موضوع مميز سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة ))) - الصفحة 3 - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الكتاب و السنة

قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة )))

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2015-08-02, 12:02   رقم المشاركة : 31
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي


قصة هاجر مع إسماعيل في مكة


إن قصة إبراهيم عليه السلام من أروع القصص في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من المواقف العظيمة التي جعلته أبو الأنبياء عليهم السلام .. وقد عرض الشيخ حفظه الله إلى بعض المواقف لإبراهيم عليه السلام، وبين ما فيها من العبر والعظات؛ حتى نقتدي به في سيرنا إلى الله تعالى، وفي دعوتنا إليه سبحانه ...




روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل -هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.

قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.

قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً) أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة.. ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي.. نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا. فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.

فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره.. سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام.. أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه. فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم. سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك. قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.

ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.

فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.

زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه... وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.

أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك.. وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22]. أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.

فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة.. منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك.. وسوف يأتي.

ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام... إلى غير ذلك من القصص.

أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.

هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران.. وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.

بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها..

هاجر إبراهيم عليه السلام بـسارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها.. فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.. ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.

التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم. وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.

وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها.. فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر. وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.

هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم.. ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.

وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فـمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.

ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.

ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة.. ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.

فلما أتى عليه السلام قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].

وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء.. يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.

فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.

أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه..

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن.. فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق.. ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].

وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح.. وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا. بل قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك.. ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك.. ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه.. إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.

ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].

فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة.. ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا. بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة.. وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله.. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه.. إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة.. فأتى بالسكين وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.

وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93].. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة.. ويقول الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ [النساء:142].

ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه..

أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح.. والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام.. والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام.. والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف.. والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.

عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها. ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]. فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً. فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.

ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:

ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس.. فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.

فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم. وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه. قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني. أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.

فإبراهيم عليه السلام كان يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء.. وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.

قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.

والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:

أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر. أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس.. فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.

وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه.. ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور.. وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر.. فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.

دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا.. أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة.. فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.

وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك. فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك. قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.

ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـأبي نعيم، والبداية والنهاية لـابن كثير، وغيرها من الكتب.

الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب... فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها.. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.

وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق..]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.

مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.

وقد أسلفت في الحديث أن الله عز وجل لا يذكر في القرآن إلا المهمات الكبرى والقواعد التي ينبغي أن يستفاد منها، ولذلك من العجيب أن تجد بعض المفسرين يدندنون حول على بعض المسائل الخفيفة التي لا طائل منها، كأن يقول أحدهم: أرم: في أي بلد؟ وكم طول أعمدتها؟ وطول الخضر عليه السلام ولون بشرته.. وأشياء لا طائل منها.

ولذلك يقول سيد قطب وهو يتحدث عن القرآن وعن حياته مع القرآن: إنني عشت وأنا في الطفولة مع القرآن، فكان للقرآن طعم خاص في قلبي يوم أن كنت أسمع القرآن مباشرة، فلما كبرت وأتيت أدرس القرآن في المدارس وجدت القرآن ممزقاً. أي: أن القرآن مزق ببعض كلام الإسرائيليات، والقصص والأحاديث، وكثرة إدخال النحو والصرف فيه، ونحن لا ننكر فائدة النحو والصرف واللغة، لكن أن يحوَّل القرآن إلى كتاب نحو كأنك تقرأ في كتاب سيبويه، أو يحول إلى كتاب تاريخ كأنه البداية والنهاية، أو كتاب جغرافيا كأنك تقرأ في الأطلس.. فهذا لم ينزل القرآن من أجله، إنما القرآن كما يقول أبو الأعلى المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهذا الكتاب له خصائص ليست في كتاب آخر، يقول: فأول خصيصة: ينبغي على قارئ القرآن أن ينزع كل تصور مسبق عن القرآن، فيأتي إلى القرآن وهو يتصور أنه كتاب الله، وأنه كتاب هداية.

الأمر الثاني: أن يعلم أن القرآن لا يوافق أي كتاب آخر من تأليف البشر، فإنهم في تآليفهم يقولون: في هذا البحث ثلاثة أبواب، وفي الباب الأول ثلاثة فصول، وفي الفصل الأول ثلاث فقرات وخاتمة، ومقدمة المشرف والأعضاء.. وهذا ليس في القرآن، يقول أبو الأعلى المودودي: بينما أنت تقرأ القرآن التربوي الرافع -أي: المتحدث- تقرؤه وهو يتحدث لك عن حدائق الدنيا، وعن النخيل والأعناب، وأصوت الأطيار وخرير الماء، وعن الزهور والورود، يريد أن يبين لك التوحيد، وإذا هو ينتقل بك إلى عذاب القبر.. وبينما يصيبك الخوف والوجل من عذاب القبر وتسأل الله العافية والسلامة، وإذا به يتركك من هذا المكان ويدخل بك على الملوك؛ ليعلمك كيف ينبغي أن يعيشوا، وأن يحكموا شرع الله، وعلى القضاة وماذا ينبغي عليهم من السياسات الشرعية.. وإذا به ينتقل بك إلى ساحة الجهاد، وصليل السيوف وضرب الرماح.. وأنت هناك، وإذا به يتركك وينتقل بك إلى البيت والمرأة، والطلاق والنكاح، وماذا ينبغي أن يعيش المسلم في بيته، وما هي الأمور التي ينبغي أن تحكم في البيت... هذا هو كتاب الله، لم يؤلف مثل تأليف البشر.

الأمر الثالث: أنه لم يتفرد في فن من فنون الدنيا.. ولقد ألف العلامة الكبير طنطاوي جوهري كتاباً في التفسير، وأراد الخير، لكن قالوا: في كتابه كل شيء إلا التفسير، أراد أن يفسر القرآن فأتى بكل شيء إلا التفسير، أتى حتى بالهندسة في القرآن، فهو: يستدل على أن هناك مثلثاً وأنه موجود بقوله سبحانه وتعالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] قال: هذا يدل على أن رسم المثلث زواياه منفرجة. والخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، لقوله سبحانه وتعالى:اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. إلى أمور أخرى، وسبقه إلى ذلك الفخر الرازي، الذي قالوا فيه: إنه من أساطين الدنيا، وقد ألف كتاباً في التفسير يقع في ستة عشر مجلداً، لكنك إذا قرأته كأنك تقرأ في كتاب الطب أو في كتاب هندسة أو كتاب كيمياء أو فيزياء، وليس هناك إلا بعض اللمحات عن التفسير، حتى قالوا: فيه كل شيء إلا التفسير.

فالمقصود: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، فلم يعتنِ بالتاريخ تلك العناية، ولم يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام ولد عام كذا وكذا، وأنه كان طويلاً أو كان قصيراً، أو طوله كذا وكذا، أو عنده أبناء، وكان يفطر بكذا، ويتغدى بكذا، ويتعشى بكذا.. لم يخبرنا بشيء من ذلك.

وليس كتاب جغرافيا؛ فلم يخبرنا بالقارات ولا بالدول، وليس بكتاب هندسة؛ فلم يأت بالأشكال.. ولكنه كتاب هداية ونور وصلاح وفلاح، وهذه هي القضية الكبرى التي ينبغي أن تفهم.

موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.

يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]. هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.

وأما الكافران: فـالنمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام.. فـبختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع.. وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.

فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك.. والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك.. إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت.. ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت. فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون.. فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف.. وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا. بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن.. قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا.. إنما قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.

فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].

يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك.. فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.

يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته.. أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب. لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.

ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير... لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به... فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي... لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه. وما فائدة قوله: ثُمَّ هَدَى [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم. إن الله عز وجل يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68-69].

الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]

ولكن: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها.. بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.

إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة..ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس.. ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.

ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].

وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.. فأجرى عليه عملية الموت والإحياء.. مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء.. وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم. إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب. فقال سبحانه وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259].

هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه.. قال سبحانه تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه.. هل في ذلك شك؟!

.. وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت.. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

ثم قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟

.. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.

قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة.. فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب.. وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور.. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم.. وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة.. ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب.. لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض.. فسبحان من أنزل هذا القرآن!

فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه.. الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه... وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.

قال الله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة.. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83]. ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] وقال عند عزير: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]؟

الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟

الجواب: عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه.. ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.

سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إلى قوله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. فقال القارئ: والله غفور رحيم. فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة. فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.

الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات.. وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟

قيل: هي قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]... والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]

وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.

والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً... وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد.. هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.

إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار.. وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير.. ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:

الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.

الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.

الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس.. ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة.. حليم: أي: أنه شفيق رحيم.. فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم... القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.

وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]. وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].

لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.

وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم.. قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.

إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم.. وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.

أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:

أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم) فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله.. فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.

وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: (ماء زمزم لما شرب له) وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.

ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟

المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء.. والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد (أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم) وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.

وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً.. قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.

المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء. قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا. ليس لنا إلا اللحم والماء. فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء. فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.

المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير.. وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن... فهذه ليس فيها خير ولا بركة.. فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.

ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.









 


رد مع اقتباس
قديم 2015-08-04, 09:28   رقم المشاركة : 32
معلومات العضو
HAFID JAJA
محظور
 
إحصائية العضو










افتراضي

راااااااااااااائع










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-04, 15:46   رقم المشاركة : 33
معلومات العضو
sallah eddine
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيكم










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-06, 21:07   رقم المشاركة : 34
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي


قصة سيدنا يوسف 1
قال تعالى :

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشّيْطان لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

القصة:
كان ليعقوب من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً ، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي اخوته لم يَوْحَ إليهم.

وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.

ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوى، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين اخوته بالرسالة والنبوة - أنه ما نص على واحد من اخوته سواه فدل على ما ذكرناه.

ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حَدَّثَنا عبد الصمد، حَدَّثَنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

انفرد به البُخَاريّ. فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم، كأن أحد عشر كوكباً، وهم إشارة إلى بقية إخوته، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له فهاله ذلك.

فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها. فأمره بكتمانها وألا يقصها على أخوته؛ كي لا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.

وهذا يدل على ما ذكرناه.

ولهذا جاء في بعض الآثار: "استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود".

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معاً. وهو غلط منهم.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك هذه الرؤية العظيمة، فإذا كتمتها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.

{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي بالوحي إليك {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك اسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم؟ قال: "يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله".

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى والبزار في مسنديهما، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - على السُّدِّي عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماءها؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله فقال: "هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسماءها؟" قال: نعم. فقال: هي جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع. والضياء، والنور".

فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه.‏


قال تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَاخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم، وهم عصبة أي جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي بتقديمه حبهما علينا.

ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم، وأضمروا التوبة بعد ذلك.

فلما تمالأوا على ذلك وتوافقوا عليه {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال مجاهد: هو شمعون، وقال السُّدِّي: هو يهوذا، وقال قتادة ومُحَمْد بن إسحاق: هو أكبرهم روبيل: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي المارة من المسافرين {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم، فهو أقرب حالاً من قتله أو نفيه وتغريبه.

فأجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}. طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم.

فأجابهم الشيخ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق عليَّ أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.

{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذن لخاسرون، أي عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضاً من غلطهم وخطئهم في التعريب؛ فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.‏


{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.


لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب، أي في قعره على راعونته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح، وهو الذي ينزل ليملي الدّلاء، إذا قلَّ الماء، والذي يرفعها بالحبل يسمّى الماتح.

فلمّا ألقوه فيه أوحى الله إليه: أنه لا بدّ لك من فرجٍ ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا، في حالٍ أنت فيها عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.

قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك. وعن ابن عبَّاس {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطّخوه بشيءْ من دمٍ ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرّنك بكاء المتظلم فربَّ ظالم وهو باك، وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاءً يبكون، أي في ظلمه الليل ليكون أمشي لغدرهم لا لعذرهم.

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي في غيبتنا عنه في استباقنا، وقولهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنّا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمّنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه. {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب، قالوا: ونسوا أن يخرّقوه، وآفة الكذب النسيان. ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يَرُجْ صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسّم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته. ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاؤوا وهم يتباكون، وعلى ما تملأوا يتواطؤن ولهذا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه. وعمد أولئك إلى جَدْيٍ فذبحوه ولطّخوا من دمه جبةَ يوسف. فلّما علم يعقوب شقَ ثيابه ولبس مئزراً أسود، وحزن على ابنه أياماً كثيرة.

وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.‏


{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ، وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به فجاءت سيّارة، أي مسافرون.قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم، قاصدين ديار مصر، من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدُهم دلوه، تعلَّق فيه يوسف.

فلما رآه ذلك الرجل: {قَالَ يَا بُشْرَى} أي يا بشارتي {هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي اوهموا انه معهم غلام من جملة متجرهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي هو عالم بما تمالأ عليه اخوته وبما يُسِرُّهُ واجدوه، من انه بضاعةٌ لهم، ومع هذا لا يغيّره تعالى، لماله في ذلك من الحكمة العظيمة، والقَدَر السابق، والرحمة بأهل مصر، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملّكُه أزمة الأمورِ، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يُحَدّ ولا يوصف.

ولما استشعر أخوة يوسف بأخذ السيارة له، لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس، أي قليل نزر، وقيل: هو الزَّيف {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ}.

قال ابن مسعود وابن عبَّاس ونوف البكالي والسُّدِّي وقتادة وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهماً اقتسموها درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً. وقال عكرمة ومُحَمْد بن إسحاق: أربعون درهماً، فالله أعلم.

عزيز مصر:


{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أحسني إليه {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له، ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.

قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي {تكون} الخزائن مسلمة إليه. قال ابن إسحاق: واسمه أطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: "فكا" بنت ينوس، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.

وقال مُحَمْد بن إسحاق، عن مُحَمْد بن السائب، عن أبي الصالح، عن ابن عبَّاس: كان اسم الذي باعه بمصر، يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.


ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً. وقيل: بوزنه مسكاً، ووزنه حريراً، ووزنه وَرِقاً. فالله أعلم.

وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، أي إذا أراد شيئاً فإنه يقيض له أسباباً وأموراً لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد، فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشَّعبي: هو الحلم، وقال سعيد بن جبير، ثماني عشرة سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة، وقال السُّدِّي: ثلاثون سنة. وقال ابن عبَّاس ومجاهد وقتادة، ثلاث وثلاثون سنة، وقال الحسن أربعون سنة. ويشهد له قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.‏










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-06, 22:03   رقم المشاركة : 35
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

سيدنا يوسف وإمرأة العزيز:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ}.

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له، وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير. قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.

وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شابً بديع الجمال والبهاء، إلا انه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربُّه عن الفحشاء. وحماه عن مكر النساء. فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء. المذكورين في "الصحيحين" عن خاتم الأنبياء. في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله".


والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي}. يعني زوجها صاحب المنزل سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي احسن إلي واكرم مقامي عنده {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وقد تكلمنا على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين ها هنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا.

والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرّأه ونزّهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها. ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي هرب منها طالباً الباب ليخرج منه فراراً منها فاتبعته في أثره {وَأَلْفَيَا} أي وجدا {سَيِّدَهَا} أي زوجها {لَدَى الْبَابِ}، فبدرته بالكلام وحرّضته عليه {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. اتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها، ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة.

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قيل: كان صغيراً في المهد قاله ابن عبَّاس. وروي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والضحاك واختاره ابن جرير. وروى فيه حديثاً مرفوعاً عن ابن عبَّاس ووقفه غيره عنه.


وقيل: كان رجلاً قريباً إلى أطفير بعلها. وقيل قريباً إليها. وممن قال: إنه كان رجلاً: ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسُّدِّي ومُحَمْد بن إسحاق وزيد بن أسلم.

فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}. أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدَّت مقدم قميصه {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي لأنه يكون قد هرب منها فاتّبعته وتعلّقت فيه فانشق قميصه لذلك، وكذلك كان. ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي هذا الذي جرى من مكركن، أنتِ راودتيه عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل.
ثم أضرب بعلها عن هذا صفحاً، فقال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تذكره لأحد، لأنَّ كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربِّها فإنَّ العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلاّ انهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا انه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية، فقال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِين}.‏
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَاعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الأمراء، وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها والتشنيع عليها، في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا، لأنه مولى من الموالي، وليس مثله أهلاً لهذا، ولهذا قلن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في وضعها الشيء في غير محله.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ} أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها والإشارة إليها بالعيب، والمذمة بحب مولاها، وعشق فتاها، فأظهرن ذماً، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتتبيّن أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن. فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئاً مما يقطع بالسكاكين، كالأترجّ ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكّيناً، وكانت قد هيّأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه وأجللنه، وهِبْنَه، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم، وبهرهن حسنه، حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.
وقد جاء في حديث الإسراء "فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن".
قال السهيلي وغيره من الأئمة، معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما احسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حَوَّاء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطَّى وجهه. وقال غيره: كان في الغالب مبرقعاً، لئلا يراه الناس. ولهذا لما قدم عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم مدحته بالعفة التامة فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي امتنع {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وكان بقية النساء حرّضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشدّ الآباء، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال: في دعائه لرب العالمين، {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ}. يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف، إلاّ ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوتك.
ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أي ظهر لهم من الرأي، بعد ما علموا براءة يوسف، أن يسجنوه إلى وقت، ليكون ذلك أقل لكلام الناس، في تلك القضية، وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها، فسجن بسببها، فسجنوه ظلماً وعدواناً.
وكان هذا مما قدر الله له. ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم. ومن ها هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي: أن من العصمة أن لا تجد!.
قال الله {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} قيل كان أحدهما ساقي الملك، واسمه فيما قيل: "نبوا". والآخر خبازه، يعني الذي يلي طعامه، وهو الذي يقول له الترك (الجاشنكير) واسمه فيما قيل: "مجلث". كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما. فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه، ودلّه وطريقته، وقوله وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كلّ واحد منهما رؤيا تناسبه.
قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة، أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة، وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها، فاعتصرها في كأس الملك وسقاه. ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضواري الطيور تأكل من السّلِّ الأعلى.
فقصّاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما، وقالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}. قيل: معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول.
وقيل: معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام، قبل مجيئه حلواً أو حامضاً، كما قال عيسى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.
وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أي بأن هدانا لهذا {وَعَلَى النَّاسِ} أي بأن أمرنا ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز، وفي جبلّتهم مغروز {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
ثم دعاهم إلى التوحيد، وذمّ عبادةِ ما سوى اللهِ عزَّ وجلّ وصغّر أمر الأوثان، وحقّرها وضعّف أمرها، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي وحده لا شريك له و {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، أي المستقيم والصراط القويم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.
وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما، مما سألا عنه وطلبا منه.
ثم لما قام بما وجب عليه، وأرشد إلى ما أرشد إليه، قال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} قالوا: وهو الساقي
{وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} قالوا: وهو الخباز {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}. أي وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على كل حالة. ولهذا جاء في الحديث "الرؤيا على رِجْلِ طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت".
وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم "أنهما قالا لم نر شيئاً" فقال لهما: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان}.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجياً منهما وهو الساقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يعني أذكر أمري وما أنا فيه من السّجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السّعي في الأسباب. ولا ينافي ذلك التوكل على ربِّ الأرباب.
وقوله {فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ}، أي فأنسي الناجي منهما الشّيْطان، أن يذكر ما وصّاه به يوسف عليه السلام. قاله مجاهد ومُحَمْد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.
{فَلَبِثَ} يوسف {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل إلى السبع. وقيل إلى الخمس. وقيل ما دون العشرة. حكاها الثعلبي. ويقال بضع نسوة. وبضعة رجال. ومنع الفّراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيّف. وقال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وقال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} وهذا رد لقوله.
قال الفراء: ويقال بضعة عشر، وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، وبضع وألف، وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين. وفي الصحيح "الإيمان بضع وستون شعبة، وفي رواية: وسبعون شعبة، وأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".
ومن قال: إن الضمير في قوله {فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ} عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روي عن ابن عبَّاس وعكرمة.
والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه، تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك، ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل، ولا ها هنا بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.
فأما قول ابن حبان في "صحيحه" عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسفُ في السجن ما لبث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجحمي، حَدَّثَنا مسدد بن مسرهد، حَدَّثَنا خالد بن عبد الله، حَدَّثَنا مُحَمْد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها "اذكرني عند ربك" ما لبث في السجن ما لبث، ورحم الله لوطاً، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" قال: فما بعث الله نبياً بعده إلا في ثروة من قومه".
فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومُحَمْد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدِّها. والذي في "الصحيحين" يشهد بغلطها، والله أعلم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُون، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضةٍ هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلتهن فاستيقظ مذعوراً.
ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أُخر دقاق يابسات، فأكلنهن فاستيقظ مذعوراً. فلما قصها على ملأه وقومه، لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي أخلاط أحلام من الليل، لعلّها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك، ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصّاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا. وذلك عن تقدير الله عز وجل، وله الحكمة في ذلك، فلما سمع رؤيا الملك، ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.
ولهذا قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} أي تذكر {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين، وقرأ بعضهم، كما حكي عن ابن عبَّاس وعكرمة والضحاك: {وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد نسيان، وقرأها مجاهد {بَعْدَ أُمَّةٍ} بإسكان الميم، وهو النسيان أيضاً، يقال أمِهَ الرجل يأمَه أمهاً وأمها، إذا نسي. قال الشاعر:
أمِهْتُ وكنتُ لا أنسى حديثاً *** كذاكَ الدّهرُ يزري بالعُقُولِ
فقال لقومه وللملك {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي}، أي فأرسلوني إلى يوسف، فجاءه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له، وهذا غلط، والصواب: ما قصّه الله في كتابه القرآن لا ما عرَّبه هؤلاءِ الجهلة الثيران، من فري وهذيان.
فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعاً، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبّر لهم ما كان من منام الملك الدّال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبهما سبع جدب: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.
فعبّر لهم. وعلى الخير دلّهم وأرشدهم، إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجَدْبِهم وما يفعلونه من ادّخار حبوب سنّى الخصب في السبع الأول في سنبله، إلاّ ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل. وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
لما أحاط الملك علماً بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السُّدِّيد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته، ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرَّسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد انه حبس ظلماً وعدواناً، وأنه بريء السَّاحة مما نسبوه إليه بهتاناً {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} قيل: معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إليّ، أي فمر الملك فليسألهن: كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي؟ وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد؟
فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد و{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.
فعند ذلك {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} وهي زليخا: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}. أي: ظهر وتبيّن ووضح، والحق أحق أن يتبع {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي فيما يقوله من أنه بريء وأنه لم يراودني وأنه حبس ظلماً وعدواناً وزوراً وبهتاناً.
وقوله {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قيل إنه من كلام يوسف أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب. وقيل إنه من تمام كلام زليخا، أي: إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة.
وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين الأولين. وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى، والله أعلم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه قال {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي اجعله من خاصّتي ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلمّا كلمّه وسمع مقاله وتبين حاله {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي ذو مكانة وأمانة. {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنّى الخصب، لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم، وأخبر الملك إنه حفيظ، أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء.
وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.
وعند أهل الكتاب أن فرعون عظّم يوسف عليه السلام جدّاً، وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير وطوّقه الذهب وحمله على مركبه الثاني، ونودي بين يديه، أنت ربُّ ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي.
قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة الشأن.
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته، وولاها يوسف.
وقيل: إنه مات، زوَّجَهُ امرأتَهُ زليخا، فوجَدها عذراء لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين، وهما:
أفرايم، ومنسا. قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل فأحبَّه الرجال والنساء.
وحكي أنَّ يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وفي كل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنّهِ فالله أعلم.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي أين شاء حل منها مكرماً محسوداً معظماً.
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} من أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن، مع ما يدّخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.
ولهذا قال: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
ويقال: إن قطفير زوج زليخا كان قد مات فولاه الملك مكانه وزوجه امراته زليخا فكان وزير صدق.
وذكر مُحَمْد بن إسحاق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام والله أعلم. وقد قال بعضهم:
وراءَ مضيقِ الخوفِ متّسع الأَمن ** وأولُ مفروحٍ به غايةُ الحزْن
فلا تيأسَنْ فالله ملّك يوسُفاً ** خزائنَه بعدَ الخلاصِ من السِّجن
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون، ولَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِي، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ، وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
يخبر تعالى عن قدوم أخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاماً، وذلك بعد إتيان سنّى الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد.
وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية ديناً ودنيا. فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له، فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه، فأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس، جئتم لتأخذوا خير بلادي. فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أبٍ واحدٍ من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلاً، ذهب منّا واحدٌ وصغيرنا عند أبينا، فقال: لا بد أن استعلم أمركم. وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم وأحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر وفي بعض هذا نظر.
قال الله تعالى {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كلّ إنسان حِمْلَ بعيرٍ لا يزيده عليه {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم، فقالوا: كنا إثني عشر رجلاً، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا، فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.
{أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي قد أحسنت نزلكم وقِرَاكم، فرغَّبهم ليأتوه به، ثم رهّبهم إن لم يأتوه به، قال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِي} أي فلست أعطيكم ميرة، ولا أقربكم بالكلية، عكس ما أسدى إليهم أولاً.
فاجتهد في إحضاره معهم، ليبلِّ شوقه منه بالترغيب والترهيب
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنجتهد في مجيئه معنا، وإتيانه إليك بكل ممكن {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي وإنا لقادرون على تحصيله.
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم، وهي ما جاؤا به يتعوّضون به عن الميرة، في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم. وقيل: خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية. وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة.
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم، على أقوال سيأتي ذكرها. وعند أهل الكتاب: أنها كانت صرراً من وَرِق، وهو أشبه والله أعلم.‏
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومَحْلِهم {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ} بسببه {كَيْلَ بَعِيرٍ}.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر.
وكان يعقوب عليه السلام اضنّ شيء بولده بنيامين، لأنه كان يشمّ فيه رائحة أخيه، ويتسلّى به عنه، ويتعوض بسببه منه.
فلهذا قال: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلاّ أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.
أكدّ المواثيق، وقرّر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغني حَذَرٌ من قَدَر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعثّ الولد العزيزَ، ولكنَّ الأقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم.
ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من بابٍ واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة. قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين وذلك لأنّهم كانوا أشكالاً حسنة، وصوراً بديعة. قال ابن عبَّاس ومُحَمْد بن كعب وقتادة والسُّدِّي والضحاك.
وقيل: أراد أن يتفرّقوا لعلهم يجدون خبر ليوسف، أو يُحَدَّثُون عنه بأثر. قال إبراهيم النخعي. والأول اظهر، ولهذا قال: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وقال تعالى {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز، من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل، وأخذوا الدّراهم الأولى، وعوضاً آخر.
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَالله أعلم بِمَا تَصِفُونَ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ}.
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وإيوائه إليه وإخباره له سرّاً عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاّه عما كان منهم من الإساءة إليه.
ثم احتال على أخذه منهم، وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته. وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها الناس الطعام، عن غرة في متاع بنيامين. ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صُواع الملك، ووعدهم جعالة على ردِّه حِمْل بعير، وضمّنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجّنوه فيما قاله لهم: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا له من السّرقة.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. وهذه كانت شريعتهم أن السّارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
قال الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ليكون ذلك أبعد للتهمة، وأبلغ في الحيلة، ثم قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي لولا اعترافهم بأنّ جزاءه {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي في العلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
وذلك لأنّ يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأياً، وأقوى عزماً وحزماً، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك، من قدوم أبيه وقومه عليه، ووفودهم إليه.
فلما عاينوا استخراج الصّواع من حمل بنيامين {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون يوسف. قيل كان قد سرق صنم جدّه، أبي أمه، فكسره. وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه، وهو صغير، منطقة كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها، وفي حضانتها لمحبتها له. وقيل: كان يأخذ الطّعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل: غير ذلك. فلهذا {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} وهي كلمته بعدها، وقوله {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَالله أعلم بِمَا تَصِفُونَ} أجابهم سرّاً لا جهراً، حلماً وكرماً وصفحاً وعفواً، فدخلوا معه في الترفق والتعطف، فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرّف إليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيّداً.
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}.
يقول تعالى مخبراً عنهم: إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصُوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم، وهو روبيل: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ} . لتأتنني به الا أن يحاط بكم؟ لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} أي لا أزال مقيماً ها هنا {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في القدوم عليه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يقدّرني على ردِّ أخي إلى أبي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في الظاهر المشاهدة {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}. أي فإن هذا الذي أخبرناك به - من أخذهم أخانا، لأنه سرق - أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له، ولا {هو} خلقه، وإنما {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتباً على صنيعهم في يوسف، قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!.
ثم قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}. يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة {الْحَكِيمُ} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي أعرض عن بنيه { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}
ذكّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرّك ما كان كامناً، كما قال بعضهم:
نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ منَ الهوى ** ما الحبّ إلاّ لِلحبيبِ الأوّلِ
وقال آخر:
لَقَدْ لاَمَني عندَ القُبورِ عَلى البُكا *** رَفيقي لتذْرافِ الدّموعِ السّوافكِ
فقالَ: أتبكي كلّ قبر رأيتَه ** لقبرٍ ثوى بينَ اللّوى فالدكادِكِ
فقلتُ له: إن الأَسى يبعثُ الأسى ** فَدعْني فهذَا كلّهُ قبرُ مالِكِ
وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي من كثرة البكاء {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.
فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قَالُوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تَا للَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ}.
يقولون: لا تزال تتذكره حتى ينحل جسدك، وتضعف قوّتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس، ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل، واعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى، ولهذا قال: {وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ثم قال لهم محرضاً على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.‏
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ، قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم بردّ أخيهم بنيامين إليهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنّا قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عبَّاس: كانت خَلَقَ الغِرَائِرِ والحبال، ونحو ذلك.
{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} قيل: بقبولها، قال السُّدِّي. وقيل: بردّ أخينا إلينا، قاله ابن جُرَيْج. وقال سفيان بن عُيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤا به مما لم يبق عندهم سواه، من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم، قائلاً: لهم عن أمر ربه وربهم. وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الحال الذي يعرفون فيه {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}. {قَالُوا} وتعجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مراراً عديدة، وهم لا يعرفون أنه هو {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ }.
{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم، وقوله {وَهذَا أَخِي} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا اضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}، أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا، وإيوائه لنا وشدّه معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي فضلك، وأعطاك ما لم يعطنا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}. أي فيما أسدينا إليك، وها نحن بين يديك.
{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ} أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ومن زعم أن الوقف على قوله {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ}، وابتدأ بقوله {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فقوله ضعيف، والصحيح الأول.
ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه، فإنه يرجع إليه بصره، بعد ما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.
ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.‏
{وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي، قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابن عبَّاس يقول: {وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ}، قال: لما خرجت العير هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام. وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به.
وقال الحسن البصري وابن جُرَيْج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخاً، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.
وقوله {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي} أي تقولون: إنما قلت هذا من الفند، وهو الخرف، وكبر السن. قال ابن عبَّاس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: {تُفَنِّدُونِي} تسفّهون. وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرمّون.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} قال قتادة والسُّدِّي: قالوا له كلمة غليظة.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} أي بمجرّد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب، فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً، وقال لنبيه عند ذلك {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسِيرِيني فيه ومنه ما يسرني.
فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا، ونالوا منه ومن أبيه، وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقّهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا، وما عليه عوّلوا قائلاً {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جُرَيْج وغيرهم، أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حَدَّثَنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول: "اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحر فاغفر لي" قال: فاستمع إلى الصوت، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك؟ فقال: إن يعقوب أخّر بنيه إلى السّحر. بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}.
وثبت في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له".وقد ورد في حديث "أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة".
قال ابن جرير: حدثني المثنى؛ قال: حَدَّثَنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حَدَّثَنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعكرمة عن ابن عبَّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سوف استغفر لكم ربي"يقول: حتى ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه.وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفاً على ابن عبَّاس رضي الله عنهما.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشّيْطان بَيْنِي وَبَيْنَ اخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل: إنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال مُحَمْد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال: وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً، فإنَّ المرأة راودته، وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما امحل الناس في السبع البواقي جاء اخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرّف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاؤا كلهم.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} اجتمع بهم خصوصاً وحدهما دون اخوته {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قيل: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره قال ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور. وقيل: بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر قال {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قاله السُّدِّي: ولو قيل: إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضاً، وانه ضمن قوله: ادخلوا بمعنى: اسكنوا مصر، أو أقيموا بها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} لكان صحيحاً مليحاً أيضاً.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر - وهي أرض بلبيس - خرج يوسف لتلقيه، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشّراً بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر، يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم، وقد ذكر جماعة من المفسرين، أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب - وهو إسرائيل - أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف، وتعظيماً لنبي الله "إسرائيل"، وأنه دعا للملك، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سنّى الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبو عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنساناً.
وقال موسى بن عبيدة، عن مُحَمْد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنساناً.
وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنساناً.
قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفساً وسموهم.
قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة. وقال بعض المفسرين: أحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالته "ليا" والخالة بمنزلة الأم.
وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعوّل على نقل أهل الكتاب فيما خالفه، وهذا قوي. والله أعلم.
ورفعهما على العرش، أي أجلسهما معه على سريره {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي سجد له الأبوان والأخوة الأحد عشر تعظيماً وتكريماً، وكان هذا مشروعاً لهم، ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع حتى حرم في ملّتنا.
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ} أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك: من رؤيتي الأحد عشر كوكباً، والشمس والقمر، حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ}. أي بعد الهمِّ والضيق جعلني حاكماً، نافذَ الكلمة، في الديار المصرية حيث شئت {وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ} أي البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشّيْطان بَيْنِي وَبَيْنَ اخْوَتِي} أي فيما كان منهم إليّ من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي: إذا أراد شيئاً هيّأ أسبابه ويسّرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدّرها وييسّرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي بجميع الأمور {الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه وقدره.










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-06, 22:04   رقم المشاركة : 36
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي

فوائد وعبر من قصة سيدنا يوسف

إن قصة يوسف من أروع القصص وأعجبه في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العبر والعظات، وأنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن ذل إلى عزّ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، وفيها يظهر لطف الله تعالى وعنايته بأوليائه وأصفيائه، وتأييد الله لهم في أحلك الظروف وأشدها، وغير ذلك.

بين يدي سورة يوسف عليه السلام
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مليئة بالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب، ويتبين من خلالها الفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار.

فيجب علينا أن نأخذ من هذه القصة العظة والعبرة، لا سيما وأن المبتلى في هذه القصة نبي من خيار أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

وقد اشتملت على محن وعلى أمور عظام تعجز عن حملها الجبال، ثم يتحملها ولي من أولياء الله عز وجل؛ لنأخذ من قصته الدروس والعبر، وهذه السورة نستطيع أن نلخص محتواها في جزء من آية وردت فيها، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام حينما انكشف أمره لإخوته قال لهم: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] ونستطيع أن نلخص هدف السورة في قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، فالتقوى والصبر هما سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقصة يوسف عليه السلام من أروع وأعجب القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن ذل إلى عز، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولى الألباب.

وسنتحدث عما تيسر من الدروس والعبر المستفادة من قصة يوسف عليه السلام.

ضرورة العدل بين الأولاد
في قوله تعالى: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] ذهب طائفة من المفسرين إلى أن إخوة يوسف الأحد عشر أنبياء، وهم الأسباط الذين يذكرهم الله عز وجل في كل آية يعدد فيها الأنبياء، فقد أخذتهم الغيرة بسبب تقديم يعقوب عليه السلام يوسف في المحبة، فإن يوسف عليه الصلاة السلام نال من أبيه محبة شديدة، حتى ما كان يسمح ليوسف عليه السلام أن يخرج مع إخوته لرعي الغنم، وهذه المحبة كانت من أكبر الأسباب التي أوغرت صدور إخوة يوسف ضد أخيهم يوسف عليه السلام.

ولذلك فإن العدل بين الأولاد يعتبر أمراً مهماً لا يجوز تضييعه، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (إني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) حينما أراد أن يفضل أحد الأولاد على بعض، ولذلك ما يحدث من العقوق من الأولاد لربما يكون أكبر أسبابه هو عدم العدل بين الأولاد، فهؤلاء بينوا العلة التي جعلتهم يغارون من أخيهم يوسف عليه السلام حيث قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] حتى قالوا لأبيهم عليهم الصلاة السلام جميعاً: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] ثم أدى ذلك إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، فقالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] وهذا دليل على أن تفضيل أحد الأولاد دون الآخرين يغرس الحقد والكراهية لهذا الولد المفضل، ولربما يصل إلى ذلك الأب فيكون سبباً من أسباب العقوق.

الصبر على الابتلاء وعدم الجزع
المسلم عند البلاء لابد أن يصبر، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الحياة وهي مبنية على الأكدار، يقول الشاعر:

بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الآفات والأكدار

فمن أراد أن تصفو له الحياة فعليه أن يراجع حسابه؛ لأنه يحاول أمراً مستحيلاً، فالدنيا مليئة بالمصاعب والمتاعب التي تعكر صفو هذه الحياة، وأما الراحة الأبدية والسعادة السرمدية ففي الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك أنبياء الله عليه الصلاة والسلام يلاقون في هذه الدنيا من العناء والتعب ما لا يتحمله غيرهم، ولكنهم يقابلون هذه البلايا وهذه الفتن بالصبر، ولذلك لما فوجئ يعقوب عليه السلام بالقصة المكذوبة المصطنعة في أن يوسف قد أكله الذئب قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، والصبر الجميل هو الذي لا يكون معه جزع، وما ورد من حزن يعقوب عليه السلام على ولده يوسف فإنما هي عاطفة الأب نحو ابنه، فالصبر هو طريق الفرج، وهو طريق الجنة إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فإذا ابتلي الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله أو في أي شيء من الأمور. فعليه أن يصبر الصبر الجميل، ويعقوب عليه الصلاة والسلام قال لما فقد ابنه يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] وقال لما فقد ابنه الآخر: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].

لطف الله وعنايته بأوليائه
لما عدل أخوة يوسف عن قتل يوسف عليه السلام بناءً على مشورة أخيهم وألقوه في البئر ما كانوا يظنون أن يوسف عليه السلام سيخرج من هذه البئر حياً، بل كانوا يظنون أنه سيلقى حتفه في ذلك البئر، وما كان يوسف عليه الصلاة والسلام -لولا يقينه بربه- يظن أنه سوف يخرج من هذا البئر، ولكن الله تعالى له لطف خفي، وهذا اللطف لربما يتأخر ولا يأتي إلا في ساعة الصفر، وفي آخر لحظة من لحظات احتياج هذا الإنسان إلى رحمة الله عز وجل.

من يصدق أن يوسف عليه السلام يلقى في البئر طفلاً ليصبح في يوم من الأيام ملك مصر؟ إنها آية من آيات الله عز وجل، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا بطاعة الله، وعليهم التسليم والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره في أي أمر من الأمور التي تصيبهم، فإذا كانوا كذلك فليبشروا من الله عز وجل بالفرج، فلما ألقي يوسف عليه السلام في البئر جاءت قافلة تريد مصر، فأرسلوا واردهم الذي يطلب لهم المياه فأدلى دلوه فتعلق به يوسف عليه السلام، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [يوسف:19]، ولما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها اشتراه عزيز مصر، وأوصى ملك مصر زوجته به خيراً وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21] ثم علمه الله عز وجل الحكمة وتأويل الأحاديث، وهذا كله من لطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين، فالمرء إذا تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء عرفه الله عز وجل في حال الشدة، وإذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى في حال الرخاء فإن الله عز وجل يتركه في وقت الشدة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام أنقذه الله عز وجل من كل هذه المحن والشدائد العظام والأحداث الجسام، قال الله عز وجل: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].

فقد نرى ولياً من أولياء الله يحيط به العدو من كل جانب، وتتكالب عليه فتن الحياة الدنيا ومصائبها وآفاتها، حتى يظن الناس أنه قد هلك، وأنه لا يستطيع الخلاص من ذلك كله، فإذا به يتخلص بقدرة الله عز وجل وفضله وكرمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيوسف عليه الصلاة والسلام عرفه الله عز وجل في وقت الشدة والضيق وخلصه، وندب إليه سيارة من الناس كانوا يسيرون في صحراء سيناء، ووقعوا على تلك البئر فأخرجوه منها، ثم أصبح هذا الغلام في يوم من الأيام ملكاً على مصر.

استشعار رقابة الله تمنع العبد من الوقوع في المحرمات
عرضت امرأة العزيز نفسها على يوسف، وطلبت منه أن يفعل بها الفاحشة، وكانت من أجمل النساء، إضافة إلى أنها سيدته، والمسيطرة عليه وعلى شئون البيت، بل وعلى العزيز نفسه، وكان يوسف عليه السلام شاباً في ريعان شبابه، وبحاجة إلى هذا الأمر وإلى إشباع غزيرته، وشهوة الجنس شهوة سريعة الاشتعال، لا تعطي المرء فرصة للتفكير، ولربما يغفل المرء عن إيمانه فيقع فيما حرم الله.

ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام -بحفظ من الله عز وجل- لما عرضت عليه هذه الشهوة في خلوة لا يطلع عليه إلا الله عز وجل قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

فالإنسان في مثل هذه المواقف عليه أن يراقب الله عز وجل، لاسيما إذا عرضت عليه هذه الشهوة وهو بعيد عن أعين الناس، ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة، كما في الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

وتأمل معي هذا الموقف! رجل تدعوه امرأة إلى الفاحشة، والمرأة ذات مكانة عالية، ولربما فرضت نفسها بالقوة على هذا الرجل، إضافة إلى أنها باهرة الجمال، والجمال كما هو معلوم من أشد ما يغري الرجل بالمرأة، ولكن مع ذلك كله رفض فعل الفاحشة، وقال: إني أخاف الله. فكان جزاؤه أن جعل الله عز وجل له جنتين جنة لسكنه، وجنة لأزواجه وخدمه، وإنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فلابد من أن يتفكر العبد ويتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ولذلك مدح الله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب فقال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] غابوا عن أعين الناس، ولكنهم استشعروا عظمة نظر الله إليهم، وذلك كله يدل دلالة واضحة على ثبات نبي الله يوسف عليه السلام في مثل هذه المواقف، التي لا يثبت فيها إلا من زكى الله قلبه وطهر نفسه.

تأييد الله لأوليائه في أحلك الظروف وأشدها
جعل الله عز وجل لأوليائه الصالحين في أحلك المواقف وأصعب الظروف فرجاً ومخرجاً، ويتضح هذا الأمر بجلاء من خلال ما حصل من امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام، لما جاء العزيز زوجها ووجد المرأة تلاحق يوسف عليه السلام داخل الدار، فقلبت القضية وجعلت يوسف عليه السلام كأنه هو الذي يراودها عن نفسها، وهذا الظلم شديد الوقوع على النفس وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112] فقلبت القضية ضد يوسف عليه السلام، وادعت أن يوسف عليه السلام يلاحقها ويراودها عن نفسها، وليس لدى يوسف عليه السلام من الأدلة ما يستطيع أن يبرئ به نفسه؛ لأنه ضعيف مغلوب على أمره، خادم داخل البيت كالرقيق يباع ويشترى، من سيدافع عنه في مثل هذه الحال؟ ومن سيعيد إليه ماء وجهه وكرامته؟ ومن سيرد إليه اعتباره؟ فتلك المرأة اتهمته زوراً وبهتاناً حيث قالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25].

ولكن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أنطق طفلاً رضيعاً مازال في المهد في بيت امرأة العزيز ، وشهد شهادة حق، وجعل هذه الشهادة مؤيدة بالبينات الواضحة إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فأصبح العزيز أمام الأمر الواقع، فعرف أن الذي فعل هذه الجريمة هو زوجته وليس يوسف عليه الصلاة والسلام.

فأظهر الله عز وجل براءة يوسف عليه السلام بطريقة ما كان أحد يفكر فيها أو يتصورها، وما كان يوسف عليه السلام يظن أن طفلاً في المهد سوف ينطق ليشهد ببراءته، فإن هذه تعتبر آية من آيات الله عز وجل، وهكذا يظهر الله عز وجل الحق على لسان ذلك الطفل الرضيع.

ولقد وصل ضعف الغيرة ببعض الرجال إلى أنه يرى زوجته تراود شاباً ثم لا يتمعر وجهه ولا يغضب لمحارمه فضلاً أن يغضب لله عز وجل، ولذلك تجد أن العزيز لم يغضب لما تأكد أن زوجته فيها فساد في فطرتها وانحراف في أخلاقها، وإنما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] وهذا في الحقيقة ليس موقف الرجال حينما يرون الخنا في أهليهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الدياثة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) فالرجل العاقل ذو الغيرة عليه أن يغضب في مثل هذه الأمور، وأن يضع حداً لهذه الزوجة التي تسعى إلى الفاحشة بنفسها، نسأل الله السلامة والعافية.

تحمل المؤمنين للأذى وثباتهم على الحق
في المرة الأخرى أمرت امرأة العزيز يوسف عليه السلام أن يفعل معها الفاحشة بالقوة وهددته بالسجن إن امتنع من فعل الفاحشة، فجمعت النساء اللواتي كن يلمنها على حب يوسف عليه السلام لتريهن ما فيه من جمال فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] فأغرين امرأة العزيز بهذا الشاب، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32].

ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل بها الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] فابتلى يوسف عليه السلام بحب النساء له؛ لأنه فيه نضارة، فتوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف عنه مكر النساء، حتى لا يقع فيما حرم الله، لكنه فضل العيش في السجن على الوقوع في شيء مما حرمه الله عز وجل.

ولقد أصبح كثير من الناس اليوم لا يطيق السجن ولا ساعة من نهار، ولربما يترك كثيراً من أوامر الله عز وجل مخافة أن يدخل السجن، وأصبح كثير من الدعاة في أيامنا الحاضرة يتأخرون عن واجبهم خشية أن يدخلوا السجن، وأصبح كثير من المصلحين يرجعون من منتصف الطريق حتى لا يتعرضوا للأذى، وهذه من أكبر البلايا التي أصيب بها الناس في هذا العصر.

يوسف عليه الصلاة والسلام فضل العيش في السجن على أن يفعل شيئاً حرمه الله عز وجل، وهؤلاء استرخوا وناموا واستلذوا العيش الطيب وركنوا إلى الحياة الدنيا، فلا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما من كان منهم من العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، ولكنهم لم يصدعوا بكلمة الحق خوفاً من البشر، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فالناس اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة الحق، وحاجتهم إلى ذلك أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء.

ولذلك ذكر الله عز وجل عن قوم يبدءون مشوارهم بالإيمان، ولكنهم يرجعون من منتصف الطريق دون أن يكملوا مسيرتهم إلى الله عز وجل والدار الآخرة، فإذا أوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين، وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]

إن الذي يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل مشواره كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحس بظفر أو غنيمة استقر وإلا فر، قال تعالى: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج:11].

والمؤمن بمقدار ما تزيد الفتنة والبلاء والعذاب أمامه بقدر ما يزيد إيمانه ويقينه بالله والثقة بنصره عز وجل، والمؤمن الحق حينما يرى العقبات في طريقه يزداد ثقة بالطريق الذي يسير فيه، وإذا رأى الطريق ممهدة مفروشة بالورود والرياحين فإنه يشك في صحة هذا المسار، وهذا هو الصحيح بالنسبة لسير المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ الذين تحزبوا ضدهم وأحاطوا بهم من كل جانب قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] أي: من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:22-23].

وفي عصرنا الحاصر نصبت العقبات في طريق الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتحولت السجون إلى معتقلات للمؤمنين، ولربما لو عملنا إحصائية في سجون العالم الإسلامي هل الذين يدخلونها أكثر من الجامحين الفسقة المجرمين أم من الدعاة الصالحين لرأينا أن جُلّ من يدخل هذه السجون هم المصلحون والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على صحة الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة.

فعلى الداعية المخلص أن يصدع بكلمة الحق، وأن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يلاقيه حتى لو تحمل السجن مدى الحياة، وعليه أن يتحمل الأذى ما دام ذلك في ذات الله؛ لأن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

فعلى الدعاة أن يعلموا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في بيعة سابقة مصدقة في التوراة والإنجيل والقرآن، فليس هناك خيار في مثل هذا العمل، وإنما الأمر هو جبن يصيب بعض الناس فيرجع من منتصف الطريق، يخشى على نفسه أو على ماله أو على أهله، أو يخشى أن يدخل السجن، وما عرف أن يوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قال له الطاغية الجبار: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في السجن ثلاث سنوات مقاطعاً في الشعب.

المسألة هي مسألة ابتلاء، والله عز وجل ليس عاجزاً أن ينصر أولياءه، وإنما الله تعالى يريد أن يتميز المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] فتمييز الخبيث من الطيب لا يكون إلا عند الشدائد وعند الأمور العظام، أما إذا كان الناس كلهم على مستوى كامل في الإيمان وكلهم أتقياء وليس هناك من يؤذي الدعاة والمصلحين لو كان الأمر كذلك لكان الناس كلهم دعاة ومصلحين، ولتعطلت الحكمة من خلق النار، والله عز وجل يقول: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119].

إذاً التهديد لا يضير المؤمن، والمؤمن كذلك لا يقدم شهوة حاضرة على غيب تأكد من أنه سوف يلاقيه، ولذلك لما هددت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بالسجن قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وهذا يعتبر في الحقيقة أعلى درجات الإيمان، يرفض الشهوة في الحرام، ويتحمل في سبيل هذا الرفض أن يكون سجيناً ذليلاً طريداً عن ملك العزيز ، لكنه يعرف أنه ما زال يعيش في ملك الله عز وجل وفي كنفه وحفظه، وفعلاً يدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن، ويبقى في السجن بضع سنين؛ لأنه رفض الحرام، ولأن الله عز وجل يريد أن يبتلي يوسف عليه السلام، ويريد أن يعلم الناس كيف يواجهون الطغاة والمتجبرين في الأرض، وكيف يواجهون الشهوات التي تعترض طريقهم، وأنه لا سبيل للخلاص منها إلا بالإيمان بالله والاعتصام به جل جلاله.

الإحسان وأثره العظيم في كسب قلوب المدعوين
لربما يفكر أحد الناس بأن يكون من المصلحين، لكنه لا يقدم للناس وللمجتمع خيراً ولا خدمة، ولا يمتلك موهبة جذب قلوب الناس إليه، وليس عنده لباقة، مثل هذا لا ينجح في مهمته، ولذلك تأثر السجناء بدعوة يوسف عليه الصلاة السلام لما رأوا من إحسانه، فلما جاءوا إليه قالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36] فإحسان يوسف عليه السلام هو الذي جذبهم إليه فجعلهم يذعنون لنصائحه وتوجيهاته أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] وغيرها من التوجيهات التي كان يمليها عليهم يوسف عليه الصلاة والسلام.

اقتناص الفرص المناسبة لبذل النصيحة
على الداعية أن يقدم النصيحة مع حاجة الناس إليه، حتى يتقبل الناس هذه النصيحة بدافع الحاجة، ويكون من المحسنين فيقبلون عليه، فإذا أقبل الناس عليه فإن عليه أن يستغل فرصة ما يقدمه من خدمة في سبيل الدعوة، ولذلك لما قال الغلامان: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] استغل الفرصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقدم لهما من النصائح ما يستفيدان منها مقابل أن يقضي حاجتهما، فقال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، فهما ما جاءا ليعظهما وإنما جاءا ليعبر لهما الرؤيا، لكنه رأى أنه يقدم هذه النصيحة قبل أن يعبر لهما الرؤيا؛ لأنهما بحاجة ماسة إلى أن يعبر ويفسر لهما رؤياهما التي رأياها في المنام، وهذا أيضاً منهج في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن المنهج الأول ينبني على أن الداعية أن يقدم بين يدي دعوته إحساناً ومعروفاً لهؤلاء الناس حتى يكون محبوباً لدى الجميع فإن عليه أيضاً أن يقدم النصيحة وهي ملفوفة بلفائف حاجة هؤلاء الناس.

العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر
ومن هذه النصائح التي قدمها يوسف عليه الصلاة والسلام أن العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

ومعنى ذلك الكلام أن الحكم يجب أن يكون لله كما أن العبادة لله، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل يدخل فيها الحكم، وعلى هذا فإن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر لا شك عندنا في ذلك، فإذا كانت العبادة لله فالحكم يجب أن يكون لله، ولذلك الذين يحكمون بين الناس بآرائهم ويأتون بقوانين البشر وآراء الرجال إنما هم من رءوس الطواغيت؛ لأنهم يدعون الناس إلى عبادتهم، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو أحد رءوس الطواغيت الخمسة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وبذلك يتضح ضلال العلمانيين -قاتلهم الله أنى يؤفكون- الذين يزعمون أن العبادة لله والحكم ليس لله، والله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فليس هناك فرق بين الحكم وبين العبادة، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل، ومن فروعها الحكم، فمن عبد معبوداً فإن عليه أن يخضع لحكمه، فالذين يستمدون أنظمتهم من فرنسا ومن بلاد الكفر هم عباد لهؤلاء الكفرة، ومن أخذ حكمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عبد لله عز وجل، وبمقدار ما يدنو المرء من العبودية لله سبحانه وتعالى بمقدار ما يزيد شرفه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله:

ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

لكن ذلك الذي يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين يأخذ قوانينه وأنظمته وتشريعاته منه هو عبد لذلك المخلوق.

فالحكم والعبادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا كان من وصايا يوسف عليه الصلاة والسلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فهذا أمر من أوامر الله عز وجل ويجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فالحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] والمتحاكم إلى غير الله عز وجل يصدق فيه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:60].

ظهور الحق ولو بعد أمد
الحق لابد من أن يظهر وإن اختفى مدة من الزمن، فقد بقي يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن بضع سنين، وأصبح الناس في أرجاء مصر يتحدثون بأن يوسف يهوى امرأة العزيز ، وأصبح يوسف عليه الصلاة والسلام مشوه السمعة، ولم يُقَلْ عنه: إنه سجن لأنه رفض الفاحشة خوفاً من الله عز وجل. وبقيت سمعته ملطخة مدة من الزمن إلى أن أظهر الله عز وجل الحق، فالحق لابد أن يظهر وإن غطاه ما غطاه من ظلام الليل، ولذلك اعترفت امرأة العزيز بالحقيقة وقالت: الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52] فاعترف المجرم بجريمته وأثبت نزاهة المتهم الذي ما كان موضعاً للتهمة في يوم من الأيام، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، فعلى المؤمن أن يتحمل ويصبر على ما يلاقيه من أذى وفتن وتهم في سبيل دينه دعوته، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يظهر الله عز وجل فيه براءته على الملأ أجمعين، قال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

النهي عن أن يمدح المسلم نفسه
لا يجوز للمسلم مهما كان تقياً نقياً أن يزكي نفسه، بل عليه أن يكون على خوف من أن يقلب الله قلبه؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولأن الله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، ولذلك نجد أن امرأة العزيز لما قالت: الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] قال يوسف عليه السلام: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53] على خلاف بين المفسرين هل هذا من كلام يوسف عليه السلام أو من كلام امرأة العزيز ، فنفس أي إنسان معرضة للفتنة، ومعرضة للبلاء، ومعرضة للمعصية إلا إذا رحم الله عز وجل هذه النفس، فإذا رحم الله عز وجل هذه النفس زكاها وطهرها وحفظها من الفتن، كما حفظ الله جل جلاله نفس يوسف عليه الصلاة والسلام أمام أشد أنواع الفتن التي اعترضت سبيله.

جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الكفاءة
هناك نصوص تنهى المسلم عن طلب الولاية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا ذر رضي الله عنه عن طلب الولاية، كما نهى أيضاً عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن ذلك وقال له: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) فطلب الإمارة يعتبر خلاف الشرع؛ لأن الذي يطلب الإمارة إما أنه يريد أن يرتفع على الآخرين في هذه الحياة، ومن منطلق القوة ربما يبطش بهؤلاء البشر، أو أنه يزكي نفسه، وكلاهما خطأ، ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية على بيت المال وعلى وزارة المالية في مصر، فقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فكيف نستطيع أن نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد في الأحاديث من النهي عن طلب الإمارة؟ يمكن أن نوجهها بأن القاعدة الشرعية تنص على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد ورد شرعنا بخلافه، وهذا في شريعة يوسف عليه الصلاة والسلام.

ونستطيع أن نقول -وهو الأقرب والله أعلم-: إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن البلد قد أقبلت على خطر، وأقبلت على مجاعة شديدة لربما أهلكت البلاد والعباد من خلال الرؤيا التي رآها العزيز ، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فرأى أن يتولى أمر مالية مصر لتكون الخزانة محفوظة لا يتلاعب بها أحد كما يتلاعب كثير من الناس بأموال الدول الإسلامية اليوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة) لأن مال المسلمين محترم أكثر من مال الفرد، فكما أنه تقطع يد السارق إذا سرقت مال الفرد فإن أموال الدولة والمسلمين محترمة أكثر من ذلك؛ لأنها يدلي فيها كل واحد من هؤلاء المسلمين، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن العالم قد أقبل على هاوية وعلى مجاعة، وأنه لو تولى أمر هذه البلاد فإنه سوف يصلح الأمور، ولذلك يقول العلماء: إذا علم من يطلب الولاية أنه يستطيع أن يقوم بها على خير وجه، وأن غيره ربما يقصر فتتدهور الأمور ففي مثل هذه الحال يطلب الإمارة ويطلب الولاية ويطلب السلطة. كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

لا تحمل نفس ذنب غيرها
كان أهل الجاهلية يغيرون على قوم فيبيدونهم عن آخرهم بسبب ذنب رجل واحد، وكذلك اليوم لا تسل عما يحدث، أمم تباد بسبب أخطاء أفراد، ويؤخذ الكثير بجريرة رجل واحد.

أما في دين الله عز وجل فإن كل امرئ بما كسب رهين في الدنيا والآخرة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره، ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف عليه الصلاة والسلام: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:78-79] مع أنهم عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم ليكون بدلاً عن الذي وجدوا المتاع عنده وهو أخو يوسف، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يصدر تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة، فقال حكاية عن لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79] فالذي يأخذ غير المذنب يعتبر ظالماً لنفسه وظالماً للأمة.

فلا يؤخذ الابن بذنب الأب، ولا يؤخذ الأب بذنب الابن، فـالحجاج بن يوسف وهو أشد رجل عرفه تاريخ الإسلام قساوة، كان قد أصدر ذات يوم قراراً بأنه إذا فقد الرجل فسوف يأخذ كل أهله وذويه حتى يجد ذلك الرجل، فقالوا له: لكن الله تعالى يقول: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79] فقال: كذب الحجاج وصدق الله.

الشكوى إلى الله لا إلى الخلق
الشكوى يجب أن تكون لله عز وجل وحده، وهذا هو منهج الأنبياء والمصلحين وكل مؤمن، فالشكاية التي ترفع لغير الله عز وجل مذلة، ولذلك فإن يعقوب عليه الصلاة والسلام بالرغم مما أصابه من الحزن، وبالرغم من أنه يعلم أن يوسف ما زال موجوداً على قيد الحياة لأن الله تعالى أوحى إليه بذلك لكنه لم يشك إلى أحد أولاده الأحد عشر مع أنهم يستطيعون أن يبحثوا عن يوسف، وإنما قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] لأن الشكاية لغير الله عز وجل مذلة، ومن نزلت به بلية أو فتنة أو مصيبة فأنزلها بخلق الله لم يزيدوه إلا ضعفاً، ومن أنزلها بالله عز وجل فإن لله خزائن السماوات والأرض، وهو وحده القادر على تنفيس الهموم وتفريج الكروب.

عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى
لا يجوز اليأس ولو قامت كل الأسباب التي تدل على أن هذا الأمر ليس له حل؛ لأن اليأس معناه القنوط من رحمة الله، والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو قادر على إيجاد الحلول لكل المعضلات والملمات، وكل شيء عنده بمقدار وبأجل مسمى، فاليأس من روح الله ومن رحمة الله كفر بالله عز وجل، كما قال الله تعالى: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] والمسلم عليه مهما تأخرت إجابة دعوته أو حصول مطلوبه في هذه الحياة أن يطرق باب الكريم سبحانه وتعالى دائماً وأبداً بالدعاء والتضرع، وبمقدار ما يتوسل ويتضرع بين يدي الله عز وجل بقدر ما يحصل مقصوده وينال مراده؛ فإن الله سبحانه وتعالى كريم جواد، ولذلك فإنه لا يجوز اليأس من روح الله سبحانه وتعالى.

التقوى والصبر مفتاح كل خير
أعتقد -والله أعلم- أن القصة كلها تدور حول التقوى والصبر، وأنها مفتاح لكل خير، فما حدث ليوسف ولأبيه يعقوب، وما حصل من الفتن العظيمة من إلقائه في البئر، ومن بيعيه وشرائه، ومن أذية يوسف عليه الصلاة والسلام في بيت العزيز ، ومن السجن، ومن الأذى الشديد كل ذلك درس من دروس هذه الحياة، من أجل أن يعلم الله عز وجل الناس الصبر، وأن طريق الجنة صعبة وعرة، فالجنة حفت بالمكاره، فهذا نبي من أنبياء الله لقي من الأذى ولقي من الفتن والبلايا ما لا يتحمله إلا عظماء الرجال.

ولذلك الله تعالى أخبر أن هناك عاملين هما السبب في أن يصل يوسف إلى ما وصل إليه من حكم بلاد مصر هما التقوى والصبر، فالذي لا يتقي الله عز وجل لا يدرك مطلوبه، والذي لا يصبر ويتحمل في سبيل دينه كل مشقة وكل عناء قد ينقلب على عقبيه، ولذلك الله تعالى قال: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].

ولذلك تعتبر هذه الآية هي خلاصة القصة والهدف منها، ولا يمكن أن يصل العبد إلى مطلوبه وينال مراده إلا بالتقوى والصبر.

العفو عند المقدرة
العفو عند عدم المقدرة أمر يسير؛ لأن الإنسان عاجز عن أن ينال من عدوه، لكن حينما يظفر بعدوه ثم يعفو ويتجاوز عنه ويبحث عما عند الله من الجزاء فإن هذا يعتبر أفضل طريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ولذلك فإن يوسف عليه الصلاة والسلام بالرغم مما فعل به إخوته من إلقائه في البئر، والمخاطرة بحياته، ثم أذية أبيه بفقد يوسف هذه المدة الطويلة التي قال بعض المفسرين: إنها بلغت أربعين سنة حتى ذهب بصره، ومع ذلك كله عفا عن إخوته رغم قدرته على إنزال أشد العقوبات قساوة بهم، وقابل إساءتهم بالإحسان قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:91-92] وهذا هو العفو عند المقدرة، فإن هذه صفات العظماء الأجلاء، الذين يتحملون في سبيل دعوتهم كل أذى، ولذلك فإنه عفا عنهم وقال: (لا تثريب) و(لا) هنا نافية للجنس، نفى هنا حتى العتاب، أي: لا أعاتبكم أبداً. وكونه ينفي العتاب دليل على أنه قد تجاوز عن هذا الذنب الذي فعلوه معه.

إن العفو عند المقدرة هو أفضل طريق يستطيع أن يكسب فيه المرء القلوب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظفر بأهل مكة يوم الفتح، وكان يستطيع أن يقطع رءوس القوم الذين آذوه لمدة ثلاث عشرة سنة إضافة إلى ثماني سنوات وهو مطارد في المدينة، ثم لما دخل مكة فاتحاً قال عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أيها الناس! ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب العفو عند المقدرة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عفا أيضاً عند المقدرة، وقال لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92].

قصة يوسف منهج لكل داعية يريد نجاح دعوته
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام منهج لكل داعية يريد أن ينجح في دعوته في هذه الحياة، ومنهج لكل مصلح يريد أن يكون لإصلاحه أثر في هذه الحياة، ولذلك الله تعالى يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: قل يا محمد: سبيل يوسف عليه السلام هي سبيلي أنا أيضاً في الدعوة إلى الله عز وجل قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فلا بد أن نتقيد بهذا السبيل، ونتقي ونصبر ونحسن العمل، ونتحمل الأذى في سبيل الله عز وجل، ونتحمل كل ما نلاقيه في ذات الله عز وجل ومن أجل دين الله عز وجل، وهذا سبيل يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل جميع المرسلين، وهي سبيل كل داعية، أما الداعية الذي يريد أن يسير في ركب هذه الدعوة دون أن يتحمل سجناً، أو دون أن يتحمل أذى، أو دون أن يبتلى في دينه، أو دون أن تعرض عليه شهوات الحياة الدنيا من نساء ومال ومركز وأذى وقتل وتعذيب فمثل هذا لا يسير على سبيل معتدلة، بل على سبيل معوجة، أما السبيل المعتدلة فهي ما عرفناه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

ولذلك فإن السبيل الذي يجب أن يأخذ منه الدعاة بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة منهجهم كتاب الله عز وجل، فإنه فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا.

مجيء النصر في آخر أشواط الكفاح
النصر قد يتأخر، فتضيق صدور، وييئس أقوام، ويرجع أقوام كثر من منتصف الطريق، ويرفع كثير من الناس أيديهم عن الدعوة، وقد يتراجع الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دون أن يكملوا المشوار، وقد يستكثر الدعاة المصلحون المجاهدون في سبيل الله مدة الجهاد، وكل ذلك لا يجوز في حياة المسلمين أبداً بأي حال من الأحوال؛ لأن النصر لا يأتي إلا في آخر شوط من أشواط الكفاح والجهاد، فإذا اشتدت الأمور وعظمت، ووصل الأمر إلى حد اليأس من بعض الناس حينئذٍ يأتي النصر، ولا يأتي النصر في أول الطريق إنما يأتي في آخر الطريق، ولو جاء في أول الطريق لما كان هناك كفاح وجهاد، ولكنه يأتي في آخر شوط من أشواط الكفاح حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110] والله عز وجل يقول في آية أخرى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

علينا أن نوطن أنفسنا ونحن نضع أول قدم نسلكها في هذا السبيل إلى الله عز وجل والدار الآخرة والكفاح في سبيل حياة الأمم وسعادتها في الدنيا والآخرة، نوطن أنفسنا على أن الطريق وعرة، وأنها مملوءة بالعقبات، لكن لنتأكد أنه في آخر شوط من أشواط هذا الطريق سوف يأتي نصر الله عز وجل حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-16, 21:32   رقم المشاركة : 37
معلومات العضو
karim.bensallehdz
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيكم










رد مع اقتباس
قديم 2015-08-17, 19:22   رقم المشاركة : 38
معلومات العضو
همسات ايمانية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية همسات ايمانية
 

 

 
الأوسمة
أفضل موضوع في القسم العام 
إحصائية العضو










افتراضي



قصة اصحاب الكهف




قال الله سبحانه تعالى
((أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)



قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.

ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا .. رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب .. يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا .. وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله
هل جلسوا بين قومهم؟

هل رضوا بهذا الشرك؟

هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه .. إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14].

نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً .. يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين .. فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [العنكبوت:68].

لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس .. إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة .. خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف .. خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.

نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] إنه الكهف المظلم .. إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان .. فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16].

وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام .. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18].

الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً.. ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:17-18].

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم
إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19].

فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً .. نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا. بل نمنا بضع يوم .. عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.

وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم .. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله .. يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.

لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة .. إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان .. يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21].

تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً .. يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً .. (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان .. قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح .. غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.

إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة، نرجي بعض العبر فيها إلى الخطبة الثانية .. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله:

أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية .. شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله .. آمنت أنه لا إله إلا الله.

إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.

إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.

إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها .. إلى أين يا عبد الله؟

إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.

أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).

أسمعت بـحبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.

قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.

أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.

إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).










آخر تعديل همسات ايمانية 2015-08-17 في 19:24.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
القصص القراني


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 20:20

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc