هذا هو "مايسترو" الإرهاب في العالم
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، وأمريكا ماضية في تعبيد الطريق إلى مصالحها عبر العالم، على حساب ما للآخرين من حرّيات وحقوق !.. إنها تخاطب العالم بمنطق عجيب يقول: إنَّ لأمريكا أن تشق الطريق إلى مصالحها حيثما وجدت، وكل نضال يصدر من الذين تتعارض حقوقهم وحرياتهم مع مصالحها، إرهاب تجب مقاومته والقضاء عليه !..
إن منظور رعاية المصالح من طرف واحد، ليست إلا ترجمة واحدة، هي أن المصلحة والحق لا توجدان إلا حيث توجد القوة، ومن ثم حيث يوجد الإرهاب.
وفي غمار هذا الواقع الذي تفرضه سياسة القوة، تختلط الأوراق، فيسمى الإرهاب والعنف المتطرف نظاماً ونضالاً، ويسمى النضال والنظام اللذان يرعيان الحقوق إرهاباً وعنفاً.
لذا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت تملك باسم النضال والنظام المجنَّدين لمصالحها أن تمضي في حصارها لكوبا إلى ما لا نهاية .. وأن لا يكون لدفاع كوبا عن نفسها ومصالحها وحرّيتها إلا اسم واحد، هو التطرف والإرهاب.
ولذا، فإن الولايات المتحدة كانت محقة يوم سددت غلى البرازيل الضربة القاضية، عندما تتبيّن أنها تسير في طريق الانتعاش والازدهار، إذ أن ازدهار الآخرين، لا سيما على أرض أمريكا، هو عين الإرهاب المهدد لمصالحها. وما الدور الإجرامي الذي لعبه كيسنجر في انتخابات الرئاسة في البرازيل آنذاك عن الأذهان ببعيد !..
ولذا، فإن الولايات المتحدة محقّة عندما سددت بالأمس الضربة ذاتها إلى نمور آسيا .. لم تكن تلك الضربة في منطلقها إلا ممارسة لما يقتضيه النظام في سبيل المصالح، ولكن أي نظام وأي مصالح ؟ إنها ليست إلا مصالحها هي، وليس النظام إلا ذاك الذي يخدم تلك المصالح !.. ولذا فإن ازدهار تلك المناطق، كسائر المناطق الأخرى، عنف إرهابي تجب محاربته.
والولايات المتحدة، انطلاقاً من قناعتها العدوانية هذه، لم تكن تفعل إلا ما يقتضيه النظام العالمي الحر، عندما كانت تحشو جوار السودان من سائر الإتجاه بأسلحة الدمار، وتلهب تلك الساحة الواسعة بلظى الحرب كلما خبت نارها وبرد أوارها، لأن ازدهار السودان بالخير القديم على أرضها وبالذخر الجديد في باطنها، مع النهج الذي اختارته بمحض حرّيتها، إرهاب خطير يهدد مصالحها !..
ولقد كانت محقة أيضاً، عندما مضت توغر قلب الصديق في الخليج على قلب صديقه الجار، ثم راحت تغري الواحد منهما بالآخر، ثم تفرض من نفسها الحكم العدل والوليّ الشفوق، فتحشو ساحة ما بين الأخوة والجيران بالأسلحة المدمرة المتنوعة، وتحملهم أوقاراً من أثمانها الباهظة، مشفوعة بما يتبعها من ضريبة الغيرة على الأمن وحرارة السهر على الحقوق !..
والولايات المتحدة، ليست إلا حامي أمن ورسول سلام، عندما تفصل لإسرائيل، ومن ورائها الصهيونية، ثوباً سابغاً للإسلام في هذه المنطقة على قدر مصالح هذا الثنائي (ولا تدري أيهما التابع وأيهما المتبوع). فإن شكى الطرف العربي صاحب الأرض أن هذا الثوب لا تبقى منه أي فضلة لتغطية شيء من حقوقه هو الآخر، وناشد رسول السلام رعاية العدل، سجل اسمه على الفور في قائمة دول الإرهاب، ووجهت إليه تهمة الوقوف في وجه عملية السلام!..
تلك هي صورة مصغرة عن سياسة الأمر الواقع الذي تفرضه أمريكا سعياً وراء الهيمنة على العالم، مستعلنة لذلك بسلاح الظلم والإرهاب.
غير أن لهذه الصورة تتمة لا يتسنى العثور عليها إلا من خلال معرفة التقارير الخفية التي تتسرب من مجلس الأمن القومي الأمريكي، أو من خزانات ال "سي.آي.إي" أو من خلال أقنية الديمقراطية الخفية والسارية حصراً بين الكونغرس والبيت الأبيض.
إن هذه الجهات تعلم أن إضفاء صفة الإرهاب على كل ما يمكن أن يقف في وجه المصالح الأمريكية في أي مكان في العالم، لا سيما منطقة الشرق الأوسط، لا بد أن يثير حفيظته الناس الذين تتبدد حقوقهم في هذا السبيل. وتعلم أن النتيجة الطبيعية لذلك، هي أن يطالب هؤلاء الناس بحقوقهم. فإن لم يجدوا آذاناً صاغية تلتفت إليهم بالتقدير والإنصاف، فلا بديل عندئذٍ إلا المقاومة التي هي شرعة سائر المظلومين.
فهذه النتائج المتوقعة كانت ولا تزال محل دراسة واهتمام للمحافل السرية الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. والخطة المرسومة لصدّ هذه النتائج، وإبعادها عن الإساءة للمصالح الأمريكية، هي العمل بكل الوسائل الممكنة على أن تتفجر هذه هذه المقاومة فيما بين الهائجين أنفسهم. وبذلك يتنفس الضغط ويهدأ الغليان.
نشرت مجلة foreign affairs الشؤون الخارجية، لسان حال الخارجية الأمريكية مقالاً ضافياً في تشرين الثاني لعام 1992 عن خطر الإسلام وبيان أفضل الطرق لتفاديه والقضاء عليه، وأفضل الطرق لذلك فيما انتهى إليه المقال، تقطيع جسور التضامن والتعاون بين الدول العربية التي هي المصدر الأول للخطر الإسلامي، والعمل على إيجاد أكبر قدر من التشاكس والتناقض بين شعوب المنطقة وحكامها، بحيث يسودها القلق والاضطراب، وتنأى عن الهدوء والاستقرار.
إذن، فإن هذه التناقضات التي تقدح زناد البغضاء والكيد والعنف داخل مجتمعاتنا العربية الإسلامية من صنع الخطط الأمريكية، وليست هذه المتناقضات إلا من قبيل التغطية والإيهام.
وبعد ذلك فإن مصيبة الأمة العربية والإسلامية، لا تكمن في الإرهاب المقنع الذي تغزو به أمريكا هذه الأمة، في كل مكان من العالم، وإنما تكمن في أمرين متمازجين، هما ضمور الوعي السياسي، والتفكك الأخلاقي اللذان يمسك الغرب منهما بأغلى ورقتين يلعب بهما.
إن في الإسلاميين اليوم من تعزهم الرؤيا السياسية الثاقبة، على الرغم من أنهم يأبون إلا أن يخوضوا غمار العمل السياسي.. ويعوزهم الإخلاص لوجه الله عز وجل في أنشطتهم الإسلامية على الرغم من أنهم باسم الإسلام يتحركون وفي سبيله يعملون، ومن هنا يستدرجون إلى التطرف والعنف في التعامل مع أبناء دينهم وجلدتهم باسم الجهاد الإسلامي المقدس، بدلاً من أن يتوجهوا بجهادهم المقدس إلى ذلك الذي يمعن في اغتصاب حقوقهم واستلاب ثرواتهم.
بقي أن نجيب عن سؤال يقول: فإذا تناثرت الاتجاهات، وتسابقت مشاعر الأثرة بدلاً من الإيثار إلى النفوس، وإذا تبددت القلوب بين الأهواء المتناقضة، وأن يعيد القلوب إلى المعين الواحد، بعيداً عن السواقي المفرّقة؟
إن الجواب معروف، والحديث عنه ذو شجون. ولكن الخوض فيه يقصينا عما نحن بصدده وحسبنا أن نلمّح إليه من خلال الإصغاء إلى قوله تعالى:
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
من كتاب: قضايا ساخنة