كان البرد يزيد من قساوته عندما مررت بشارع ، وفجأة رأيت طفلا في الثاثة عشر من عمره تقريبا ، يسرق قطعة حلوى من أحد المتاجر ويفر هاربا .
راقبته من بعيد وهو ينزوي بركن يجلس بها على حافة الرصيف ، يلتهما بسرعة فائقة .
عندما انتهى مسح فاه بكمّ قميصه المهترئ .
اقتربت منه فهمّ هاربا ، قلت : انتظر.....لا تخف.....أنا ملك..... مااسمك ؟
استدار نحوي وكانت بقايا الحلوى لا تزال عالقة بطرف خدّه الأيسر بجانب فمه الصغير .
قدمت له منديلي قائلة : .....هلاّ مسحت .
أشاح بوجهه عني ، مددت يدي وأدرت وجهه نحوي وقمت بمسح خدّه قائلة : لم تخبرني عن اسمك .
رمقني بنظرات يملأها البؤس والأسى ثم طأطأ رأسه قائلا : .....أحمد.....لما تسألين ؟
وبعدما أحسست بأنه بدأ يثق بي اقتربت أكثرنحوه وأجبت : لأتعرف عليك وأعرف منك لما أخذت تلك القطعة من الحلوى وفررت .
كانت قدماه الصغيرتان ترتديان حذاءا بلاستيكيا لا يكاد يغطيهما أو يحميهما برد الشتاء القارس .
فأخذت قدم رجله اليمنى تحتك بالأرض في حركة مستقيمة ذهابا وإيابا ، وهو يقول : ماأدراكم أنتم..... كم مرّة أكلت وكم مرّة جعت .
وجهت وجهي للأرض وقلدت فعلته وتركت رجلي تروح وتجيء أحك بقدمي الأرض .
لكن الجواب على سؤاله تبخر، ولم أجد سوى كلمة صدقت .....وأردفت : بالفعل كلما كبرت ذنوبنا جئناكم لنتمسح ببراءتكم وطهر أنفسكم ، علنا نزيل بعضا منها وإذا مسحنا على رؤوسكم لم يكن إلاّ طمعا في نيل الأجر بكم لا إحساسا بمشاعركم
قاطع أحمد حديثي بمسك يدي وهو يسير بي مسرعا نحو طريق منحدر قائلا :تعالي معي لأريك لما سرقت .
لم أشعر بمرور الوقت حتى وصلنا إلى مكان أو بالأحرى شبه مكان تنبعث منه كل أنواع الروائح غير المستحبة حيث تختلط مياه الصرف الصحي مع الطين لتكون مزيجا غريبا ، مع تلك الأكواخ المتلاصقة ببعضها البعض أسقفها وجدرانها من ألواح وقصدير .
قطع ذهولي صوت أحمد قائلا : هذا بيتنا وهؤلاء إخوتي ، هيا ادخلي أمّي بالداخل .
منظر إخوته الثلاثة وهم ملتصقين بشبه جدار كمنظر الاّجئين في مخيمات اللّجوء ، تلونت وجوههم بزرقة ممزوجة بخضرة من شدة برد ذلك المكان ..عفوا..شبه مكان وفيما كنت أبحث عن قطعة يابسة أضع عليها قدمي لأتقدم قليلا نحو الكوخ ، إذ بصوت يحذرني ويرشدني : ضعي رجلك على هذه القطعة الحديدية حتى لا تنغرس في الوحل .
كان هذا صوت الأخ الأصغر لأحمد لا يتعدى عمره العاشرة .
انتبهت ووضعت قدمي في المكان المناسب ورفعت رأسي بعدما رفع أحمد ستارا سدل على مدخل الكوخ .
فاجأني منظر امرأة في مقتبل العمر تجمع أيديها وأرجلها وتحرك جسمها في حركة اهتزازية بطيئة تنزوي بركن كوخها ، تعيش ماضيها ، لم تشعل أي نوع من النيران لا نار غيرة ولا نارطبخ ولا ناردفئ ولا نارحرق لأنها بكل بساطة لا تجد سببا لذلك ، وحتى ان حاولت فستطفئها همّومها ، التي أردتها كقطعة ثلج باردة لا تكاد أنفاسها تخرج من أعماقها ، فلا هي مع الأموات كانت ولا إلى الأحياء انتسبت .
سلمت.....فردت بحركة من رأسها..... ثمّ عادت وغرقت في صمتها الرهيب وأغرقني صمتها في صمت آخر ، وتحدث الصمت للصمت بعدد سنين عمرها .
ولم أجد نفسي إلاّ وأنا عائدة أدراجي أحمل بأعماقي حسراتي ، ولم أجد ما أقوله سوى أنّي احتسبت ويا ليتني ما اقتربت .
لكنّي بعدها تراجعت و قلت في نفسي لولا اقترابي ما كنت عرفت .
وفي الغد عدت علنّي أساعد بشيء، أخذت معي بعض ما رزقني الله ، ودخلت به على هذه العائلة ، وأخذت معلوماتهم الشخصية وقمت بتسجيلهم ببلدية حيّهم وبجمعية خيرية ترعى اليتامى وتتكفل بهم .
ولم أنسى الحلوى التي صنعتها بيداي خصيصا لأحمد وإخوته .
ب_______خ_______ي_______ا_______ل
م___________ل_____________ك