(( .. إنّ من المسلَّم بداهةً ؛ أنّ الوالد لا يهنأ له بالٌ حتى يرى أبناءه في غاية السعادة ، وإنّ ممّا يصعب تصوّره أن يكون الوالد سبباً في شقاء أبنائه وتعاستهم ، ولكنّ هذا يحدث عندما يتبخّر حنان الأبوّة من ذلك القلب ، وتحلّ القسوة بدلاً عنه، أو حين يفقد الإحساس ويخيّم الجهل على حياته ، وتضرب الغشاوة على عينيه فلا يعود يميّز شيئاً ، وحينئذٍ فإنَّ كلَّ ما يحدث إنّما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ وردّة فعلٍ متوقعةٍ ؛ وعلى اختلاف النتائج والآثار فإنّ مؤدّاها واحدٌ في الأصل ؛ وسببها يدور حول شيءٍ واحدٍ هو : قسوة الآباء وبعدهم عن مراقبة الله جلّ وعلا ؛ وخوفِ عقابه .
واستمع بنفسك لما تقول صاحبة المأساة؛ حتى تتصور عظم المصيبة؛ وإلى أي مدى وصلت .
فتاة تصرخ: "والدنا حكم علينا بالعنوسة والتعاسة"؛ وتروي قصتها فتقول: "نحن أربع بنات مستوى عائلتنا متوسط ومستورون؛ ومشكلتنا-ومع الأسف الشديد- في والدنا؛ فهو من النوع الذي يعشق المظاهر، وحكمه على البشر يرتكز في الأساس على الناحية المادية البحتة، فالرجل في نظره هو صاحب الجيوب المليئة بالنقود، وليس من يتمتع بأخلاق كريمة عالية من شرف؛ وشهامة؛ وثقافة؛ ورجولة؛ وهذه هي الطامة الكبرى التي حطمت حياتي أنا وأخواتي.
كنا نحن البنات الأربع قمة في الهدوء والنظام والاجتهاد في المدرسة، كانت أمي حريصة كل الحرص على معرفة صديقاتنا والتقرب منهن؛ خوفاً علينا وعلى سلوكيّاتنا؛ وأنهيت أنا وأخواتي دراستنا الجامعية؛ ووفقنا الله في أن نتولى وظائف محترمة في سلك التدريس، وبدأت المشاكل عندما تقدم لخطبتي أخٌ لإحدى صديقاتي؛ وكان شاباً يتمتع بأخلاق عالية، وقد تقدم لخطبتي سبعَ مرات؛ وفي كل مرة كان والدي يرفض زواجي منه لأنه من عائلة عادية؛ ولا يملك أموالاً وشركات وأملاكاً، وحاولت والدتي مساعدتي وإقناع والدي؛ ولكنها لم تفلح وأصرَّ هو على رفضه، وذهب هذا الشاب وتزوج من أخرى . بعدها تقدم شابٌ آخر يعمل في سلك التدريس؛ ومن أسرة طيبة وكريمة لكن ليس له مورد مادي سوى الراتب، وهو يملك السمعة الطيبة والأخلاق الكريمة والسيرة الحميدة، وأيضاً رفضه والدي لأنه فقير؛ ولا يملك المال والجاه؛ وبالأصح لأنه ليس بصاحب مظهر كذاب؛ مدعياً والدي بأن هذا الرجل لن يسعدني؛ وليس بمقدوره ضمان حياة عالية المستوى، وأيضاً ذهب هذا الشاب وتزوج بأخرى .
وفي كل مرة يتقدم لخطبتي شخص يرده والدي لأنه ليس بغني ولا يملك الثروة والجاه، مع العلم أن حالتنا متوسطة ولسنا أغنياء، وكل شخص يتقدم لخطبتي يحكم عليه من المرة الأولى بالفقر وأنه لن يسعدني، وأيضاً قاسى أخواتي الثلاثة نفس المعاناة؛ وشربن من نفس الكأس التي شربت منها، والحقيقة أننا لم نستطع الوقوف والصمود أمام تحكم والدنا؛ وصرنا نعاني من الألم والحزن بعدما أصبحنا عوانسَ نتحسر على الأزواج والأطفال والحياة الأسرية .
فأصبح عمري تسعة وثلاثين؛ وأختي في الثامنة والثلاثين؛ والتي تليها في السادسة والثلاثين، والصغرى بلغت الخامسة والثلاثين .
نعم؛ أصبحنا عوانسَ أمام الجميع؛ وأمام أنفسنا، فقد تقدم بنا العمر؛ وفاتنا قطار الزواج، وجاوزنا العمر المناسب للزواج؛ وها نحن نعيش مع والدنا وأمامه بكل حزن وألم ولوعة، نعيش الحرمان والأسى؛ وكل واحدة منا تبكي حظها العاثر، فكل صديقاتنا يعشْنَ حياة زوجية في ظل أسرة سعيدةٍ وأبناء؛ وبنات؛ وزوج؛ ونحن نعيش الألم والعنوسة، والجميع يقول عنا عوانس؛ لا أزواج ولا أبناء؛ لأن والدنا حكم علينا هذا الحكم القاسي، فلا زواج إلا من رجل غني يملك فيلا وشركات؛ وغير ذلك .
هل تصدقون إذا قلت لكم إنه تمر علينا ليالٍ طويلة؛ وأنا وأخواتي نتحسر على أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا؛ ونتمنى أن أطفالنا بين أيدينا؛ نرضعهم؛ ونربيهم؛ ونحضنهم بحبنا وعطفنا .
مشكلتنا هذه جعلتنا نفتقر لعامل الاستقرار؛ وأصبحنا ندلل على أنفسنا بين الخاطبات؛ لعلهن يجدْنَ لنا من تتوفر فيه الشروط التي يريدها والدي؛ وأيضاً كل هذه المحاولات باءت بالفشل؛ وأصبحت الحياة لا لذة لها ولا قيمة؛ وساعاتنا كلها سوداء خالية من البهجة والأمل والفرح .
يكفي أن أقول لكم أننا فعلاً محرومات من عاطفة الأمومة؛ ومحرومات من دفء كنف الأزواج، ونهايتنا ستكون التشتت والضياع، ووالدي لا يزال مصرّاً على آرائه وأفكاره وتحكمه؛ فهو لا يدرك نهايتنا ومصيرنا في المستقبل؛ فأخبرونا ماذا نفعل بالله عليكم؟" .
فهذه مأساة واحدة من بين مئات المآسي؛ وتصوير دقيق لمعاناة بعض الفتيات؛ أرسى دعائمها بعض الآباء؛ بل والمصيبة العظمى أن بعض الآباء قد دفع بابنته - من حيث لا يشعر- نحو الخطأ؛ بسبب رفضه الدائم لتزويجها؛ وتلبية نداء الفطرة الذي يتحرك في داخلها ويصرخ في أعماقها .
قالت إحدى الفتيات :
" كنا مجموعة من الفتيات على استقامة وخلق، وبسبب رفض آبائنا المستمر لمن يتقدم لطلب الزواج منا بحجج واهية؛ فقد انحرف جميع صديقاتي؛ وأصبحن من أهل الهواتف والمواعيد؛ لأن آباءهن رفضوا تحصينهن بالزواج الشرعي؛ وكم من واحدة منهن تقول لي ماذا تنتظرين؛ وتجدد لي الدعوة بين حين وآخر، وأنا لم أزل أقاوم؛ ويعلم الله كم أعاني في سبيل القبض على ديني ؛ ولكني أخشى ألاّ يدوم هذا طويلاً؛ وأنجرف كما انجرف صاحباتي اللاتي كلما عاتبت واحدة منهن على انحرافها تقول: والدي هو السبب " .
وأخرى فاتها قطار الزواج، وأصبحت في عداد العوانس، تقول في قصتها:
" إنني أعاني أشد المعاناة؛ وأعيش أقسى أيام حياتي، ذبحني والدي بغير سكين، ذبحني يوم حرمني من الأمان والاستقرار والزواج والبيت الهادئ؛ بسبب دريهمات يتقاضاها من مرتبي آخر الشهر، يقتطعها من جهدي وتعبي وكدي .
أخذ الشيطان بيدي إلى الرذيلة وساقني إلى الشر، فأخذْتُ أعاكس وأتكلم مع الشباب والرجال في الهاتف، حتى أصبحت سمعتي في الحضيض؛ بسبب رفض أبي لزواجي " .
لا تستغرب! فإن مثل هذه الواقعة كثير؛ وهو منظر يتكرر كل يوم؛ ولا شك أن من أعظم ما جرّ النساء إلى الفواحش والزنا ومنكرات الأخلاق؛ هو جلوسهن من غير زواج، ولو تزوجن لأحصَنَّ أنفسهن وأزواجهن؛ واستعففْن في بيوتهن.
وإن في ذلك لعبرة لمن أراد الحفاظ على عرضه وصون محارمه، لأن حالة الضعف طارئة على الإنسان؛ ولربما في حالة ضعف يحدث من هذه المرأة ما لا يُتوقع حدوثه، وصدق النبي الكريم حيث قال: « إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» .
ولقد تنوعت الدوافع والأسباب لدى هؤلاء الآباء في تحجيرهم على بناتهم؛ وإرغامهن على الجلوس دون زواج؛ فبعضهم يدفعه لذلك الطمع براتب ابنته الموظفة؛ فلا يريد أن يزوجها مخافة أن يفلس مما تدرّه عليه من مبالغ طائلة نهاية كل شهر؛ وكأنه بذلك يريد أن يأخذ أجْر أبوته وتربيته لها؛ فيا للأسف؛ ويا لموت المروءة والشيم عند بعض الناس.
فترى السنين تمر بها؛ والأعوام تطوى؛ وكلما تقدم لها رجل؛ قال: إنها لا تريد الزواج؛ وراح يعلل بأعذار واهية؛ وتلفيقات كاذبة؛ حتى يصرف الخطاب عنها .
أحدهم لما عوتب على عدم تزويج ابنته الموظفة؛ قال: أُزوّج فلانة؛ تريدون أن أموت من الجوع؟!
وبعضهم ينفر الخطاب عنها؛ لأنه يريد أن يبيعها بمبلغ خيالي يسميه مخادعة بالمهر .
ومن الطّوام العظيمة؛ تمسك بعض الناس بالعادات القبلية البائدة؛ والأعراف الظالمة؛ التي لا يقرها الشرع؛ ولا يقبلها العقل؛ وذلك أن بعض الناس لا يزوج ابنته إلا برجل من قبيلته؛ وتعظم المصيبة إذا كان هذا الرجل من رؤوس القبيلة؛ فإنه لا يخرجها إلا لخواص بني عمومته؛ وإذا أعرض عنها أبناءُ العمومة؛ فإنها تجلس دون زواج؛ ويتعلل بأنّ هذا هو قدرها.
والمصيبة أن بعض هؤلاء يذهب ليتزوج من جميع القبائل؛ والمرأة يحرم عليها أن تخرج؛ ليس للقبائل الأخرى؛ بل حتى لأبناء قبيلتها؛ بل حتى لأبناء فَخِذِها.
وعلى هذا؛ فتأمل بأعين الحزن نساءً مُتْنَ ولم يتزوجن؛ ولا أبالغ؛ فإن هذا حدث؛ ونساءً تخطين الشباب إلى الشيخوخة ولم يتزوجن؛ ولا زال الوالد - صاحب الدم المقدس- على طريقته وأعرافه وعادات القبيلة .
فيا هذا: نحن نخاطبك بالعقل؛ ونقول: لا تزوّج أبناء القبائل الأخرى؛ لكن زوج أبناء قبيلتك؛ أو زوج من يدانيك في المنـزلة التي تزعمها لنفسك؛ وإن كان من قبيلة أخرى؛ واستر عورتك؛ فإن المرأة عورة؛ قال بعض السلف: "من تزوجت ابنته؛ فإنما هي عورة سترت؛ ومؤنة كفيت" .
ومن المحزن أن تجد أحياناً في البيت الواحد أكثر من ضحية على هذه الحال؛ وكل هذا لا يهم؛ المهم أن لا يطرأ على العائلة أيّ تغيـير يقدح بالنظام الذي سارت عليه ردحاً من الزمان؛ فأين الأمانة أيها الآباء؟!
استمعوا إلى أنين الحيارى؛ وشكاوى الأيامى؛ وتحسسوها بقلوبكم وعقولكم؛ فلربما هي لم تفصح؛ ولكن أنت ألا تحس؟!
استمع إليها تخاطبك:
أبي كنتُ يوماً أعيش الحنــان
وأحمل حُلمـاً بقلـبي الصغيـرْ
أقوم أناجـي طيـور الصبــاح
وأغفـو طويـلاً بحُلمٍ كبيــرْ
كبـرتُ وتاهـت بيَ الأمنيـات
وأبصرتُ عمـري أمامـي يطيرْ
ظمئتُ فلـم ألقَ غيـر السـراب
وتهتُ ولـم أدر أيـن المسيــرْ
لقد كنـت أحلُـم مثل البنـات
ببيتٍ سعيدٍ وطفـلٍ صغيـــرْ
فأغمر طفلـي بفيـض حنـاني
وترفل بنـتي بثـوبٍ حـريـرْ
أبي..قد ركبتُ بحـورَ الأمــاني
فعدتُ بجرحٍ وقلـبٍ كسيــرْ
سجنتَ فؤادي بحصـنٍ منيــعٍ
وقطّعتَ دوني جميــعَ الجسـورْ
إذا جاء شخصٌ يريـد عفافـي
تهيـجُ جنـوناً وتُبـدي النفـورْ
فهذا كبيــرٌ وذاك صغيــرٌ
وهـذا طـويلٌ وذاك قصيــرْ
فأعرَضَ عني الرجـالُ وصارت
حياتي شقـاءً وسـاء المصيـرْ
أتوق لكلْمةِ "مـامـا" كما قدْ
تشوّقَ للضـوءِ شخصٌ ضـريرْ
وزوجٍ يؤانس وحشـةَ روحي
ألستَ تحـسُّ بهذا الشعــورْ؟!
أبي قد ذبُلـتُ وضاع شبابي
ولا زلتَ تلهـو بكـل سـرورْ
كأنك ما قـد ظلمـتَ فتـاةً
تئن وتبكـي لسـوء الأمــورْ
فماذا عسى أن تقـولَ إذا مـا
بُعثتَ إلى الله يـوم النشــورْ ؟
أئنُّ وأشكـو إلى الله حـالـي
فنعم المعـينُ ونعم النصيـــرْ ..))
جزع من خطبة بعنوان "السجينة" للشيخ سالم العجمي
المصدر
المقطع الصوتي [mp3]