حول كتاب الغربال لميخائيل نعيمه[1]
محمد أسليم
يقول نديم نعيمه في كتابه الفن والحياة:[2]
إن ملخَّص فلسفة نعيمه (وهي بعيدة الجذور في الفكر العالمي، يونانيِّه ومصريِّه القديم وهنديِّه وساميِّه، ناهيك بأوروبيِّه الحديث) أن أول ما يستفيق عليه الإنسان من وجوه هو ذاته، هو «الأنا». فهي بالنسبة إليه المحور الذي تدور حوله جميع تحركاته ونزوعاته ومآتيه في خطِّ حياته كلِّها. فهو في ذلك إنما يصدر عن رغبته في الخير والسعادة والازدهار لنفسه، وعن كرهه لكلِّ ما من شأنه أن يلحق بها الضرر والأذية. فإذا كان الأمر كذلك كانت وظيفة الإنسان الأولى والأخيرة أن يعرف نفسه على حقيقتها كي لا ينخدع في حياته فيقوم عن جهل بما يعتقده خيرًا وسعادة لنفسه، فإذا به ينقلب إلى شرٍّ وبلاء.
إن المقطع يؤشر إلى ثقافة نعيمه وإلى أصالته كأديب رفض معالم الحضارة الغربية وارتدَّ إلى أناه ليجعل منها منطلَقًا لتجاربه في الحياة؛ كما جعل من أنا الإنسان محور الأدب نظرًا لإيمانه بقيمته. في هذا الصَّدد، يرى أننا[3]
في كلِّ ما نفعل وكلِّ ما نقول وكلِّ ما نكتب إنما نفتش عن أنفسنا. فإن فتشنا عن الله فلنجد أنفسنا في الله. وإن سعينا وراء الجمال فإنَّما نسعى وراء أنفسنا في الجمال. وإن طلبنا الفضيلة فلا نطلب إلاَّ أنفسنا في الفضيلة [...]. فكلُّ ما يأتيه الإنسان إنَّما يدور حول محور واحد هو: الإنسان. حول هذا المحور تدور علومه وفلسفته وصناعته وتجارته وفنونه؛ وحول هذا المحور تدور آدابه.
انطلاقًا من هذه القناعة، أجمع الدارسون على أن ميخائيل نعيمه كان ينظر إلى الأدب نظرة متسامية وينطلق في تصوراته من جانب ذاتي وجداني؛ وكذا من مبدأ دراسة الإنسان من الداخل ومراعاة ظروفه الاجتماعية ومدى ارتباطه بالزمان وبالمكان.
وبما أن توجُّهه الفكري يجمع بين الأدب والفن والفلسفة فإننا سنقف في هذه الدراسة المقتضبة على حصيلة آرائه في الأدب والنقد اعتمادًا على كتابه القيِّم الغربال الذي يشكِّل مدرسة متميزة في مسيرة النقد العربي الحديث.
1. مفهوم الأدب
يهدف كتاب الغربال (الذي صَدَرَتْ طبعته الأولى سنة 1923) إلى تأسيس تصور نقدي مغاير والدعوة إلى أدب جديد. لهذا يرى د. محمد مندور أن غاية هذا الكتاب هي «الهجوم العنيف على الأدب العربي التقليدي المتزمِّت وعلى التحجُّر اللغوي ثم على العروض التقليدي».[4] وهذا لا يعني أن ميخائيل نعيمه قد وقف عند هذا الحد، وإنما حاول، من خلال عمله، أن يؤكد على ضرورة إعادة النظر إلى وظيفة الأدب وإلى طرق نقده بعقلية متفتحة. ومن ثم فإذا كانت المدارس الأدبية الحديثة في الغرب قد اهتمت بقضايا الإنسان وتمفصلاتها في الإبداع الأدبي فإن هذه الفكرة قد سيطرت على أدباء المهجر انطلاقًا من دوافع سياسية (تصدُّع الأنظمة السياسية في العالم العربي، هيمنة الاستعمار على جل البلدان العربية، توقيع وعد بلفور في العام 1917، إلخ.) وأخرى ذاتية.
في هذا الصدد، يرى ميخائيل نعيمه أن الأدب الحقيقي هو «رسول» بين الكاتب والقارئ وأن وظيفته تنحصر في تناول الإنسان (هذا «الحيوان المستحدث» الذي هو أحقُّ بالعناية من سواه) وسبر أغوار النفس البشرية: أي أنه تعبير عن الحياة النفسية والاجتماعية من جميع نواحيها.
هذا التحديد للأدب كان نابعًا من احتكاكه بالثقافة الغربية؛ ذلك أنه حينما كان متأثرًا بالأدب الروسي كان يريد من الأديب أن يلتزم بما يجري داخل مجتمعه من ثورات والتبشير بها؛ لكنه حينما انغمس في الحياة الأمريكية انسحب من عالم المجتمع وارتدَّ إلى ذاته وإلى عوالمها، ثم اعتبر نفسَ الإنسان محور الأدب: أي الإنسان كوحدة في الوجود، لا كفرد في المجتمع. لهذا، «لا يخلد من الآثار إلاَّ ما كان فيه بعض من الروح الخالدة»، ولا يمكن للأدب إلا أن يكون «مسرحًا يظهر عليه الإنسان بكلِّ مظاهره الروحية والجسدية».[5] أما الأديب الذي يستحق أن يدعى أديبًا فهو «من يزوِّد رسوله من قلبه ولبِّه».[6]
نستنتج من هذه التحديدات أن قيمة الأدب لدى نعيمه تكمن في قدرته على اختراق وكشف باطنية الإنسان وكينونته الحقيقية، وأن الأعمال الخالدة (كأعمال شكسبير مثلاً) هي التي تمتلك خصوصية التعبير الرصين عن زمنها وفضائها، وتسعى، في نفس الوقت، إلى رصد الجانب الحضاري والإنساني في المجتمع.
2. مفهوم الكاتب
وعليه فإن الكاتب المُجيد، سواء كان شاعرًا أو روائيًّا أو صحافيًّا، هو الذي «يرى بعيني قلبه ما لم يره كلُّ بشر»، وهو الذي «يُعِدُّ لنا من كلِّ مشهد من مشاهد الحياة درسًا مفيدًا»، وهو الذي «أعطته الطبيعة موهبة إدراك الحقِّ قبل سواه».[7]
انطلاقًا من هذا التحديد لهوية الكاتب نرى نعيمه يحيط الشاعر بهالة من القدسية، حيث اعتبره نبيًّا وفيلسوفًا ومصوِّرًا وموسيقيًّا وكاهنًا:[8]
نبي – لأنه يرى بعينه الروحيَّة ما لا يراه كلُّ بشر. ومصوِّر – لأنَّه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام. وموسيقي – لأنَّه يسمع أصواتًا متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة [...]. وأخيرًا – الشاعر كاهن لأنَّه يخدم إلهًا هو الحقيقة والجمال.
3. مفهوم الشعر
إن هذا التعريف للكاتب/الشاعر يقوم على بُعد حداثي. لهذا فإذا كانت حداثة الشعر العربي ذات منابع أجنبية انحدرت من الترجمة أو من احتكاك فكري وثقافي بشعراء أوروبا وأمريكا فإن ميخائيل نعيمه، باعتباره رائدًا من رواد الشعر الحديث، قد أنشأ رؤيته عن الشاعر والشعر انطلاقًا من تشبُّعه بالأدب الروسي «الذي نهل من مَعينه بعد أن لمس فيه ثورة على الماضي وجهاد الأدباء في سبيل التحرر من أوضاع القديم ومحاولته وضع الإنسان وجهًا لوجه أمام الحياة».[9] أما تأثره بالأدب الأنكلوساكسوني فقد خوَّله الاطلاع على الحركة الرومانسية في إنكلترا والتعرف على شعراء أمثال كيتس، كولردج، هازلت، وغيرهم. وليس بعيدًا، في رأينا، أن يكون قد تأثر بالحركات الروحية الجديدة التي ظهرت في أمريكا على يد رالف والدو إمرسون، وإن كان دارسوه لم يشيروا إلى ذلك، نظرًا لكون تكوينه الثقافي والروحي، كما يقول د. مندور، هو «تكوين معقد، يجمع في ثقافته بين تراث الشرق وتراث الغرب، بل يجمع بين التراث الأوروبي الأمريكي والتراث الروسي».[10]
ولكي لا نطيل في هذا الباب نستطيع القول بأن تأثُّر نعيمه بالأدبين الروسي والأمريكي، إضافة إلى إطلاعه على فلسفة الشرق (الطاوية والبوذية) والمسيحية – كلُّ ذلك كان عاملاً أساسيًّا في بَلْوَرة طبيعة التفكير الأدبي لديه؛ وهو تفكير امتدَّ على مرحلتين:[11]
اهتم في الأولى بمشكلة الإنسان العربي الاجتماعية منطلِقًا من واقعه المتخلف، ثائرًا على أوضاعه ومفاهيمه البالية، ناشدًا له كلَّ أنواع التغيير والتجديد والإصلاح. أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بنزعة روحانية صوفية مثالية اهتم فيها ببناء الإنسان المطلق من الداخل، واقتنع فيها بالنظام الكوني المتوحد؛ كما نادى بالإنسان القاهر لشهواته وأهوائه، التوَّاق إلى المعرفة القصوى والحرية القصوى. إن هذه المرحلة هي التي خوَّلته إعادة النظر في كلِّ مفاهيمه الأدبية والفكرية والحياتية، حيث تخلَّى في الأعوام الأخيرة من حياته عن الأدب الواقعي ليلتزم جانب الأدب الروحي.
***
لقد تمَّت الإشارة إلى هاتين المرحلتين لأن الأولى عرفت ظهور كتابه الغربال الذي تمَّ إنجازه فيما بين 1913-1923. وهذا يعني أن ما ورد فيه من آراء عن الأدب يجسِّد انصراف مؤلِّفه إلى الأدب الصرف أو الخالص littérature pure. لهذا نجده يتحدث عن مفهوم الشعر كما يلي:[12]
الشعر – ميل جارف وحنين دائم إلى أرض لم نعرفها ولن نعرفها. هو انجذاب أبدي لمعانقة الكون بأسره والاتحاد مع كلِّ ما في الكون من جماد ونبات وحيوان. هو الذات الروحية تتمدَّد حتى تلامس أطرافُها أطرافَ الذات العالمية [...]. الشعر رافق الإنسان من أول نشأته وتدرَّج معه من مهد حياته حتى ساعته الحاضرة – من الهمجية، إلى البربريَّة، إلى الحضارة، إلى مدنية اليوم.
يبدو لنا من خلال هذا المفهوم أن مزية الشعر عند نعيمه تكمن في الشعر نفسه. لكن مزيته الكبرى هي الجمع بين نظرية «الفن للفن» و«الفن للمجتمع». لذلك فإن الشاعر «لا يجب أن يكون عبد زمانه ورهين إرادة قومه [...]. لكننا نعتقد في الوقت نفسه أن الشاعر لا يجب أن يُطبِق عينيه ويصمَّ أذنيه عن حاجات الحياة وينظم ما توحي إليه نفسه فقط، سواء كان لخير العالم أو لويله»[13]؛ ومادام يستمد غذاءً لقريحته من الحياة فهو لا يقدر إلا أن يعكس أشعة تلك الحياة في أشعاره. من هنا كان أول شيء يبحث عنه نعيمه في الشعر هو «نسمة الحياة» التي ليست «إلا انعكاس بعض ما في داخلـ[ـه] من عوامل الوجود في الكلام المنظوم الذي [يـ]ـطالعه».[14]
وبما أن الشعر هو حامل «نسمة الحياة» فإنه يقوم بالضرورة على عنصر الإلهام، كما يقود الخيال الذي يتسم بقدرته على الوصول إلى الحقيقة. لهذا آمن نعيمه بأن الخيال يتفوق على الحواس الأخرى التي تُستخدَم في البحث عن الحقيقة، بل آمن بسموِّه على العقل الذي «يغالي الناس في تكريمه»، مع أنه ليس سوى «ولد جموح يقوده الخيال من أنفِهِ ولكن قلَّما يمشي به بعيدًا».[15]
هذا وإذا كان الخيال هو أداة لإدراك المعرفة في نظر نعيمه فإنه يعتبره والإيمان عنصرًا واحدًا أو يرى فيهما توأمين، لكنه[16]
يحرص على عقد مقارنة بين كلِّ هذه العناصر التي هي الخيال والإيمان والعقل والمنطق في محاولة لتحديد درجة ومعنى كلٍّ منها أمام الآخر: فالعقل إذا تسامى كان خيالاً، والخيال إذا انحطَّ كان عقلاً، والمنطق إذا لانت مفاصله صار إيمانًا، والإيمان إذا أصيب بتصلب في شرايينه صار منطقًا.
***
هذا هو رأي نعيمه عن الشعر؛ وهو الذي جعله يعلن حربًا على الشعر العربي الإحيائي وانحطاطه، حيث أنكر أن يكون للعرب شعراء يوازون الشعراء الغربيين، أمثال شكسبير وموليير. لهذا عَزَا الانحطاط الذي انتهى إليه الشعر إلى الشاعر العربي نفسه لأنه لم يكن شاعرًا، وإنما كان «نَظَّامًا»، يقلِّد الأقدمين فيما جروا عليه من وصف في أشعارهم واستعمال لغتهم التي لا تمسُّ الحياة اليومية. ولتفادي هذا الانحطاط، ركَّز على مهمة الشاعر وهي «الابتعاد عن التقريرية» أو التسطيح لأنها توقع الشاعر في شرك النظم؛ كما أنه نادى بـ«صدق العاطفة» في كلِّ أثر أدبي وفي الشعر على الخصوص، لأن جمود الأدب العربي وسلبياته ترجع إلى انعدام هذه الخاصية فيه – وهي التي يسميها نعيمه «الإخلاص» فيما يقوله الشاعر أو الأديب، أي الصوت الداخلي الذي «يولِّد بين أنامله والقلم تجاذبًا طبيعيًّا كما بين المغناطيس والحديد».[17]
4. مفهوم اللغة
تحتل قضية اللغة في الفكر الأدبي لدى ميخائيل نعيمه مكانة هامة، سواء في كتابه الغربال أو في غيره من الأعمال الأدبية التي عالج فيها هذه القضية، كروايته مذكرات الأرقش، حيث لاحظ بروزها «مدعاة للخصام» بين الناس؛ والواقع، كما يرى، هي أنها «وُجِدَتْ لخدمتهم، ولم يوجدوا لخدمتـ[ـها]؛ وأن ليس على وجه الأرض لغة كاملة بتركيبها، كافية لتأدية كلِّ انفعالات النفس وتماوجات العواطف والأفكار؛ وأن لا نفع من أيَّة قاعدة لغوية إلا بقدر ما ترفع من الالتباس وتساعد في دقَّة التعبير»؛ وكلُّ قاعدة لا ترفع التباسًا ولا تساعد في دقة التعبير هي «قيد من حديد». وبالتالي، فإن «أوسَع اللغات وأجملها أبسطُها. تلك هي لغة الأفكار والقلوب. أما لغة الشفاه والألسنة فسُلَّم يصعد به البشر إلى لغة الأفكار والقلوب. فأبعدهم عنها أكثرهم قواعد وأدناهم من أسفل السُّلَّم. وأقربهم منها أقلُّهم قواعد وأعلاهم في السلَّم».[18]
إن هذا الرأي يزكِّي ما قاله نعيمه في كتابه الغربال عن اللغة، وذلك عندما اعتبرها مؤسَّسة إنسانية ابتدعها الإنسان من أجل التواصل. ومن ثم فإن تطورها أمرٌ حتمي يرتبط بتغير الإنسان لأنها كائن حيٌّ يتعرض للانقراض والموت. إنها «كالشجرة تبدِّل أغصانها اليابسة بأغصان خضراء وأوراقها الميتة بأوراق حيَّة».[19] لذا يجب ربط تطور اللغة بتطور المجتمع بدل العمل على إقبارها كما يفعل البعض («ضفادع الأدب»)، خصوصًا أن البشرية[20]
مشت [...] ومشت معها لغاتُها. فلا البشرية اليوم هي نفس البشرية التي كانت منذ قرون. ولا لغاتها هي اللغات التي كانت قبل هذا العصر. وليس مَن ينكر ذلك إلا أعمى البصر والبصيرة. أما السرُّ في تقلُّب لغات البشر فليس في اللغات بل في البشر أنفسهم، لأن الإنسان أوجد اللغة ولم توجِد اللغةُ الإنسان.
وبما أن الإنسان هو الذي أوجد اللغة فإنها تقوم بدور حيوي في التعبير عن حياته. لذلك نلمس في كتاب الغربال حسًّا متقدمًا في التعامل مع اللغة واعتبارها أداة «تواصل» و«مادة» للكتابة والإنتاج الأدبي يجب العمل على تهذيبها وتنسيقها لإعطائها دقة ورقة، لأنها ليست سوى «مستودع رموز» يُرمَز بها إلى أفكارنا وعواطفنا؛ ومن ثم فلا قيمة لها في نفسها، بل «قيمتها في ما ترمز إليه من فكر ومن وعاطفة»، لأن «الفكر كائن قبل اللغة، والعاطفة كائنة قبل الفكر. فهما الجوهر وهي القشور». وبما أن البشرية «مضطرة إلى استعمال الرموز للإفصاح عن عوامل الحياة فيها» فإن «الرمز في أحسن أحواله وأدقِّها ليس سوى خيال ممسوخ لما يرمز إليه».[21]
5. مفهوم النقد في كتاب الغربال
إذا كان نعيمه يسعى في كتابه إلى تأسيس تصور نقدي جديد ومفهوم مغاير للأدب في مواجهته الأدب القديم فإنه قد انطلق في عمله من جدلية التفاعل القائم بينه وبين محيطه، أي من منظور مرجعيَّته الثقافية الغربية ووضعية الأدب الغربي خلال العشرينيات الأولى من هذا القرن العشرين. لهذا يُعَدُّ كتاب الغربال ثورة عنيفة على الشعراء النَظَّامين والمقلِّدين. ومع أنه في الأصل مجموعة مقالات نشرها نعيمه فيما بين 1913-1922 فإنه قد خضع لتركيبة منهجية، حيث قسَّمه صاحبه إلى قسمين: الأول نظري يحدد فيه مفهومه للنقد (مقالة «الغربال») وللمقاييس الجديدة للأدب، بينما جعل من القسم الثاني تطبيقًا لهذه المقاييس عن طريق نقد بعض الكتب والدواوين.
من هنا يمكن القول بأن رسالة الغربال تروم أولاً الاعترافَ بالفكر الغربي الذي أحدث رجَّة في الفكر العربي «بعد أن كان بالأمس تلميذه»؛ كما تروم ثانية التنبيهَ إلى أهمية الترجمة واحتضان أشكال فنية ذات غاية إنسانية، كالمسرح الذي يُعَدُّ، في رأي نعيمه، خير سبيل لتحقيق نهضة أدبية إذا ما عملنا على ترسيخه في الثقافة العربية.
إضافة إلى هذين المطلبين (العناية بالترجمة واحتضان المسرح)، يركِّز الكتاب على أهمية النقد كنشاط أدبي معاصر، وعلى قضايا أخرى ترتبط بالأدب واللغة والقراءة والنص والمثاقفة.
أ. عن النقد:
يبدأ كتاب الغربال بتحديد مفهوم «الغربلة» التي توازي مهنة الناقد. إنها، كما يقول نعيمه،[22]
ليست غربلة الناس. بل غربلة ما يدوِّنه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول. وما يدوِّنه الناس من الأفكار والشعور والميول هو ما تعوَّدنا أن ندعوه أدبًا. فمهنة الناقد، إذن، هي غربلة الآثار الأدبيَّة، لا غربلة أصحابها.
إن هذا التحديد لمهنة الناقد وموقفه من الشخص المنقود يساوي نفس التحديد الذي نجده في خطاب النقد الجديد؛ من ذلك أن رولان بارت يعرِّف بالنقد بكونه «خطابًا أدبيًّا ثانيًا يتمرس بخطاب أدبي أول»، أو «لغة ثانية تحلِّق فوق اللغة الأولى: أي النتاج». وبالتالي فإذا كان النقد الجديد يعتبر النقد خطابًا مواكبًا للنص الأدبي فإن نعيمه قد حدس في وقت مبكر أهمية ارتكاز النقد على «التحليل المحايث» analyse immanente الذي ينصهر في النتاج، ولا يطرح علاقته مع العالم إلا بعد أن «يصفه من الداخل»، باعتباره منظومة من الوظائف، أو مجرد بنية مغلقة لا تحيل على خارج. وهذا يعني أن عملية النقد يجب أن تنصبَّ على النص لأنه هو موضوع الغربلة لا صاحبه. لهذا فإن «الناقد الذي لا يميِّز بين شخصيَّة المنقود وبين آثاره الكتابية ليس أهلاً لأن يكون من حاملي الغربال أو الدائنين بدينه».[23]
انطلاقًا من هذا الاقتناع تبرز شرعية النص الأدبي من النص ذاته، كما تتموضع مسؤولية الكاتب والناقد في فضاء من الحرية تجعل الأول يكتب ثم ينسلخ عن ذاته ليقدم عمله إلى الثاني الذي يضعه في «غرباله». وهكذا فإذا كان «الكثير[ون] من كتَّاب العربيَّة وقرائها لا يزالون يرون في النقد ضربًا من الحرب بين الناقد والمنقود»[24] فإن غاية النقد، في نظر نعيمه، تنحصر في تسجيل انطباعات الناقد (النقد التأثيري عند جول لوميتر مثلاً)، وكذا في فهم الإبداع. من هنا كان لكلِّ ناقد غرباله وموازينه ومقاييسه. إن هذا التصور يعني أن النقد لا يمكن أن يكون علمًا، وإنما يرتكز على «قوَّة التمييز الفطريَّة» التي[25]
تبتدع لنفسها مقاييس وموازين ولا تبتدعها المقاييس والموازين. فالناقد الذي ينقد «حسب القواعد» التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده ولا الأدب بشيء. إذ لو كانت لنا «قواعد» ثابتة لتمييز الجميل من الشنيع، والصحيح من الفاسد، لما كان من حاجة بنا إلى النقد والناقدين.
وبما أن النقد لا يخضع لقواعد ثابتة فإن علاقته بالأدب تتأسس في الغربال على ذوق الناقد ونيَّته في الإخلاص أثناء التمييز النظري. بعبارة أخرى، إنها علاقة عاطفية تجمع بين ذاتين (الكاتب المبدع والكاتب الناقد). إلا أن الناقد (أي الذات الثانية) لا تنحصر مهمته في التمييز بين الصالح والطالح، بين الجميل والقبيح؛ كما أن فضله لا ينحصر في التمحيص والتثمين والترتيب، وإنما هو «مبدع» و«مولِّد» و«مرشد».[26]
أ.1. مبدع: «عندما يرفع النقاب، في أثر ينقدُه، عن جوهر لم يهتدِ إليه أحد، حتى صاحب الأثر نفسه»؛
أ.2. مولد: «لأنَّه في ما ينقد ليس في الواقع إلاَّ كاشفًا نفسه»؛
أ.3. مرشد: «لأنه كثيرًا ما يردُّ كاتبًا مغرورًا إلى صوابه، أو يهدي شاعرًا ضالاً إلى سبيله».
إلى هذه الميزات كلِّها، يضيف نعيمه إلى الناقد ميزة أساسية وهي إمكانية التوغل إلى روح المبدع ومعايشة حالاته النفسية، «فيصبح الناقد كأنه الشاعر وكأن القصيدة من وضعه».[27] وهذا ما يذكِّرنا بـ«النقد المتعاطف» لدى مارسيل بروست الذي ينحصر في فهم النتاج من الداخل والتماهي مع صاحبه. وبديهي أن هذا «التماهي» لا يمكن أن يتم إلا عبر اللغة الأدبية التي اعتبرها نعيمه «مستودعًا للرموز»، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا ركامًا من الكلمات والمفردات والقواعد. لهذا تتصارع في الأدب العربي فكرتان: «فكرة تحصر غاية الأدب في اللغة، وفكرة تحصر غاية اللغة في الأدب».[28] وقد انتصر نعيمه للفكرة الثانية لأنها ترى في الأدب «معرض أفكار وعواطف [و] نفوس حساسَّة [...]، لا معرض قواعد صرفية نحوية، وكشاكيل عَروضية بيانيَّة».[29]
ب. عن القراءة:
في هذا الصَّدد، يمكن القول بأن نعيمه يقترح علينا قراءة ذكية للنص، لأنه – كنتاج أدبي – لا يُعَدُّ «معرضًا للأزياء اللغويَّة والبهرجة العَروضيَّة»،[30] وإنما هو شبكة من الرموز تقوم القراءة بتفكيكها عبر «قراءة الأفكار والعواطف كما تنبت وتنمو في الأرواح، لا كما ينطق بها اللسان».[31] وبما أن المبدع الفنان لا يسكب كلَّ فكره، ولا يجسِّم كلَّ عاطفته في كلام أو خطوط أو ألوان أو ألحان، فإن أفصح وأبلغ وأعمق وأوسع قراءة هي «القراءة بين السطور».[32] ومادامت اللغة «مستودع رموز»، نرمز بها إلى أفكارنا وعواطفنا، فإنها عاجزة، كأداة، عن الإفصاح عما يجول في النفس. أما الرمز الذي تعبِّر عنه، فهو خاضع للتجديد.
إن هذا الرأي يعيد الاعتبار إلى مفهوم الكتابة والقراءة باعتبارهما حدثين شموليين يتجاوزان المفهوم التقليدي الذي يحاصر الأدب بمحظورات عديدة. ومادام النقد الجديد في الغرب قد أعلن عن إفلاس النقد التقليدي لاهتمامه بالاستعمال الضيق للغة وعدم قدرته على اكتشاف طبيعتها الرمزية فإن كتاب الغربال قد فعل نفس الشيء تجاه «ضفادع الأدب» الذين يريدون «إبقاء القديم على قدمه»[33] وتحنيط اللغة.
لهذا لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن نعيمه كان رائدًا في مجال إثارة قضية اللغة على مستوى الممارسة النقدية لأننا نعرف رأي رولان بارت في هذا المجال، حيث لاحظ، هو الآخر، أن المجتمع الكلاسيكي البورجوازي كان لا يرى في الكلام (اللغة) إلا مجرد أداة أو زخرف، في حين اكتشف النقد الجديد الطبيعة الرمزية للغة أو الطبيعة اللغوية للرمز، مما أدى به إلى إعادة النظر إلى الكلام واعتباره «علامة» signe وحقيقة؛ الشيء الذي دفع النقد إلى دراسة العلائق القائمة بين النتاج واللغة، وتحديد نوعية القراءة والكشف عن علم للرموز المكتوبة.
***
خلاصة
نستخلص من آراء نعيمه حول النقد واللغة والقراءة أن الناقد الحقيقي هو الذي يسبر غور الإنتاج الأدبي، ويكشف عن تصورات وآراء ليست بالضرورة هي التي نجدها في النتاج. بعبارة أخرى، إن النقد هو الإدراك الواعي لعملية الكتابة؛ أي إبداع فوق إبداع آخر. ومع ذلك يظل الناقد، في نظر نعيمه، مجرد «متذوِّق» يقدم لنا مفاهيم ذاتية وموضوعية حول العمل المنقود انطلاقًا من مقاييس أدبية يستطيع كلُّ ناقد أن يعثر عليها إذا ما تأمل وظيفة الأدب في الحياة والحاجات الإنسانية التي يجب أن يُشبِعَها والتي حددها كما يلي:
- حاجتنا إلى الإفصاح عن ما ينتابنا من العوامل النفسية؛
- حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وهو نور الحقيقة: حقيقة ما في نفسنا وحقيقة ما في العالم؛
- حاجتنا إلى الجميل في كل شيء؛
- حاجتنا إلى الموسيقى.
إن هذه الحاجات هي المقاييس الثابتة التي يجب أن نقيس بها الأدب، «فتكون قيمته بمقدار ما يسدُّ من بعض هذه الحاجات أو كلِّها. ويكون أثمنه أجلاه بيانًا، وأغناه حقيقة، وأطلاه رونقًا، وأشجاه وَقْعًا».[34]
إن هذه المقاييس التي سنَّها نعيمه هي التي طبَّقها في نقده لبعض الكتب والدواوين العربية التي صدرت في المهجر والوطن العربي، حيث بحث في هذه الأعمال عن دقة الإفصاح وجمال التركيب وحلاوة الحقيقة وعذوبة الوَقْع، بعد أن لمسها حاضرة كلِّية في كتابة شكسبير.
بالإضافة إلى ذلك، نجد في مجموعة أشعاره التي صدرت تحت عنوان همس الجنون صدى لمقاييسه وآرائه حول الأدب ولكلِّ ما اعترض حياته من صراع نفسي، كما يتجلَّى ذلك بوضوح في قصيدته «من أنتِ يا نفسي»[35] التي تفيض حديثًا عن أصل نفسه وكنهها وماهيَّتها. أما في أدبه النثري فإننا نقِفُ على نظراته الفلسفية عن الحياة، والدين، والإنسان، والمرأة. وهذا ما جعل هذا الأدب يندمج في النفس العالمية، كما أشار إلى ذلك في سيرته الذاتية سبعون حين قال: «إني أفتش عن شيء كبير – شيء بعيد – شيء مبهم. وكلُّ ما عَدَاهُ يبدو تافهًا في نظري، وطعمه في فمي طعم الرماد».[36]