وقال ابن القيم في "زاد المعاد"
(3/303) في الكلام على قصة الحديبية :
" وروى الإمام أحمد في هذه القصة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلِّي في الحرم، وهو مضطرب [أي : مقيم] في الحِل
وفى هذا كالدّلالة على أن مضاعفةَ الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم لا يخصُّ بها المسجد الذي هو مكانُ الطواف ، وأن قوله: (صَلاَةٌ في المَسْجِدِ الحَرَام أَفْضَلُ مِنْ مِائة صَلاةٍ في مسجدي)، كقوله تعالى: ( فَلا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ) التوبة/128 ، وقوله تعالى: ( سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )الإسراء/1، وكان الإسراء مِن بيت أُم هانئ " انتهى .
ولكن أجيب عن هذا الاستدلال بجوابين :
الأول :
أن الحديث ضعيف
والثاني :
إن صح الحديث فإنه يدل على أن الصلاة في الحرم أفضل
ولكن لا يدل على أنها خير من مائة ألف صلاة .
قال ابن مفلح رحمه الله :
" وظاهر كلامهم في المسجد الحرام أنه نفس المسجد , ومع هذا فالحرم أفضل من الحل , فالصلاة فيه أفضل , ولهذا ذكر في المنتقى قصة الحديبية من رواية أحمد والبخاري , ثم ذكر رواية انفرد بها أحمد , قال : وفيه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم , وهو مضطرب في الحل)
وهذه الرواية من رواية ابن إسحاق عن الزهري وابن إسحاق مدلس " انتهى من "الفروع" (1/600).
وقال في "الآداب الشرعية" (3/429) :
" وهذه المضاعفة تختص بالمسجد على ظاهر الخبر، وقول العلماء من أصحابنا وغيرهم " انتهى .
وينظر : المجموع (3/197)، تحفة المحتاج (3/466)، فتاوى اللجنة الدائمة (6/223) ، فتاوى الشيخ ابن باز (4/130).
والراجح هو القول الأول
وهو اختصاص المضاعفة بالمسجد الذي فيه الكعبة ؛ لما روى مسلم (1396) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ : إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ ، فَقَالَتْ : اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ ).
وروى مسلم (1397) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ ).
وهذا نص في أن المراد بالمسجد الحرام في هذين الحديثين :
المسجد الذي فيه الكعبة ، لا عموم مكة أو الحرم .
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
هل مساجد مكة فيها من الأجر كما في المسجد الحرام؟
فأجاب :
" قول السائل : هل مساجد مكة فيها من الأجر كما في المسجد الحرام جوابه : لا ليست مساجد مكة كالمسجد الحرام في الأجر ، بل المضاعفة إنما تكون في المسجد الحرام نفسه ، القديم والزيادة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة ) .
أخرجه مسلم .
فخص الحكم بمسجد الكعبة ، ومسجد الكعبة واحد ، وكما أن التفضيل خاص بمسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خاص بالمسجد الحرام أيضاً
ويدل لهذا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) .
ومعلوم أننا لو شددنا الرحال إلى مسجد من مساجد مكة غير المسجد الحرام لم يكن هذا مشروعاً بل كان منهياً عنه ، فما يشد الرحل إليه هو الذي فيه المضاعفة ، لكن الصلاة في مساجد مكة بل في الحرم كله أفضل من الصلاة في الحل
ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية ، والحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم كان يصلي في الحرم مع أنه نازل في الحل ، وهذا يدل على أن الصلاة في الحرم أفضل ، لكن لا يدل على حصول التضعيف الخاص في مسجد الكعبة .
فإن قيل : كيف تجيب عن قول الله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وقد أسرى به من مكة من بيت أم هاني ؟
فالجواب :
"أنه ثبت في صحيح البخاري أنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من الحِجْر ، قال : ( بينا أنا نائم في الحِجْر أتاني آت . . . )
إلخ الحديث
والحِجْر في المسجد الحرام ، وعلى هذا فيكون الحديث الذي فيه أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من بيت أم هاني - إن صحت الرواية - يراد ابتداء الإسراء
ونهايته من الحِجر ، كأنه نُبِّه وهو في بيت أم هاني ، ثم قام فنام في الحجر فأسرى به من الحجر " انتهى من
"فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (12/395).