السلام عليكم
" الاعتقاد بأن الخبراء الأجانب -وخاصة الفرنسيين منهم- سينهضون بتعليمنا وتربيتنا فهو كمن يعتقد أن السجان سيعطي مفاتيح السجن للمسجون! أليست التربية والتعليم هي بمثابة مفاتيح السجن الذي نعيش فيه؟ "
هل فهمتم ماذا الذي تخفيه محاولات "إصلاح منظومة التربية والتعليم في الجزائر" ؟!
هذه نضرة ثاقبة وواقعية تزول بها الحُجب والأستار إن شاء الله... والحمد لله
إصلاحات تربوية أم اختطاف إيديولوجي ؟ *
مقال هام كتبه: ضو جمال – وفقه الله -
أستاذ الفيزياء بجامعة وادي سوف - الجزائر
مايزال الجدل مستمرا في الجزائر حول القضايا التربوية. والواضح أن الجانب الإيديولوجي الهوياتي هو الطاغي على هذا الجدل والصراع، بينما لا يبدو أن للوزيرة وطاقمها -ولا الحكومة ولا الذين يؤيدونها ولا أغلب الذين يعارضون ما يسمى إصلاحات- شعورا بطبيعة الأزمة ولا خطورتها.
ذلك أننا لو تأملنا المشهد فسنجد أن النخب المدافعة عن إجراءات بن غبريط هي من تيار إيديولوجي واحد، وفي الضفة الأخرى يوجد التيار والنخب المعارضة والتي تنتمي أيضا في أغلبها إلى تيارات فكرية مناقضة لتيار الموالاة إذا صحّت التسمية، بل إن هناك من هو على استعداد لتدمير مستقبل أجيال لأجل جني بعض الإنجازات اللغوية - الإيديولوجية الآنية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الإجراءات التي تقوم بها الوزيرة وفريقها منذ أن أصبحت على رأس الوزارة هي إصلاحاتٌ فعلية تهدف إلى الرقيِّ بمستوى التعليم وإخراجه من حالة الرداءة والكارثة والنكبة التي وصل إليها؟ أم هي مجرد مقاربة أو قرارات ذات طبيعة وخلفية إيديولوجية محضة؟
سنحاول في هذا المقال طرح أسئلة تقنية بيداغوجية تساعدنا على فهم طبيعة هذه الإصلاحات، وما إذا كانت فعلا ستؤدي إلى إصلاح المنظومة التربوية، أم ستؤدي إلى تحقيق مكاسب ذات طبيعة إيديولوجية ولغوية والإبقاء على كارثية مستوى التحصيل والرداءة.
دعنا نشير إلى أن الجميع يتفق تقريبا على أن وضع التربية والتعليم كارثي بكل المعاني في كل المستويات، وأن عملية الانحدار أو السقوط الحر بدأت منذ أيام بن بوزيد وأخذت منحى متسارعا باعتماد إصلاحات بن زاغو والتي كرست الرداءة بسبب نوعية الكتب والمناهج المعتمدة التي لم تُعدّ لها الأرضية المناسبة ولم تكن تحمل رؤية إصلاحية بقدر ما حملت رؤية إيديولوجية سياسية. وساهم في كل هذا التسييس الواضح لنتائج مراحل التعليم المختلفة وضياع هيبة الأستاذ والمعلم والمؤسسات التعليمية، وهذا لأسباب معقدة كتب عنها الكثيرون وهي محل جدل آخر.
وهنا نشير إلى أن أهم مخرجات إصلاحات بن زاغو هي استبدال الرموز العربية في الرياضيات والعلوم بالرموز اللاتينية أو الفرنسية بالأحرى، وأصبح تلميذ الثانية ابتدائي يحمل فوق ظهره 10 أو 12 كتابا... والنتيجة التي وصلنا إليها يعرفها الجميع ولا أعتقد أن أحدا ينكرها.
الآن سمعنا من الوزيرة أن توصيات لجنة بن زاغو لم تُطبَّق بشكل صحيح ودور الوزيرة وطاقمها هو إصلاح إصلاحات سابقة على الرغم من أنهم يرفعون اليوم شعار الجيل الثاني مع أن الجيل الأول كان كارثة بحد ذاته.
وهنا يحق لكل جزائري أن يسأل: لماذا بقيت توصيات لجنة بن زاغو مصنفة "سري للغاية" وغير معلنة، ولم يطلع عليها الشعب، حتى ندرك ما إذا تم تطبيق محتوياتها أم لا؟ هل يعقل أن يخفي مصلح منظومة تربوية إصلاحاته؟
ولكن دعنا نفرض جدلا أنه لم يتم تطبيق الإصلاحات بشكل صحيح.
فهل قرأنا مقالا للوزيرة تتحدث فيه عن انهيار مستوى التعليم أيام بن بوزيد؟ هل قدّمت نقدا للمدرسة بعد إصلاحات بن زاغو؟ أم أنها اكتشفت أن الإصلاحات فشلت بعد أن أصبحت وزيرة؟
ثانيا والأهم، عندما يصل وضع التربية والتعليم في بلد إلى الوضع الذي وصل إليه في الجزائر فهل يعتقد وزيرٌ أنه يمكن إصلاح الوضع بقرارات مثل التي تتخذها الوزيرة الآن؟
هل تعتقد الوزيرة فعلاً أنه باستبدال اللغة العربية باللهجة العامية سيرتفع مستوى التعليم؟ قد يقول قائل إن هذا قرار تم التراجع عنه، ولكن الأهمّ أنه مشروع كانت هناك نيّة لتطبيقه ويعتقد بأنه سيرفع مستوى التعليم.
اللافت للانتباه هنا أن مقاربة الوزيرة وطاقمها لمسألة التربية هي مقاربة أنثروبولوجية -لسانية- إيديولوجية محضة.
ذلك أنه لو تأملنا في كل الإجراءات التي تمَّت على أرض الواقع أو التي تم التراجع عنها بسبب الضغط المجتمعي سنجد أنها لم تخرج من هذه الثلاثية؛ فبالإضافة إلى اللهجة العامية كبديل للعربية، كانت التربية الإسلامية في مرمى الوزيرة وطاقمها، حيث كان مقترحا أن تصبح مادة اختيارية في البكالوريا. كما تم تصنيف التربية الإسلامية كعلم اجتماع، أي كتجربة بشرية. وهنا تتضح المقاربة الأنثروبولوجية - الإيديولوجية للوزيرة في معالجة القضايا التربوية. في الحقيقة الكاتب لا يعتقد أن التربية الإسلامية هي مفتاح النهوض بقطاع التربية ولكن نشير لهذه القضية لنوضح الرؤية الأنثروبولوجية - الإيديولوجية للوزيرة وطاقمها اليوم.
كما حرصت الوزيرة وطاقمها على رفع الحجم الساعي والاهتمام بالفرنسية كلغة على حساب العربية والانجليزية؛ فبعد أن أصبحت الفرنسية تُدرَّس في السنة الثانية ابتدائي عقب إصلاحات بن زاغو –الجيل الأول- تمّ الآن رفع الحجم الساعي ومعامل اللغة الفرنسية. كما أن المادة أصبحت مادة اقصائية في مسابقات التوظيف في التربية.
الآن، لو تأمّلنا جيدا سنجد أن إصلاحات الجيل الأول والثاني تكاد تنحصر في أمور لغوية وإيديولوجية: الاهتمام بالفرنسية ومحاصرة العربية، إلغاء شعبة العلوم الإسلامية وتحويل التربية الإسلامية إلى مادة هامشية ومن فروع علم الاجتماع. هذا بالإضافة إلى إدخال "المقاربة بالكفاءات" كطريقة ومنهج تدريس منذ الجيل الأول. ولقد حدث هذا من دون أيّ إعداد أو تكوين للأساتذة والمعلمين أو توفير الأدوات التي تجعله منهجا قابلا للتطبيق، وهو ما أدى إلى كارثة فعلية يشهد عليها المعلم والأستاذ قبل التلميذ والأولياء، بالإضافة إلى كثافة المناهج بشكل عبثي في عصر أصبح شعار التعليم الناجح هو "تعليم أقل... تعلم أكثر" والذي يعتمد على تنمية مهارات التفكير وليس التلقين، أي تقليل حجم المحتوى لإفساح المجال للتفكير.
من المضحكات أيضا في مخرجات الجيل الثاني هو استبدال لفظ "أبي وأمي" بـ"بابا وماما" في الكتب الجديدة، وهو ما يجعلنا فعلا نطرح تساؤلا كبيرا عن طريقة تفكير القائمين على شأن التربية اليوم.. وما إذا كانوا فعلا يعتقدون أن هذا "الإنجاز" سيرقي بمستوى التحصيل العلمي والتربوي للتلاميذ؟... عدا أن لفظي "بابا وماما" ليسا لفظين عربيين، وإذا كان اللفظان دارجين في مناطق معيّنة فإنهما ليسا كذلك في أغلبها. وهنا نترك للقارئ قراءة مقاربة هؤلاء لقضايا التربية.
إنه لمن المحزن أن تضيع بوصلة هذه الأمة بهذا الشكل وتصبح المدرسة مجرَّد مخبر أنثروبولوجي –لسانياتي- إيديولوجي يأمل كل طرف أن يُخرج عبره جيلا مصبوغا بإيديولوجيته الخاصة. والأخطر أن يخفي من يدّعي الإصلاحات إصلاحاته، وهو أمرٌ لا يحدث في أيِّ دولة في العالم. إن هذه الرؤية والمقاربة لا يمكن أن تؤدي إلى رفع مستوى التعليم في شيء، فلن تحلّ إشكالية الاكتظاظ ولا إشكالية مستوى كثير أو أغلب المعلمين والأساتذة المنهار اليوم والذين لم تُتح لهم فرصة التكوين الجيد في جامعاتنا. هذه الجامعات التي أصبحت بحاجة إلى إصلاح عميق أيضا، ولن تحلّ إشكالية دروس الدعم المتفشية، ولن تحلّ قضية انعدام الضمير المهني ولا تفشي العنف واللامسئولية... إلخ. ومن المفارقات أن يعتقد القائمون على شأن التربية بأن عشرة أيام كفيلة بإعداد أساتذة ومعلمين جدد وسد الثغرات في تكوينهم!
إن الأمم التي نهضت بتعليمها لم تقم بإعداد إصلاحات سرا، بل كان المجتمع شريكا أساسيا فيها وقائدها، كرّست للإصلاح إمكانيات الدولة ومرت بمراحل شفافة كان بدايتها أولا: وقفة مصارحة مع الأمة؛ وثانيا: دراسة الموقف دراسة شاملة؛ ثالثا: فتح نقاش مجتمعي؛ رابعا: تجميع الخبرات وتجارب الأمم الأخرى؛ خامسا: وضع رؤية شاملة؛ سادسا: وضع خطة عمل بمراحل (وقف النزيف، ضخ دماء جديدة عاجلة، تكوين النخبة... إلخ)، سابعا: لا يمكن إصلاح المدرسة من دون إصلاح الجامعة، لأن هذا سيكون مجرد دوران في حلقة مفرغة.
أما الاعتقاد بأن الخبراء الأجانب -وخاصة الفرنسيين منهم- سينهضون بتعليمنا وتربيتنا فهو كمن يعتقد أن السجان سيعطي مفاتيح السجن للمسجون! أليست التربية والتعليم هي بمثابة مفاتيح السجن الذي نعيش فيه؟. اهـ.
-------------------------
* منقول من صحيفة "الشروق اليومي" الجزائرية المؤرخة في 05-09-2016م.
*****
وإنا لله وإنا إليه راجعون