الشيخ المسن والموت البطيء!!!

عطوفة · 2015-12-25, 21:45

صاحبنا:دعنا الآن من الماضي الجميل بكل حسناته يا سيدي!ولنعش الحاضر كما هو!لكن قبل ذلك كله!أريد منك أن تجيبني على سؤال كان قد حيرني!فقل لي بربك يا رجل:كيف هان عليك أن تصيح على شخص لا تعرفه يسير في الشارع كي تحادثه وتجلس معه!وحولك هذا العدد الهائل من هؤلاء الرجال والنساء والأولاد والبنات والأحفاد والأخوة والأخوات والأقارب والجيران؟وأشار صاحبنا إليهم بيده بعد أن شاهدهم يسرحون ويمرحون من حوله!.

بلمح البصر انتهى مشوار حياتي بموت بطيء كما ترى!

الرجل المسن:آآآآخ … آخ …. يا ولدي بلمح البصر كان قد انتهى مشوار حياتي إلى موت بطيء كما ترى!.

صاحبنا:ومن أماتك يا رجل؟فَالله وحده هو الذي يحيي ويميت!.

الرجل المسن:أماتني يا ولدي كل من تراهم من أمامك!ومن خلفك!وعلى يمينك!وعلى يسارك يسرحون ويمرحون من حولي!كبيرهم قبل صغيرهم!.

الإنسان كحبة ليمون يُحتفظ بها لعصارتها وكلما كانت هذه الحبة ممتلئة بالعصير أكثر كلما احتفظ بها الناس أكثر!.
صاحبنا:أَيعْقل أَن يُمِيت الإِنسَان من كان قد أوجده في هذه الحياة؟.

الرجل المسن:اعلم يا ولدي إن كنت لا تعلم!أن الإنسان منا كحبة ليمون!يحتفظ الناس بها لعصارتها!وكلما كانت هذه الحبة ممتلئة بالعصير أكثر كلما احتفظ بها الناس أكثر!.

صاحبنا:حديثك هذا يا رجل مليء بالحكمة والموعظة الحسنة!وينم عن تجربة غنية بالأحداث!فحدثني يا رجل أكثر عن هذه الحياة إذا سمحت!.

ما أن ولدتني أمي حتى وجدت الجمِيع من حولي يفركون شفاهي ويضغطون على خدودي كي يعلمونني الابتسام!

الرجل المسن:ما أن ولدتني أمي يا ولدي حتى وجدت الجمِيع من حولي في استقبالي ملاعبين مداعبين!يفركون شفاهي ويضغطون على خدودي كي يعلمونني الابتسام!وكانوا في ذلك الوقت يبتسمون لي أكثر مما أبتسم لهم بكثير!لا بل كانوا يطيرون فرحاً عندما كنت أبتسم لهم!وبعد أن علموني الابتسام أصبح شغلهم الشاغل أن يعلمونني الكلام! فأصبحوا يُغيّرون من كلامهم!ويتكلمون معي بلغتي المكسرة تشجيعاً لي على النطق والكلام!.

وكانوا قد جهزوا لي غرفة نوم قبل أن أن أدخل إلى الحياة!

وكانوا قد جهزوا لي غرفة نوم قبل أن أن أدخل إلى الحياة!وقاموا بتجهيزها بكل أنواع الألعاب كي أتسلى بها في حال غيابهم عني!وما أن بدأت في المشي حتى وجدتهم يمسكون بيدي!ويسيرون بي كي يعلمونني على المسير!وما أن كبرت أكثر حتى أصبحت طلباتي عندهم كلها أوامر!لا بل أصبحوا يأتون لي بأشياء لم أفكر بها ولم أطلبها منهم!.

في مرحلة شبابي لم أبخل على زوجتي وأولادي وإخوتي وأخواتي وأقاربي وأصدقائي وحتى جيراني!.

وبعد أن أصبحت شاباً يا ولدي حاولت أن أعتمد على نفسي فلم أجد في وطني ما يحقق طموحي!فتغربت إلى بلاد الله الواسعة!وتحملت قساوة الغربة وشظف العيش فيها!وهناك بعد أن كونت نفسي وأمنت مستقبلي تزوجت!ولم أبخل على زوجتي بشئ!فأعطيتها اسمي ومالي وبيتي وعنواني!ولم تكن تطلب شيئاً إلا وكنت قد أحضرته لها من الإبرة إلى السيارة!وبعد أن أنجبت البنين والبنات!لم أبخل على أحد منهم بشئ!فبعد أن علمتهم وأوصلتهم بر الأمان!تزوج الأولاد وتزوجت البنات!وخلفوا البنين والبنات!وامتد عطائي إلى أحفادي أيضاً!لا بل إلى كل من كان يحتاج من إخوتي وأخواتي وأقاربي وأصدقائي وحتى جيراني!.

وعندما اقتربت من النهاية أكثر نسيت الابتسام !

وعندما اقتربت من النهاية انقلبت الأمور رأساً على عقب!فنسيت الابتسام!لأنني لم أجد من كل هؤلاء من يبتسم لي أو يحاول أن يعيد لي الابتسام!ونسيت الكلام بعد أن ابتعد عني كل هؤلاء!فتيبس لساني في حلقي!ولم أعد قادراً على ضبط مخارج الحروف!وبدأت أتلعثم في الكلام!ولم أجد من يُصححه لي!وأصبحت أتعثر في مشيتي!ولم أجد من يسندني!وأصبحت غير قادر على تناول طعامي وشرابي وارتداء ملابسي بعد أن خانتني يداي في مسك الأشياء!.

وابتعد عني كل من كانوا يتمنون مني ولو ابتسامة!

وابتعد عني كل من كانوا يتمنون مني ولو ابتسامة!ولم يكتفوا بذلك بل فرضوا علي العزلة!مما جعلني أعود إلى الماضي البعيد كي أعيشه بدلاً من الحاضر!وكانوا بذلك قد أوقعوني في المحظور دون أن يدروا!لأن من كنت قد عايشتهم في الماضي هم أموات في هذه الأيام!فعشت بين الأموات أتذكر أكلهم وكلامهم وقصصهم!مما جعلني أهرب من الواقع وأعيش في الماضي!فاتهموني بالخرف وشددوا علي الخناق أكثر!.

أصبحت أتمنى أن أكون قطة كي يلاعبني الصغار والكبار!.

ومما زاد الطين بلة أن من هم حولي ويدّعون محبتي كانوا مقتدرين مادياً!فأحضروا لي خادمة فلبينية!لا أفهم عليها ما تقول!وقالوا لها أن المطلوب منها أن ُتبقي على هذا الرجل حياً لا أكثر ولا أقل!فأصبحت بذلك لا أقارن نفسي بالبشر بل أصبحت أتمنى أن أكون قطة كي يلاعبني الصغار والكبار على حد سواء!.

لا بل أصبحت في بعض الأيام يا ولدي أحسد هذا الكلب وأشار بيده إلى كلب مربوط بجانبه عندما أسمع زوجة ابني وهي تطلب من زوجها أن ينفس عن هذا الكلب بعد يوم ماطر!وأصبحت أتمنى أن يعاملني كل من هم حولي مثل ما يعاملون هذا الكلب المحظوظ!لهذا يا ولدي أصبحت أطلب الموت وأنا حيّ!ليس حباً بالموت بل حباً في الابتعاد عن كل من تراهم من حولي!.

شيخ عرب

صاحبنا:دعني أن أكون صريحاً معك أكثر من اللزوم فأنا لا أصدق ما تقول به يا رجل!فأنا أراك من بعيد كشيخ عرب اللهم لا حسد!فأنت ما شاء الله تجلس على كرسي!وأمامك طاولة مستديرة!وفوقها إبريق من الماء البارد!وبجانبه كأس من زجاج لتشرب منه كلما شعرت بالعطش!وحافظة للقهوة كي تبقى ساخنة لتشرب منها وقتما تشاء!لا بل تسقي غيرك منها إن أحببت!وفوق ذلك كله ترعاك خادمة فلبينية جميلة!وهذا كل ما يتمناه كل رجل مسن مثلك!.

الرجل المسن:آآآخ … آخ … يا ولدي …!ألم تسمع بقول الشاعر العراقي معروف الرصافي حين قال:لا يخدعنك هتاف القوم للوطن فالقوم في السر غير القوم في العلن!

منقوووووووول