟".
وكان يرى شفتي الولد تتحركان في كلّ مرّة يحدّثه! نسي فراس غيابَ أُمِّه، وراح يحدّث طفلَ المرآة وكان الطفل يحدّثه دون صوت، وكلّما اقترب من المرآة؛ كان يشاهد طفل المرآة يقترب منه أكثر، وحين وضع كفَّه على وجه المرآة؛ كان الولد يضع كفّه فوق كفّ فراس أيضاً، وإذا ضحك فراس كان الولد في المرآة يضحك أيضاً!
عادت الأمّ من السّوق؛ دَخَلَتْ بهدوء حتّى لا توقظ ابنها؛ فقد ظنّت أنّه مازال يغطَّ في نوم عميق!
وما إنْ دخلتْ حتّى سمعتْ صوت فراس وضحكاته وكأنّه يحدّثُ أحداً ما، واعتقدتْ أنّ أباه قد عاد لأمر ما فوجده مستيقظاً؛ لكنها فوجئت عندما رأت ابنها يلاعب صورته في المرآة، ويضحك فقالت: "ها أنا قد عدت.. تعال وانظر ماذا أحضرت لك".
فقال فراس دون أن يلتفت: "ليس الآن.. أنا ألعب مع صديقي".
اكتفتِ الأمُّ بابتسامةٍ جميلةٍ، تركتْهُ يلعبُ مع صورتهِ وذهبتْ إلى أعمالها.
حصّالتي
صباح كل يوم يوزّع أبي، علينا، حصتنا من النّقود المعدنية قبل ذهابنا إلى المدرسة، ويكرّر نصيحته التي حفظناها عن ظهر قلب:
-"اشتروا أشياء مفيدة".
وكان كلٌّ منّا يسعد جداً عندما يضع النقود في جيبه، ويرسم في ذهنه مغامرة صغيرة تناسب قيمة هذه القطع!
-"سأشتري الطّباشير الملونة، وأقدّمها للمعلمة".
-"سأشتري صحناً من الفول من أبي محمود"…
لكن أخي وائلِ كان يسرع إلى المكتبة الخشبية، التي وضع، على أسفل رفٍ منها، حصالته التي أهدتها إليه أمُّنا! فنسمع صوت القطع النقدية المعدنية المتساقطة في الحصّالة، وكان هذا يثيرني حقّاً! وأتساءل: "لِمَ يستطيع وائل الصّغير أنْ يوفّر نقوده، ولا تغريه بالشراء من دكّان البقال؟!" وكثيراً ما شعرتُ بالحسد والإعجاب بقدرته على الصبر بتوفير (خرجيته) بينما، نحن الكبار، لا نستطيع مقاومة إغراء الحلوى اللذيذة، والأشياء الجميلة التي تلمعُ خلفَ زجاج المعارض التجارية؛ وقررتُ مرّة أنْ أشتري حصّالة وقلت في نفسي:
-"سأضعُ فيها كلَّ ما أحصلُ عليه من نقودٍ منْ أبي وأمّي وجدتي".
ولكنني لم أستطعْ شراء الحصّالة؛ فقد تبخّرت نقودي قبل أن أدخل باحة المدرسة، لأنّ البخار المتصاعد من عربة العم أبي محمود، بائع الفول حرّك الرّغبة داخلي؛ أن أتذوق طعم الفول مع الحمض؛ وشعرت بالنّدم ولكن بعد فوات الأوان، وشغلني ذلك كثيراً، حتّى أني شردتُ أثناء شرح الدّرس ونبهني المعلم:
-"مالكَ ياربيع.. هل تشعرُ بشيء؟ ماذا يشغلُ ذهنك هذا اليوم؟".
وشعرتُ بخجلٍ شديدٍ، وحسبت أن كلّ زملائي ينظرون إليّ!
وفي البيت قلت لأمّي: "ماما.. أريد حصالة كحصّالة وائل".
لاحظت أمّي علامات الانزعاج باديةً على وجهي فقالت:
-"هل هذا ما يشغل بالك ويزعجك؟".
قلت: "سأحاول أن أوفّر مثل وائل".
ابتسمت أمّي قائلةً:
-"لا تقلقْ.. سيكون لك حصّالةٌ هذا اليوم وقبل مغيب الشّمس".
فعلاً، لقد برّتْ أمّي بوعدها، واشترتْ لي حصالةً تشبه حصالة وائل، لكنها تختلف باللون! حملتُ الحصالة بيدين مرتعشتين؛ وكأنّي أحمل كنزاً! ودارت في ذهني أحلام كثيرة..
-"ستمتلئ حصّالتي بالنقود.. وسأشتري ما أشتهي من الألعاب والحلوى..
سأشارك في الرّحلة المدرسية دون أن أكلّف أبي دفع المبلغ المطلوب.. سأصلح دراجتي المعطّلة، وألعب بها في أوقات فراغي".
وتوالتِ الأفكار والأحلام.. كانت أمّي تراقبُ انفعالاتي البادية على وجهي والابتسامة تضيء وجهها!
قالت وهي تعطيني عدّة قطع من النقود المعدنية:
-"ضعْ هذه النقود في حصّالتك الجديدة، وحاولْ أن تضيف إليها كلّ صباح".
أسقطت القطع النقدية داخل حصالتي قطعةً قطعةً بينما كانت تدور صور كثيرة في مخيلتي.. دراجتي التي تنتظر الإصلاح، الرحلة المدرسية.. عربة الفول والبخار المتصاعد منها، القصص المصورة في واجهة المكتبة القريبة من بيتنا!
اختلطت كلّ هذه الصّور وأنا أضع حصّالتي الجديدة إلى جانب حصّالة أخي وائل!
***
ماذا يقول البحر
وقفت صبا على شاطئ البحر، نظرت إلى البعيد حيث يلتقي البحر بخط الأفق، كان المنظر مدهشاً حركت عينيها في جميع الجهات رأت زورقاً بعيداً، كان يبدو صغيراً جداً، تمنت في نفسها لو أنّها تركب هذا الزورق، وتجوب أنحاء البحر الرّحب، وتذكرت أنّها لم تتعلم السباحة بعد! فإذا سقطت في الماء ماذا يجري لها؟
لامست موجةٌ قدمي صبا بلطف، وجعلتها تنتبه من شرودها، وجلست كي تراقب مدّ الموج وجزره، اقتربت أكثر حيث تلطمها الموجات المتلاحقة، أدهشها هسيس الموج فوق الرّمل في تقدمّه وتراجعه، وتساءلت: "ماذا يقول البحر للرمل، وماذا يقول الرّمل لـه؟". وخطر لها أن تكتب اسمها في دفتر الشاطئ: كتبت (صبا) جاءت يد البحر ومحتها، أعادت صبا الكتابة، امتدّتْ يدُ البحر مرّة أخرى ومحتها، لعبت صبا مع البحر طويلاً، بَنَتْ بيتاً كبيراً من الرّمل، وجعلت لـه سوراً من الرّمل أيضاً لكن البحر أرسل موجةً كبيرة هدمت لها البيت والسّور، لم تستسلم صبا بل أعادت بناء البيت الرّملي والسور أيضاً، لكن هذه المرة، في مكان بعيد عن يد البحر وعندما أنهت بناء بيتها الرّملي نفضت يديها من آثار الرّمل وقالت موجهة كلامها إلى البحر: "هيه.. لا يمكنك هدم بيتي هذه المرّة" كانت الأمواج تركض وتركض، لكنها لم تصل إلى البيت الذي بنته صبا، كانت صبا سعيدة لقد لعبت مع البحر طويلاً.
حلم أسامة
كان أسامة يقفز وهو يترنّم "ترلّلا.. ترلّلا، ترلّلا" حين سمع هدير طائرة في السّماء، وقف ورفع رأسه إلى أعلى؛ محاولاً أن يرى هذه الطائرة! وتذكر سؤال معلِّمه للتلاميذ في الصّف: "ماذا تحبّ أن تكون في المستقبل؟" وحينها فكر أسامة: هل أقول: أحبّ أن أكون معلماً، أو لاعباً رياضياً؟" تذكر صياح التلاميذ "أنا أحب أن أكون سائق سيارة أنا أريد أن أكون شرطي مرور، وأنا سأكون فناناً، أنا… أنا…". كانت الطائرة قد غابت عن عيني أسامة وصوت محركها تلاشى أيضاً، لكن مازال صدى ذلك الصّوت في ذهن أسامة.. صاح أسامة بصوت عالٍ: أحبّ أن أكون طياراً، وضاع صوته في الفضاء مثل صوت الطائرة، وبدأ خياله يصوّر لـه نفسه طياراً يقود طائرة حربية تحمي سماء الوطن، ثم طياراً يقود طائرة زاخرة بالرّكاب.. كان يقف ويراقب السماء شاهد غيوماً متفرقة وبضع حمامات تطير في سرب واحد، عاد يقفز فرحاً وهو يردّد: ترلّلا.. تلالّلا.. أنا طيار، أنا طيار…
أولاد قوس قزح
دهش الأولاد حين علموا أنّ (ماهر) سيملأ سلّته بالكرز، فشجر الكرز لا يثمر في الشتاء!
قالت سوسن: "من أين ستملأ سلّتك بالكرز؟" أشار ماهر بيده إلى السّماء:
-"انظروا، هذه شجرة قوس قزح تحمل كرزاً كثيراً". نظر الأولاد إلى الجهة التي أشار إليها ماهر؛ كان قوس قزح بألوانه المميزة يبدو رائعاً.
قال مجد: "في بستان قوس قزح أشجار تحمل برتقالاً ناضجاً".
صفّقتْ (نجود) وصاحتْ بصوت عالٍ:
"ما أجمل هذه الحبال الملونة! سأختار الحبل الأصفر لألعب لعبة نطِّ الحبل"
وقال (منار): "أنا أرى حقلاً أخضر، سآخذ خروفي ليرعى وجبةً من العشب الطري".
قالت تيماء: "إنّه قلمي الأزرق، صعد ليلوّن السماء".
أمّا فاطمة، فقد تذكرت أنّ أمّها طلبت منها أن تشتري أقراص "نيل" لتجمّل الغسيل.
فقالت: "سأحمل الغسيل إلى بحيرة قوس قزح النّيلية، ليصبح الغسيل زاهياً".
كانت عبير تنظر إلى قوس قزح مع رفاقها ورفيقاتها فقالت: "ألمْ تشاهدوا أزهار قوس قزح البنفسجية؟ انظروا.. ما أجملها!".
قال أحدُ الأولاد: "سأرسم قوس قزح في دفتري كي لا أنساه".
وحين غاب قوس قزح حزن الأولاد كثيراً.
قالت سوسن: ربّما ركب أولاد قوس قزح ظهر غيمة وذهبوا ليحضروا لنا الهدايا الجميلة!"
وتمنّى مجد أن يهطل المطر بغزارة ليسقي الحقول وكانت نجود تقول لأصدقائها:
"ما أجمل أن أحصل على منديل لأقدّمه هدية لأمي في عيدها!"
وأخيراً قرّر الأولاد أن يلعبوا لعبةً مفيدة.
-قال ماهر: "تعالوا يا أصدقائي نكوّن قوس قزح". تجّمع الأولاد فرحين. قالت سوسن:
-"وكيف ذلك؟".
قال ماهر: "أنا الكرز الأحمر".
قال مجد: "أنا البرتقال، الجميع يعرفني".
قالت نجود: "أنا الليمون الأصفر، تحتاجون إليّ دائماً".
قال منار: "أنا العشب الأخضر، لتأتِ كلّ الخراف وترعى".
أمّا تيماء فقد صفّقت ضاحكة وهي تقول:
-"أنا البحر يحبني الجميع، ويتمتعون برزقتي الصافية. في الصّيف أحمل المراكب الصغيرة، والسفن الكبيرة ويسبح الأطفال في مياهي مع الأسماك الملونة". غمزت فاطمة بعينها مبتسمة:
-"سأطير إلى البحر وأغمر الغسيل في مياهه الزّرقاء ليكتسب زرقة السّماء الصّافية".
ظهر قوس قزح مرّة ثانية، كان المطر يهطل مبشراً بعطاءات الحقول، وكان الأولاد يرقصون تحت المطر!