بسم الله الرحمن الرحيم .
بعد ما تعرفنا على مرحلتين هامتين من حياة الأمير عبد القادر بن محيي الدين الحسني الجزائري .. تردف ما تبقى في جعبتنا من الحديث عن هذا العلم البارز والفارس الزاهد ، والصوفي العامل ، والعالم الشاعر بما تجمع من محاسن عز ندها في زمانه وما تلاه لغيره .. فسبحان من أولاه
بعد الحرب الشاملة التي جاء بها الجنرال بيجو وأطلق عليها اسم الأرض المحروقة ، وتواطؤ مسخ صورة السلطان المغربي في التاريخ .. حوصر الأمير مدة طويلة فنزل الرأي على الاستسلام بعدما تبدى من خيانة الخائنين وضعف العاملين ..
فجرى التفاوض مع الممثل الفرنسي "الجنرال لامور يسيار" فجرى الاتفاق على إعلان الاستسلام على شروط أهمها .. خروج الأمير إلى الإسكندرية او عكى ومن أراد الخروج معه على أن يسلم السيف الأمير إلى نجل الملك الفرنسي الذي كان حاكما في الجزائر .. وكذاك جرت الأمور إلا أن الأمير بعدما استقل البارجة الفرنسية وجد نفسه في ميناء طولون ومن بعده أقتيد أسيراً وعائلته إلى الإقامة في "لازاريت" ثم إلى حصن "لامالغ" بتاريخ 10 جانفي 1848 ولما اكتمل عدد المعتقلين من أفراد عائلته وأعوانه نقل الأمير إلى مدينة "بو" PAU في نهاية شهر أفريل من نفس العام، ليستقر بها إلى حين نقل إلى آمبواز . في 16 أكتوبر 1852 .. وفي هذا المقام قال قولته الشهيرة وقد بدا عليه الندم على التسليم "لو كنا نعلم أن الحال يؤدي إلى ما آل إليه، لم نترك القتال حتى ينقضي الأجل"..
واستقر الحال على التضييق والإهانة إلى أن تولى نابوليون الثالث الحكم فأكرم نزله وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، وما جاءت هذه الصورة المتميزة في عين العدو إلا جراء ما اشتهر عن الأمير وما جرى على ألسنة الأسرى العائدين غلى فرنسا عن خلقه وتسامحه ..
وعلى هذا طلب الخروج إلى المشرق فاتجه إلى إستنبول فقال بها السلطان .. ومكث بها عامين بمدينة اشتهرت بحماماتها ..
ثم إلى دمشق أين استقر بها.. فاشترى دار الشيخ ابن العربي واستقر بها .. واتجه نحو التدريس والتأليف .. على ما عرض عليه تولي الشام باسم السلطان .. ثم عرضت عليه فكرة الإمارة العربية تحت لواء السلطنة .. وفي هذا مبحث يطول الخوض فيه ...
ولكن يجدر الإشارة إلى موقعه الدبلماسي الذي تبوءه الأمير فقد راسله الملوك وهو في أسره وما جاء في مذكراتهم عن مراسلاته أمثلة كثيرة منها .. ما وصل إلينا عن توسطه للشيخ شامل المرابط والمجاهد الشيشاني الذي قاد الثورة المسلمة في القوقاز 17 عاما عند نابليون الثالث الذي راسل القيصر الروسي في أمر تخفيف إجراءات الأسر على الشيخ فرد بالإيجاب .. ويدل على ذلك الرسائل التي كان الشيخ
شامل يتواصل بها مع الأمير وهي محفوظة ليوم الناس هذا ..
ومن رفيع قدره أن دعي إلى افتتاح قناة السويس وفيها استقبل استقبال الملوك والأمراء وكان له حوارات جميلة ومطولة مع ساسة العالم في ذالك الزمان وهذا مالم يرق للمحتل .. فخاف رجعته فبدأ بالدس عليه عند الولاة العثمانيين .. وهذا باب للبحث كبير ..
ومن رفيع ما وصل إليه في دمشق ان أصبح من مرجعيات الشام وما موقفه في الفتنة التي حصلت بين المسلمين والمسيحيين في الشام إلا شاهد على ذلك وقد وجدت كلاما لكاتب شامي يقول:
في هذه الفتنـة التي وقعت في بلاد الشام ، ذهب خلق كثير ، واستطاع الأمير عبد القادر أن ينقذ أكثر من خمسة عشر الفاً من النصارى بعث بهم إلى منازله التي غصت بهم
حتى انه أخذ مفاتيح قلعة دمشق ، ووضع بها كافة نصارى البلد ، يقدم لهم الطعام والشراب على حسابه الخاص لمدة خمسة عشر يوماً ، وكان لذلك دور كبير في وقف الفتنـة وإطفاء نارها ، ورجع عند ذلك عشرة آلاف جندي فرنسي إلى فرنسا بعد أن كانوا في مراكبهم يستعدون لنسف بيروت بقنابلهم المدمرة ...
وكان لموقف الأمير عبد القادر الاسلامي الانساني صدى في هذه الفتنـة ، صدى في الأوساط العالمية ، فأتتـه رسائل شكر مصحوبة بالأوسمة ، وشارات الفخر والتقدير ، من جميع ملوك ورؤساء الدول العالمية ، ونوهت به كبريات الصحف العالمية وأشادت بخصاله الكريمة ، ومواقفه الانسانية ...
ولم يتصرف الأمير عبد القادر لأجل حماية النصارى إلا التزاماً بدينـه الذي يقضي على المسلمين حماية أهل الذمـة ، الذين يقطنون في بلاد المسلمين ... والأمير عبد القادر متفقه في الدين ، ويعلم حدود ما أنزل الله ، ويعرف واجب المسلمين نحو أهل الذمـة ... وهو توفير الأمن والحماية لهم ... وصون دمائهم وأموالهم وأعراضهم وكنائسهم ... وكل ماتم الاتفاق عليه في عقد الذمـة
سنتبع بعون الله في هذا الموضوع جزءا بعد قليل عن الأمير الشاعر ثم وفاته مرفقا ببعض الصور عنه رحمه الله
راجين من المولى تمام الأجر وإخلاص القصد ..
اخووكم سوليتار
يتبع