الكعبة المشرَّفة
الكعبة المشرَّفة هي هذا البناء الشامخ الجليل الذي يقع في قلب الحرم المكي الشريف ، وهي قبلة المسلمين ، ومحط أنظارهم ، وأول بيت وضع في الأرض لعبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى :
وقد كان وادي إبراهيم الذي فيه الكعبة المشرَّفة لا زرع فيه ولا ماء ، فأمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يُسكن فيه ذريته ، كما ورد في صحيح البخاري من حديث طويل جاء فيه :« الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا» ، فامتثل أمر ربه ، وأسكن فيه زوجه هاجر وطفلها إسماعيل عليهما السلام ، ودعا الله عزَّ وجل قائلاً :
فاستجاب الله دعاءه ، وفجر لذريته عين زمزم ، وهيأ لهم أسباب المعيشة ، فأُهِلَ الوادي بالناس .
وأرشد الله إبراهيم عليه السلام إلى مكان الكعبة المشرفة ، وأمره ببنائها ، فبناها ، ودعا مرة أخرى ، فقال :
ثم دعا في الثالثة بقوله :
فسكنت فيه أقوام مختلفة ، وتعاقبت على ولاية الكعبة العمالقة ، وجرهم ، وخزاعة ، وقريش ، وغيرهم .
وكانت الكعبة موضع تعظيم وإجلال الناس والولاة على مكة ، يعمرونها ويجددون بنيانها عند الحاجة ، ويكسونها ، ويحتسبونه فخرًا وتشريفًا لهم ، حتى جاء الإسلام فزاد في تشريفها ، وحث على تعظيمها ، وتطهيرها ، وكساها النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده .
وكانت قريش قد بنت الكعبة قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتركت جزءًا من البيت تابعًا للحِجْر ؛ لأن النفقة قد قصرت بهم .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام ، وأن يُدخل الجزء الذي تركوه من الكعبة ، وأن يجعل لها بابين لاصقين بالأرض ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها : « لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية ، لأمرت بالبيت ، فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه ، وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين بابًا شرقيًّا ، وبابًا غربيًّا ، فبلغت به أساس إبراهيم » رواه البخاري.
وفي سنة 64هـ لما تولى حكم الحجاز عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، بَنَى الكعبة المشرفة على ما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مشتملة على ما تركته قريش ، وجعل لها بابين ، باب يدخل منه الناس وباب يخرجون منه .
وفي سنة 74هـ في عهد عبد الملك بن مروان حاصر الحجاج مكة المكرمة ، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد بنى البيت على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، يعني به قواعد إبراهيم عليه السلام ، فأمره بأن يرد الكعبة على البناء الأول الذي بنته قريش ، فنقض البناء من جهة الحجر ، وسد الباب الذي فتحه ابن الزبير ، وأعاده إلى بناء قريش . واتفق المؤرخون على أن الكعبة المشرفة بقيت على بناء عبد الملك بن مروان لم تحتج إلى بناء جديد ، ولم يصبها وهن ولا خراب في الجدران ، وكل ما احتاجت إنما هو ترميمات وإصلاحات حتى عام 1040هـ . وسبب ذلك أنه نزل بمكة في صباح يوم الأربعاء 19 شعبان سنة 1039هـ مطر غزير ، واستمر إلى آخر النهار ، جرى منه سيل كثير دخل المسجد الحرام والكعبة المشرفة ، ووصل إلى نصف جدارها ، وفي آخر النهار سقط الجدار الشامي من الكعبة ، وبعض الجدارين الشرقي والغربي ، وسقطت درجة السطح ، ولما تسرب الماء نظفت الكعبة والمسجد الحرام من الطين ومخلفات السيل ، وكتب في ذلك إلى العلماء والأمراء ، فاتفق الرأي على هدم ما بقي من الجدران ، فأمر السلطان مرادخان بهدم ما بقي من جدران الكعبة لتداعيها ، فشرع في الهدم وتلاه البناء والتعمير ، وتم الانتهاء من بنائها في 2 ذي الحجة سنة 1040هـ .
ولم تحتج الكعبة بعد ذلك إلى إعادة بناء ، وإنما هي ترميمات وإصلاحات في أوقات مختلفة ، حتى كان عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله عندما لوحظ بعض التلف في بعض أجزاء الكعبة المشرفة المصنوعة من الخشب ، وكان السقف أكثر تعرضًا للتلف من غيره وكذلك الأعمدة الخشبية ، فخيف على الكعبة من هذا الضعف والتآكل . فأمر رحمه الله بترميم الكعبة المشرفة ترميمًا كاملاً شاملاً من داخلها وخارجها على أحسن وجه ، وبدئ العمل في شهر محرم عام 1417هـ وانتهي منه في نفس السنة في شهر جمادى الثاني ، فآلت إلى أحسن حال بعد ترميمها والحمد لله رب العالمين .
أسماء الكعبة المشرفة :
للكعبة المعظمة أسماء شريفة كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى:
منها : الكعبة ، وقد سميت بذلك لتكعيبها وهو تدويرها . قال القاضي عياض : الكعبة هو البيت نفسه لا غير ، سميت بذلك لتكعيبها ، وهو تربيعها ، وكل بناء مرتفع مربع كعبة . وقال النووي : « سميت بذلك لاستدارتها وعلوها . وقيل : لتربيعها في الأصل » انتهى . وممن قال : إنها سميت بالكعبة لكونها على حلقة الكعب ابن أبي نجيح وابن جريج .
ومنها : بَكَّة ، بالباء الموحدة ، وسميت بذلك لأنها تبك أعناق الجبابرة ، وقيل غير ذلك .
ومنها : البيت الحرام ، لقوله تعالى :
ومنها : البيت العتيق . وقد اختلف في معنى البيت العتيق ، فقيل : لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة ، فلم ينله جبار قط أو لم يقدر عليه جبار ، وقيل غير ذلك. والصحيح الأول على ما ذكر عز الدين بن جماعة .
ومنها : البنية ، بباء موحدة ونون وياء مثناة من تحت مشددة ، ذكر هذا الاسم القاضي عياض في المشارق في حرف الباء . وذكر ابن الأثير في النهاية ما يدل على ذلك ، حيث قال : وكانت تدعى بنية إبراهيم عليه السلام ؛ لأنه بناها ، وقد كثر قَسَمُهم برب هذه البنية . انتهى .
ومنها : الدُّوَّار ، بضم الدال المهملة وفتحها وتشديد الواو ، وبعدها ألف وراء مهملة ، ذكر ذلك ياقوت في مختصره لمعجم البلدان .
ومنها : المسجد الحرام ؛ لقوله تعالى :
والمراد به الكعبة .
ومنها قادس ، ومنها نادر ، ومنها القرية القديمة ، وهذه الأسماء الثلاثة مذكورة في تاريخ الأزرقي .
أبعاد الكعبة المشرفة :
تفاوت المؤرخون في ذكر أبعاد الكعبة ، وهو اختلاف طبيعي ناشئ من اختلاف الأذرع ، وما بين ذراع اليد وذراع الحديد من فرق ، وهما يتفاوتان ، فقد جاء في كتاب تاريخ الكعبة المعظمة أن ذراع اليد يتراوح ما بين(46-50) سم ، وذراع الحديد (56.5) سم ، بينما ذكر أخيرًا أن ذراع اليد (48) سم ، وعلى هذا فإن الحديث عن أبعاد الكعبة بمقياس الأذرع في العصر الحاضر لا يعطي دقة في التعرف على هذه الأبعاد ، بل يؤدي إلى حيرة ، وذلك لأن المتر وأجزاءه هو لغة القياس المفهوم في العصر الحاضر .
وقد ذرعت الكعبة بذراع العصر الحديث عند القيام بالتوسعة السعودية الأولى ، فكان مساحتها عند قاعدتها (145م) ، ويبلغ مساحة الحطيم بما فيها الجدار بالحطيم (94م2) .
وآخر ذرع للكعبة قام به مركز أبحاث الحج في جامعة أم القرى ، وكان كالتالي :
من الركن الأسود إلى الركن الشامي 11.68م ، وفيه باب الكعبة . ومن الركن اليماني إلى الركن الغربي 12.04م ، ومن ركن الحجر الأسود إلى الركن اليماني 10.18م ، ومن الركن الشامي إلى الركن الغربي 9.90م .
وأما أذرع الكعبة من داخلها ، فقد قام المؤرخ باسلامة بذرعها بنفسه سنة 1352هـ فقال : « فكان طولها من وسط الجدار اليماني إلى وسط الجدار الشامي 10.15م ، ومن وسط جدارها الشرقي إلى وسط جدارها الغربي 8.10م » .
صفة الكعبة المشرفة من داخلها :
أما صفة الكعبة المشرفة من داخلها فهو كالتالي :
في الركن الشامي على يمين الداخل إلى الكعبة المشرفة يوجد بناء الدرج المؤدي إلى السطح ، وهو عبارة عن بناء مستطيل شكله كالغرفة المسدودة بدون نوافذ، ضلعاها الشرقي والشمالي من أصل جدار الكعبة المشرفة ، وتحجب في داخلها الدرج ، ولها باب عليه قفل خاص وعليه ستارة حريرية جميلة مكتوب عليها ومنقوشة بالذهب والفضة .
وعرض الجدار الجنوبي للدرج والذي فيه بابها 225سم ، وعرض الجدار الغربي 150سم ، وإذا صعد الإنسان من الدرج إلى السطح فقبل وصوله إلى السطح بنحو قامة يرى أمامه بابًا صغيرًا وعن يساره بابًا مثله ، وكلاهما يدخل إلى ما بين سقفي الكعبة المشرفة ، ومسافة ما بين السقفين 120سم ، وينتهي الدرج عند السطح بروزنة (منور) مغطاة بغطاء محكم منعًا لدخول المطر ، ويرفع الغطاء عند الصعود إلى السطح .
وفي داخل الكعبة أعمدة خشبية ثلاثة تحمل سقف الكعبة المشرفة ، وهي من أقوى أنواع الأخشاب التي لا يعرف مثلها ، وهي من وضع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أي أن عمرها أكثر من 1350عامًا ، وهي بنية اللون تميل إلى السواد قليلاً ، ومحيط كل عمود منها 150سم تقريبًا ، وبقطر 44سم ، ولكل منها قاعدة مربعة خشبية منقوشة بالحفر على الخشب ، ويوجد بين الأعمدة الثلاثة مداد معلق فيه بعض هدايا الكعبة المشرفة ، ويمتد على الأعمدة الثلاثة حامل يمتد طرفاه إلى داخل الجدارين الشمالي والجنوبي .
وهذه الأعمدة الثلاثة مرتفعة إلى السقف الأول الذي يلي الكعبة المشرفة ولا تنفذ من هذا السقف إلى السقف الأعلى الذي يلي السماء ، ولكن جعلت عدة أخشاب بعضها فوق بعض على رؤوس هذه الأعمدة الثلاثة من داخل السقفين إلى أن تصل إلى السقف الأعلى ، فتكون هذه الأعمدة الثلاثة بهذه الصفة حاملة للسقفين المذكورين . ويوجد في كل عمود ثلاثة أطواق للتقوية .
أما أرض الكعبة المشرفة فهي مفروشة بالرخام وأغلبه من النوع الأبيض والباقي ملون .
وجدار الكعبة المشرفة من داخلها مؤزر برخام ملون ومزركش بنقوش لطيفة ، وتغطى الكعبة المشرفة من الداخل بستارة من الحرير الأحمر الوردي مكتوب عليها بالنسيج الأبيض الشهادتان وبعض أسماء الله الحسنى على شكل 8 ثمانية أو 7 سبعة متكررة ، وكسي بهذه الستارة سقف الكعبة المشرفة أيضًا .
اللوحات الرخامية المكتوبة داخل الكعبة المشرفة :
توجد داخل الكعبة المشرفة تسعة أحجار من الرخام مكتوبة بالخط الثلث بالحفر على الحجر ، إلا حجرًا واحدًا فإنه مكتوب بالخط الكوفي البارز ، وحروف الكلمات على هذه اللوحة تتكون من قطع من الرخام الملون الثمين ، ملصقة بعضها إلى جانب بعض على قاعدة الخط الكوفي المربع . وكل هذه الأحجار مكتوبة بعد القرن السادس للهجرة ، وفي الحائط الشرقي وبين باب الكعبة المشرفة وباب التوبة وضعت وثيقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله ، محفورة على لوح رخام تشير إلى تاريخ ترميمه الشامل لبناء الكعبة المشرفة ، وبذلك صار عدد الأحجار المكتوبة في باطن الكعبة المشرفة عشرة أحجار كلها من الرخام الأبيض ، وكل هذه الرخامات مرتفعة عن رخام أرض الكعبة بمقدار 144سم ماعدا الحجر الموضوع فوق عقد باب الكعبة المشرفة من الداخل فإنه يرتفع بأكثر من مترين .
مناسبات فتح الكعبة :
من المعلوم أن سدانة البيت حق شرعي ثابت لآل الشيبي منذ أن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (خذوها يا بني أبي طلحة ، خذوا ما أعطاكم الله ورسوله تالدة خالدة ، لا ينـزعها منكم إلا ظالم) . فهم الذين يحتفظون بمفتاح باب الكعبة المشرفة ، ويفتحونها عند الحاجة إلى فتحها ، وقد جرت العادة منذ عصور الإسلام الأولى أن تفتح الكعبة في مناسبات مختلفة ، وفي العصر الحالي نجد أن الكعبة المشرفة تفتح في بعض المناسبات :
أولاً : فتحها لغسلها من الداخل :
في الوقت الحاضر تُغسل الكعبةُ من الداخل مرتين ، الأولى في غرة شهر شعبان ، والثانية في الخامس عشر من شهر ذي القعدة . ويقوم بهذا الشرف العظيم خادم الحرمين الشريفين أو من ينوب عنه ، بحضور معالي الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ونائبه لشؤون المسجد الحرام وعدد من سفراء الدول الإسلامية ، ورؤساء بعثات الحج وغيرهم من كبار المسئولين ، فيتشرفون بغسلها ، ومسح جدرانها بماء زمزم المعطر بالند والعود وعطر الورد ، حتى إذا تم ذلك صلوا إلى جدرانها ، ثم دعوا حامدين شاكرين الله رب العالمين .
ثانيًا : فتحها لبعض الزعماء :
يأتي إلى المملكة العربية السعودية بعض زعماء الدول الإسلامية ومسئوليها الكبار من الوزراء وغيرهم في مهمات رسمية وغير رسمية ، فيحِنُّون إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة فيأتون إليه حجاجًا وعمَّارًا ، فيستقبلهم كبار المسئولين بالرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ، وقد تفتح لهم الكعبة المشرفة ، تكريمًا لشأنهم ، وتقديرًا لمكانتهم ؛ لأنهم يمثلون المسلمين في بلدانهم ، فيصلون فيها أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويدعون الله عز وجل .