بسم الله الرحمن الرحيم
قد تغيب أحياناً عن الأولاد دوافع تصرفات الوالدين تجاههم في بعض المواقف السلبية، ويعجز الوالدان عن بيان الأسباب لاعتبارات كثيرة، ما يؤدي بالأولاد إلى الوقوع في مفاهيم مغلوطة يتوهمون من خلالها عدم محبة الوالدين لهما، ولهذا أحببتُ أن أوجِّه هذه الرسالة بلسان الأب المشفق على أولاده من الذكور والإناث، ليقفوا بأنفسهم على المشاعر الحقيقية لكل أب تجاههم، فأقول:
ولدي العزيز: إن محبتي لك كبيرة، فقد فطرني الله على حبك، وقد استبشرت بك منذ يومك الأول، وكنت أراك أمامي منذ أول تكوينك إلى أن كبرت وترعرعت، فكانت محبتي لك تزداد يوماً بعد يوم، وسعادتي بك تكمل لحظة بعد لحظة، وكانت ابتسامتك التي تملأ البيت بهجة، تملأ قبل ذلك قلبي سروراً وفرحاً، حتى كنت لي كما قال الشاعر:
فِلْذَةٌ مِن صَمِيمِ قَلْبِي، وجُزْءٌ * مِن فُؤادِي، وقِطْعَةٌ مِن ضُلُوعِي
ولدي العزيز، إن محبتي لك توجب علي كأب تضحيات كثيرة من أجلك، أوجبت علي الصبر والتحمل والجد والاجتهاد وبذل الوسع من أجل أن أجعلك على صورة مرضية عند الله وعند الناس، بأن آخذ بيدك لترتقي في مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وأن أجول بك في بساتين الخلال الصالحة، فأناولك من ثمارها، وأرويك من معينها، وأروِّحك في ظلالها، وأدلك على مسالك التجارة الرابحة التي تسعد بها في الدنيا والآخرة، وأن أحرص على صلاحك وإصلاحك وإنارتك، فهذا واجبي كأب، وستحاسبني أنت غداً إن قصَّرت معك اليوم في التعليم والتوجيه والتربية الإرشاد.
ولدي العزيز، من الممكن أن أكون قد قسوت عليك يوماً ما، وربما تكون قد وجدت مني كلمةً قاسيةً في لحظة من اللحظات على خطأ أخطأته، أو من أجل إهمالك لصلاة من الصلوات، أو على تقصيرك في عبادة من العبادات، أو على إخلالك بخلق من الأخلاق، أو من أجل أن تستمر في دراستك أو أن تجتهد في أمر ينفعك، ولكن ثق تماماً أن هذه القسوة كانت نابعة من محبَّة كبيرة جدا لك، وأن تلك الكلمة المؤلمة إنما نبعت عن محبتي لك وحرصي عليك، أتدري لماذا؟
لأني أريد أن تكون صورة مشرفة لي، صورة أفتخر بها في هذه الحياة، صورة أشعر فيها بأني قد بذرت بذرة طيبة في هذا المجتمع يتلمّس الناس خيرها ونفعها. وأذكِّرك ولدي العزيز بقول بعض الأدباء: إن الأب يرى نفسه في شخص ولده، وأنه باق به صورة وإن فني بجسمه مادة، ولذلك يحب الوالد لولده جميع ما يحبه لنفسه، ويسعى في تأديبه وتكميله بكل ما فاته في نفسه طول عمره، ولا يشق عليه أن يقال له: ولدك أفضل منك، لأنه يرى أنه هو هو، وكما أن الإنسان إذا ترقَّى في الفضيلة درجة فدرجة لا يشق عليه أن يقال له: إنك الآن أفضل مما كنت، بل يسرُّه ذلك، فكذلك تكون حاله إذا قيل له في ولده مثل ذلك.
ولدي العزيز؛ سيأتي يوم بإذن الله وتكون فيه أنت أسرة، وتكون أباً، وستحب حينها لولدك ما أحبه لك، وتحرص عليه مثلما أحرص عليك، وتعرف حينها قيمة ما أعنيه، وستتذكر بحرصك على أولادك حرصي عليك اليوم.
فأحب منك يا ولدي أن تحافظ على هوية الإسلام، وأن تؤدي ما أوجبه الله عليك من الفرائض وعلى رأسها الصلوات الخمس، وأن تحرص على الوسطية والاعتدال في أمورك كلها، وأن تحافظ على الأخلاق الكريمة، من الصدق والوفاء والتواضع والكرم والإحسان والمعاملة الطيبة مع الناس، وأن تحذر من أصدقاء السوء الذين يزينون لك المحرمات والشرور، ومن أصحاب الشُّبَة والمتشددين والمغالين الذين يبعدونك عن نقاء الإسلام وصفائه، وعليك بالأخيار الصالحين الذين يذكرونك بالله، ويحثونك على أداء حقوق الله وحقوق عباده وحقوق وطنك وقيادتك ومجتمعك، وتذكَّر يا ولدي قول الله تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}، فإياك يا ولدي ثم إياك أن تفرط في شيء من الحقوق الواجبة عليك، وخاصة حقوق وطنك وقيادتك ومجتمعك.
ولدي العزيز، قد يأتي يوم وتفقدني، وتبحث عني فلا تجدني، فيمر بك شريط ذكرياتك معي، وتتذكر المواقف التي جمعتنا، فربما تندم على لحظة أسأت فيها التصرف معي، وتتمنى لو كنت عندك حينها لتعبر عن أسفك وحرارة مشاعرك.. ولدي العزيز، أنا أنظر إلى شيء أبعد من هذه الحياة التي أعيشها اليوم معك، فما بعد هذه الحياة إلا الفراق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: »قال لي جبريل: يا مُحمَّد، عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّت، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مُفَارِقُه«، وإن أملي ومناي أن نلتقي معاً في الجنة، فتقرَّ عيني بك، ويتحقق فينا قول ربنا تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، قال بعض المفسرين: أي: ألحقنا هؤلاء المذكورين بمنازل آبائهم في الجنة، تكرمة لآبائهم لتَقَرَّ أعينهم برؤية أولادهم معهم في الجنة.. فاحرص يا ولدي على ما يقربك من ربك، وعلى ما تنال به الدرجات العلا في دار كرامته.
كتبه الشيخ
أحمد بن محمد الشحي