المشاركة الأصلية كتبت بواسطة امبراطور البحر1
لم توهب أرض في القارات الخمس , مثلما ما وهبته الجزائر من الرجال و العظماء الذين أصبح كل واحد منهم مدرسة بل جامعة في المعارف والعلوم ..و لعل أبرز و أهم شخصية إصلاحية والتي لعبت دورا كبيرا في ترسيخ إسلامية الجزائر و عروبتها هو الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى , الذي ولد بتاريخ 19 تموز - جويلية 1889 في منطقة رأس الوادي في منطقة " سطيف " التي شهدت المجزرة الفرنسية المقيتة عقب إنتصار فرنسا على النازية الألمانية , حيث كان سكان قالمة و سطيف وخراّطة ينتظرون أن يرفرف علم بلادهم الجزائر على مباني السيادة , فإذا بالدبابات الفرنسية تحصد رؤوس الأحرار الذين طالبوا فرنسا بالإيفاء بوعدها الذي قطعته على نفسها بأن الجزائريين سيحصلون على إستقلالهم إذا ساعدوا فرنسا الغازية على دحر النازية . تعلّم في ولاية سطيف على يد والده وعمه مبادئ الفقه والأصول والنحو و التفسير وهي مقدمات العلوم الشرعية ، و كان المحصلّون للعلوم الشرعية لا يكتفون بما يتعلمونه في كنف الزوايا الجزائرية التي خرجّت آلاف العلماء الأجلاّء , وكانوا يشدون الرحال إلى حاضرة الزيتونة في تونس أو جامع القرويين في المغرب او الأزهر في مصر , و كان التوجّه إلى الحجاز يمثل الذروة بالنسبة لطالب العلم , لأنه سيجاور خير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام . في سنة 1911 رحل محمد البشير الإبراهيمي إلى الحجاز وإستقر بالمدينة المنورة , و فيها أبحر في كل المعارف الإسلامية في اللغة والبلاغة و النحو والصرف والفقه و الحديث و الرجال والتفسير و القراءات , و كان يخزّن كل ما كان يسمعه من مشايخه في ذهنه لتيقنه أن الجزائر التي تتعرض لأكبر غزوة مسخ فرانكفونية و فرانكوفيلية ستحتاج إلى كل حرف عربي يتعلمه , و إلى كل آية قرآنية يتفتق ذهنه على إدراك معناها وفحواها وسبب نزولها . وعندما قصد علاّمة الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس المدينة المنورة إلتقى بالشيخ البشير الإبراهيمي و تدارسا سوية وضع الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الفرنسية المقيتة , و توافقا على أن السلاح الأول الذي يجب أن يتسلحّ به الإنسان الجزائري هو العلم ..
وعندما شعر الشيخ البشير الإبراهيمي أنه تزودّ من أساسيات العلوم الشرعية و اللغوية و النحوية و الفقهية , ترك المدينة المنورة و إستقر في العاصمة السورية دمشق في العام 1916 , و هناك وطدّ علاقاته بعلماء الشام الذين يعرفون جيدا من تكون الجزائر و من يكون علماء الجزائر , و قد إستضافوا بالأمس فارس وهران الأمير عبد القادر الجزائري والذي أصبح منارة للعلوم و العرفان في بلاد الشام . ساهم وهو في بلاد الشام في تأسيس المجمع اللغوي الذي حافظ على روعة اللغة العربية و الذي حاول ووفق مبدأ الإشتقاق أن يضع ألفاظا للدخيل الأجنبي , وقد قدم في سبيل ذلك إجتهادات إعترف له بالتفوق لاحقا طه حسين في المجمع اللغوي المصري عندما قال إنّ من أراد أن يستمع إلى زلال اللغة العربية فلينصت إلى الشيخ البشير الإبراهيمي . وعن إقامته الدمشقية قال : ولقد أقمت بين أولئك الصحب الكرام أربع سنين إلا قليلاً ، فأشهد صادقاً أنها هي الواحة الـخـضـراء في حياتي المجدبة ، وأنها هي الجزء العامر في عمري الغامر ، ولا أكذب الله ، فأنا قــريـر العين بأعمالي العلمية بهذا الوطن (الجزائر) ولكن ... مَن لي فيه بصدر رحب ، وصحب كـأولــئك الصحب ؛ ويا رعى الله عهد دمشق الفيحاء وجادتها الهوامع وسقت ، وأفرغت فيها مـا وسقت ، فكم كانت لنا فيها من مجالس نتناقل فيها الأدب ، ونتجاذب أطراف الأحاديث العلمية...".
غادر الشيخ البشير الإبراهيمي دمشق متوجها إلى الجزائر في العام 1920 , و إختار مسقط رأسه منطقة سطيف منطلقا لبداية التأسيس للنهضة العلمية و الثقافية و نشر تعاليم الإسلام و اللغة العربية ..و قد كرسّ كل حياته ووقته لمصارعة الخطط الإستعمارية الفرنسية التي كانت تهدف إلى تذويب الشخصية الجزائرية و إستئصال الإسلام و اللغة العربية من الواقع الجزائري ..و كان رحمه الله يؤمن أن نهضة الجزائر علميا و ثقافيا ليست مهمة فردية بل هي مهمة جماعية يضطلع بها المنافحون عن حرمات الجزائر الثقافية و المدافعون عن كرامتها الإسلامية , فقررّ مع العلامة عبد الحميد بن باديس أن يعمل ضمن إطار ثقافي وفكري و نهضوي فكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست في سنة 1931 وعيّن العلامة بن باديس رئيسا لها والعلامة الإبراهيمي نائبا للرئيس ، و تزامن ذلك مع إشرافه على مدرسة دار الحديث بمنطقة تلمسان.
الإستعمار الفرنسي الذي يعتبر الثقافة الإسلامية و العربية أخطر عليه من القنابل الفتاكة المخترعة حديثا من قبل الألمان , كان يرصد المشهد الجزائري بعناية و دقة , فأعتبر البشير الإبراهيمي خطرا على الأمن الثقافي الفرنسي و الذي في نظر الإستراتيجيين الفرنسيين سيجهز على كل ما صنعته فرنسا في الجزائر , فقام بإعتقال الإبراهيمي ونفيه إلى ولاية الأغواط . ولأن الشعب الجزائري العظيم كان متعلقا برموزه و أدلائه إلى طريق الكرامة والعزة والتحرير , فقد عينّ الإبراهيمي
رئيسا لجمعية العلماء بعد وفاة بن باديس رحمه الله . أطلق الجيش الفرنسي سراحه سنة 1943 ، و أعتقل ثانية بعد مذابح الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري في 08 آيّار – مايو 1945 . لم يكتف الشيخ البشير الإبراهيمي بالوعظ والإرشاد و النصح والخطب المنبرية و إصلاح ذات البين والإفتاء , بل كان صحفيا لا يشّق له غبار , طوعّ اللفظة العربية و أرسلها في كل التراكيب البلاغية التي تخدم فكرته التي كانت ناصعة نصاعة بيانه .
أيدّ الشيخ البشير الإبراهيمي الثورة الجزائرية المقدسة و إعتبرها خارطة الطريق الوحيدة و الأحدادية لإخراج الجزائر من الإستعباد الكولونيالي الفرنسي , و أصدر وهو في القاهرة هو و الشيخ الورتلاني بيانا واضح المعالم جاء فيه : بإسم الله الرحمان الرحيم
أيها المسلمون الجزائريون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت الذي يسمع الآذان الصم ، وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين المغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطلق الذي يقوم القلوب الغلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام.
كان العالم يسمع ببلايا الإستعمار الفرنسي لدياركم ، فيعجب كيف لم تثوروا، وكان يسمع أنينكم وتوجعكم منه ، فيعجب كيف تؤثرون هذا الموت البطيئ على الموت العاجل المريح ، وكانت فرنسا تسوق شبابكم إلى المجازر البشرية في الحروب الإستعمارية ، فتموت عشرات الآلاف منكم في غير شرف ولا محمدة ، بل في سبيل فرنسا، وتوسيع ممالكها، وحماية ديارها، ولو أن تلك العشرات من الآلاف من أبنائنا ماتوا في سبيل الجزائر، لماتوا شهداء، وكنتم بهم سعداء
أيها الإخوة الجزائريون
أذكروا غدر الإستعمار ومماطلته.
إحتلت فرنسا وطنكم منذ قرن وربع قرن ، وشهد لكم التاريخ ، بأنكم قاومتموها مقاومة الأبطال، وثرتم عليها مجتمعين ومتفرقين نصف هذه المد ة. فما رعت في حربها لكم دينا ولا عهدا، ولا قانونا ولا إنسانية ، بل إرتكبت كل أساليب الوحشية من تقتيل النساء والأطفال والمرضى، وتحريق القبائل كاملة ، بديارها وحيواناتها وأقواتها .
ثم حاربتم معها وفي صفها، وفي سبيل بقائها نصف هذه المدة، ففتحت بأبنائكم الأوطان وقهرت بهم أعداءها، وحمت بهم وطنها الأصلي، فما رعت لكم جميلا ، ولا كافأتكم بجميل ، بل كانت تنتصر بكم ثم تخذلكم ، وتحيا بأبنائكم ثم تقتلكم كما وقع لكم معها في شهر مايو سنة1945م ، وما كانت قيمة أبنائكم الذين ماتوا في سبيلها وجلبوا لها النصر، إلا أنها نقشت أسماء بعضهم في الأنصاب التذكارية، فهل هذا هو الجزاء؟
طالبتموها بلسان الحق والعدل والقانون والإنسانية ، من أربعين سنة ، بأن ترفق بكم، وتنفس عنكم الخناق قليلا ، فما إستجابت ، ثم طالبتموها بأن ترد عليكم بعض حقوقكم الآدمية ، فما رضيت، ثم طالبتموها بحقكم الطبيعي، يقركم عليه كل إنسان ، وهو إرجاع أوقافكم ومعابدكم وجميع متعلقات دينكم ، فأغلقت آذانها في إصرار وعتو، ثم ساومتموها على حقوقكم السياسية بدماء أبنائكم الغالية التي سالت في سبيل نصرها، فعميت عيونها عن هذا الحق، الذي يقرره حتى دستورها، ثم هي في هذه المراحل كلها سائرة في معاملتكم من فظيع إلى أفظع.
أيها الإخوة الجزائريون الأبطال
لم تبق لكم فرنسا شيئا تخافون عليه ، أو تدارونها لأجله ، ولم تبق لكم خيطا من الأمل تتعللون به. أتخافون على أعراضكم وقد إنتهكتها ؟
أم تخافون على الحرمة وقد إستباحتها، لقد تركتكم فقراء تلتمسون قوت اليوم فلا تجدونه؟
أم تخافون على الأرض وخيراتها وقد أصبحتم فيها غرباء حفاة عراة جياعا ، أسعدكم من يعمل فيها رقيقا زراعيا يباع معها ويشترى، وحظكم من خيرات بلادكم النظر بالعين والحسرة في النفس؟ أم تخافون على القصور، وتسعة أعشاركم يأوون إلى الغيران كالحشرات والزواحف؟ أم تخافون على الدين؟ ويا ويلكم من الدين الذي لم تجاهدوا في سبيله، ويا ويل فرنسا من الإسلام، إبتلعت أوقافه وهدمت مساجده ، وأذلت رجاله، وإستعبدت أهله ، ومحت آثاره من الأرض، وهي تجهد في محو آثاره من النفوس.
أيها الإخوة المسلمون
إن التراجع معناه الفناء. إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود البشري، إنما يعيش لدين ويحيا بدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها. و إنها سارت بكم من دركة إلى دركة، حتى أصبحت تتحكم في عقائدكم وشعائركم وضمائركم، فالصلاة على هواها لا على هواكم، والحج بيدها لا بأيديكم، والصوم برؤيتها لا برؤيتكم، وقد قرأتم وسمعتم من رجالها المسؤولين عزمها على إحداث ( إسلام جزائري ) ومعناه إسلام ممسوخ، مقطوع الصلة بمنبعه في الشرق وبأهله من الشرقيين. إن الرضى بسلب الأموال، قد ينافي الهمة والرجولة، أما الرضى بسلب الدين والاعتداء عليه فإنه يخالف الدين، والرضى به كفر بالله وتعطيل للقرآن. إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعتوها الباغي، وإستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن
|