قصة هاجر مع إسماعيل في مكة
إن قصة إبراهيم عليه السلام من أروع القصص في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من المواقف العظيمة التي جعلته أبو الأنبياء عليهم السلام .. وقد عرض الشيخ حفظه الله إلى بعض المواقف لإبراهيم عليه السلام، وبين ما فيها من العبر والعظات؛ حتى نقتدي به في سيرنا إلى الله تعالى، وفي دعوتنا إليه سبحانه ...
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل -هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.
قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.
قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً) أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة.. ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي.. نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا. فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.
فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره.. سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام.. أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه. فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم. سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك. قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.
ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.
فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.
زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه... وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.
أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك.. وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22]. أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.
فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة.. منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك.. وسوف يأتي.
ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام... إلى غير ذلك من القصص.
أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.
هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران.. وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.
بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها..
هاجر إبراهيم عليه السلام بـسارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها.. فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.. ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.
التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم. وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.
وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها.. فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر. وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.
هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم.. ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.
وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فـمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.
ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.
ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة.. ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.
فلما أتى عليه السلام قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].
وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء.. يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.
فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.
أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه..
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن.. فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق.. ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].
وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح.. وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا. بل قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك.. ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك.. ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه.. إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].
فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة.. ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا. بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة.. وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله.. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه.. إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة.. فأتى بالسكين وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.
وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93].. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة.. ويقول الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ [النساء:142].
ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه..
أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح.. والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام.. والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام.. والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف.. والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها. ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]. فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.
بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً. فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.
ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:
ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس.. فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.
فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم. وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه. قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني. أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.
فإبراهيم عليه السلام كان يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء.. وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.
قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.
والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر. أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس.. فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.
وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه.. ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور.. وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر.. فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.
قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.
دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا.. أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة.. فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.
وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك. فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك. قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].
قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.
ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـأبي نعيم، والبداية والنهاية لـابن كثير، وغيرها من الكتب.
الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب... فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها.. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.
وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.
ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق..]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.
مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.
وقد أسلفت في الحديث أن الله عز وجل لا يذكر في القرآن إلا المهمات الكبرى والقواعد التي ينبغي أن يستفاد منها، ولذلك من العجيب أن تجد بعض المفسرين يدندنون حول على بعض المسائل الخفيفة التي لا طائل منها، كأن يقول أحدهم: أرم: في أي بلد؟ وكم طول أعمدتها؟ وطول الخضر عليه السلام ولون بشرته.. وأشياء لا طائل منها.
ولذلك يقول سيد قطب وهو يتحدث عن القرآن وعن حياته مع القرآن: إنني عشت وأنا في الطفولة مع القرآن، فكان للقرآن طعم خاص في قلبي يوم أن كنت أسمع القرآن مباشرة، فلما كبرت وأتيت أدرس القرآن في المدارس وجدت القرآن ممزقاً. أي: أن القرآن مزق ببعض كلام الإسرائيليات، والقصص والأحاديث، وكثرة إدخال النحو والصرف فيه، ونحن لا ننكر فائدة النحو والصرف واللغة، لكن أن يحوَّل القرآن إلى كتاب نحو كأنك تقرأ في كتاب سيبويه، أو يحول إلى كتاب تاريخ كأنه البداية والنهاية، أو كتاب جغرافيا كأنك تقرأ في الأطلس.. فهذا لم ينزل القرآن من أجله، إنما القرآن كما يقول أبو الأعلى المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهذا الكتاب له خصائص ليست في كتاب آخر، يقول: فأول خصيصة: ينبغي على قارئ القرآن أن ينزع كل تصور مسبق عن القرآن، فيأتي إلى القرآن وهو يتصور أنه كتاب الله، وأنه كتاب هداية.
الأمر الثاني: أن يعلم أن القرآن لا يوافق أي كتاب آخر من تأليف البشر، فإنهم في تآليفهم يقولون: في هذا البحث ثلاثة أبواب، وفي الباب الأول ثلاثة فصول، وفي الفصل الأول ثلاث فقرات وخاتمة، ومقدمة المشرف والأعضاء.. وهذا ليس في القرآن، يقول أبو الأعلى المودودي: بينما أنت تقرأ القرآن التربوي الرافع -أي: المتحدث- تقرؤه وهو يتحدث لك عن حدائق الدنيا، وعن النخيل والأعناب، وأصوت الأطيار وخرير الماء، وعن الزهور والورود، يريد أن يبين لك التوحيد، وإذا هو ينتقل بك إلى عذاب القبر.. وبينما يصيبك الخوف والوجل من عذاب القبر وتسأل الله العافية والسلامة، وإذا به يتركك من هذا المكان ويدخل بك على الملوك؛ ليعلمك كيف ينبغي أن يعيشوا، وأن يحكموا شرع الله، وعلى القضاة وماذا ينبغي عليهم من السياسات الشرعية.. وإذا به ينتقل بك إلى ساحة الجهاد، وصليل السيوف وضرب الرماح.. وأنت هناك، وإذا به يتركك وينتقل بك إلى البيت والمرأة، والطلاق والنكاح، وماذا ينبغي أن يعيش المسلم في بيته، وما هي الأمور التي ينبغي أن تحكم في البيت... هذا هو كتاب الله، لم يؤلف مثل تأليف البشر.
الأمر الثالث: أنه لم يتفرد في فن من فنون الدنيا.. ولقد ألف العلامة الكبير طنطاوي جوهري كتاباً في التفسير، وأراد الخير، لكن قالوا: في كتابه كل شيء إلا التفسير، أراد أن يفسر القرآن فأتى بكل شيء إلا التفسير، أتى حتى بالهندسة في القرآن، فهو: يستدل على أن هناك مثلثاً وأنه موجود بقوله سبحانه وتعالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] قال: هذا يدل على أن رسم المثلث زواياه منفرجة. والخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، لقوله سبحانه وتعالى:اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. إلى أمور أخرى، وسبقه إلى ذلك الفخر الرازي، الذي قالوا فيه: إنه من أساطين الدنيا، وقد ألف كتاباً في التفسير يقع في ستة عشر مجلداً، لكنك إذا قرأته كأنك تقرأ في كتاب الطب أو في كتاب هندسة أو كتاب كيمياء أو فيزياء، وليس هناك إلا بعض اللمحات عن التفسير، حتى قالوا: فيه كل شيء إلا التفسير.
فالمقصود: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، فلم يعتنِ بالتاريخ تلك العناية، ولم يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام ولد عام كذا وكذا، وأنه كان طويلاً أو كان قصيراً، أو طوله كذا وكذا، أو عنده أبناء، وكان يفطر بكذا، ويتغدى بكذا، ويتعشى بكذا.. لم يخبرنا بشيء من ذلك.
وليس كتاب جغرافيا؛ فلم يخبرنا بالقارات ولا بالدول، وليس بكتاب هندسة؛ فلم يأت بالأشكال.. ولكنه كتاب هداية ونور وصلاح وفلاح، وهذه هي القضية الكبرى التي ينبغي أن تفهم.
موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.
يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]. هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.
وأما الكافران: فـالنمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام.. فـبختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع.. وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.
فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك.. والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك.. إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت.. ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت. فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون.. فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف.. وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا. بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن.. قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا.. إنما قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.
فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].
يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك.. فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.
يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته.. أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب. لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.
ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير... لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به... فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي... لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه. وما فائدة قوله: ثُمَّ هَدَى [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم. إن الله عز وجل يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68-69].
الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]
ولكن: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها.. بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.
إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة..ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس.. ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.
ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].
وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.. فأجرى عليه عملية الموت والإحياء.. مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء.. وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم. إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب. فقال سبحانه وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259].
هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه.. قال سبحانه تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه.. هل في ذلك شك؟!
.. وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت.. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].
ثم قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟
.. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.
قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة.. فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب.. وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور.. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم.. وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة.. ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب.. لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض.. فسبحان من أنزل هذا القرآن!
فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه.. الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه... وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.
قال الله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة.. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83]. ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] وقال عند عزير: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]؟
الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟
الجواب: عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه.. ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.
سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إلى قوله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. فقال القارئ: والله غفور رحيم. فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة. فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.
الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].
إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات.. وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟
قيل: هي قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].
القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]... والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]
وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.
والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً... وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد.. هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.
إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار.. وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير.. ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:
الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.
الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.
الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس.. ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة.. حليم: أي: أنه شفيق رحيم.. فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم... القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.
وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]. وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].
لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.
وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم.. قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.
إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم.. وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.
أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:
أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم) فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله.. فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.
وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: (ماء زمزم لما شرب له) وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.
ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟
المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء.. والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد (أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم) وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً.. قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.
المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء. قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا. ليس لنا إلا اللحم والماء. فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء. فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.
المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير.. وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن... فهذه ليس فيها خير ولا بركة.. فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.
ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.